زوربا….مرة أخرى
زينة فياض
حبرٌ غزير أسالته أقلام النقّاد والأدباء والكتّاب الكبار على هذه الرواية العابرة للأجيال، لقد مضى على صدورها أكثر من سبعة عقود، ومع ذلك لا ترتوي من كل هذا الحبر الدافق، ما زالت تتعطّش للكتابة عنها، كأن في طياتها فصولا وأحداثا مخبوءة ومخفية، تنتظر نضج الأزمان لتنكشف عن جمالياتها غير المنظورة.
عندما قرأت هذه القصة، وفي أكثر من مكان فيها، كنتُ أغرق في أحاديث زوربا وكلماته، امتنع عن المتابعة، كان المعنى يُمسك بي، ويصعب عليّ مفارقته والذهاب إلى صقحة أخرى من الرواية، لم يكن يسيرا عليّ تقليب صفحاتها، لكن كان ما يشفع، بأني سأقرأها مرة ثانية وثالثة، وأجد في ما يلي من صفحاتها ما يعزيني على تركها.
كانت الذروة، وهناك ذرى عديدة في كلمات وتصرفات زوربا، منها ما سرده على رئيسه قائلا: ” ذات مرّة عندما مات صغيري “ديمتراكي” وقفت هكذا ورقصت، وأسرع الأقارب والأصدقاء الذين كانوا يتطلعون إليّ وأنا أرقص أمام الجثة ليوقفوني، وأخذوا يصرخون: “لقد جنّ زوربا! جنّ زوربا!” لكنني أنا في تلك اللحظة لو لم أرقص لجننت من الألم!”
لقد هالني ما فعله زوربا، لقد فرض عليّ إعادة النظر، أقلّه بين الحزن والجمال، وبين الموت والرقض، كان لي بمثابة دعوة لترتيب للأشياء من جديد، ليس هناك قطيعة بينها، وسلوك النفوس ولو كانت غير متوقعة هي صائبة، مع هذا المشهد من “زوربا”، صار لديّ نظّارتين مكبرتين، لا تفوتني بهما رؤية أدنى التفاصيل وأدقها.
شيء مما فعله زوربا يحدث على وجوه أخرى في قرانا وبلداتنا عند موت الأعزة علينا، فأشد المآتم حزنا، تتداخل فيها صور الأعراس، نراها في إرقاص التوابيت أو الزغردات، أو عندما تسكر النسوة بالحزن فيتمايلن بأجسادهن ويتراقصن باثواب ومقتنيات موتاهن.
ليس في هذا فقط، ارصد زوربا بيننا، معظم أحداث الرواية يمكن إعادة نسخها بلغتنا وعاداتنا وتقاليدنا، ومسرحتها في يومياتنا، وهذا ما يثير فضولي لتكرار قراءتها.
ولمن فاتته قراءة هذه القصة، هي باختصار للكاتب والفيلسوف اليوناني نيكوس كازانتزاكيس ( 1883- 1957)، وتجري احداثها في جزيرة كريت اليونانية وتجمع بين نقيضين، الأول هو الرئيس (كما يناديه زوربا) شاب ثلاثيني مثقف غارق في الكتب وزوربا رجل فقير أمي لم ينل من العلم شيئاً فعلّمته الحياة. بالرغم من التناقض بين الشخصيتين، تقوم بينهما صداقة قوية تتخطى حدود العمل. يعيش زوربا بتلقائية وعفوية يفتقر لها ويبحث عنها الرئيس بين السطور والكتب فلا يجدها فيصف زوربا بأنه «هذا الانسان الذي بحثت عنه زمناً طويلاً، إنه قلب نابض بالحياة ونفس عظيمة بريئة، لم ينقطع الحبل السري بينها وبين أمها الارض». بينما يسخر زوربا من تلك كتب الرئيس فيقول: كتبك تلك أبصق عليها، فليس كل ما هو موجود، موجود في كتبك.
لا أضيف جديدا، إذا أعدت ما ورد في الرواية، إنما سأذهب إلى مكان مختلف في قراءتها، ولعل كازانتراكيس هو الذي يحضنا عليه، ليس في الكتب كل شيء، أو الكتاب الاثمن لدينا ليس بالضرورة أن يكون على رفوف المكتبات، ولا بالضرورة أيضا أن يكون من ورق وأحرف مصفوفة، بل هو في ما كنا لا نتوقعه، ولا نقيم وزنا له، نعتبره فائضا في حياتنا، ليس لديه أية أجوبة عن أسئلتنا وتساؤلاتنا.
بطل رواية زوربا، هو في نشأته الأولى ليس من لحم ودم، لم يولد من رحم امرأة، إنما من رحم أسئلة كان تؤرق كازانتراكيس، هذه الأسئلة هي التي مكّنت زوربا من التربع على مسرح الحقيقة، وإلّا لظل حقيقة مجهولة لا علم لنا بها،
قد يكون أهم ما في هذه الرواية بنظري، هو إحياء اسئلتنا، إعادة الاعتبار لها، والإيمان بأن زوربا ليس لليونانيين وحدهم، إنما هناك زوربا عربي أو لبناني او جنوبي أو بقاعي أو ساحلي أو جبلي، موجود بيننا فلنقترب منه، ونسأله ونسمعه ونراقبه، فليكن.