أحلامٌ كسرتها الحرب
من الصعب توصيف الحرب التي نعيشها وتشبيهها بأيّ شيء، فكلّ توصيفٍ أو تشبيه مهما بلغ، سيبقى قاصرًا عن بلوغ هول المأساة وتداعياتها، والتي كبّدت اللبنانيّين خسائر فادحة على جميع الصعد، من النواحي البشريّة والاقتصاديّة والنفسيّة.
ربّما تساوي الخسائر غير المباشرة الخسائر المباشرة في أحيان كثيرة، وهي لا تعدّ ولا تحصى وتتنوّع بين أحلام ومشاريع، بعضها ذاتيّ خاص وحميم ليس له ثمن، وبعضه كلّف شقاء عمر وتعب ليالي، ذهب في لحظة، مع سقوط مبنى، أو عند خراب محل، أو تدمير مصنع أو زوال مشروع أو إلغاء حفل زفاف، أو نهاية حلم بالدراسة.
حلم المتجر المفقود
تاريخ الـ 26 من أيلول (سبتمبر) الماضي، كان النهار المحدّد لافتتاح متجر الألبسة الأوّل لإيمان في الضاحية الجنوبيّة لبيروت. لقد كان حلمها منذ أيّام المراهقة. تقول: “أنا مهووسة بالموضة والثياب من زمان”. كان لهذا المشروع أن ينتظر قليلاً لكّن وفاة والد إيمان سرّع في الأمر، فأصبحت هي المسؤولة عن والدتها وشقيقها الأصغر.
كلّ التحضيرات كانت جاهزة، هي والأصدقاء بانتظار موعد الإفتتاح، لكن وفي أثناء وضع اللمسات الأخيرة لتلك المناسبة وإضافة بعض من باقات الزهور هنا وهناك، بدأوا يسمعون أصوات انفجارات في كلّ مكان، ليتبيّن لاحقًا أنّها عمليّة أجهزة “البايجرز” المشؤومة، التي أوقعت إصابات عديدة في مختلف مناطق الضاحية وجميع المناطق اللبنانيّة. لم تحدّ تلك الحادثة من عزيمة إيمان، فهي أصبحت أكثر قناعةً من قبل بخوض تلك التجربة، وزادتها إصرارًا على البقاء في أرضها والاستثمار فيها.
ربّما تساوي الخسائر غير المباشرة الخسائر المباشرة في أحيان كثيرة، وهي لا تعدّ ولا تحصى وتتنوّع بين أحلام ومشاريع، بعضها ذاتيّ خاص وحميم ليس له ثمن، وبعضه كلّف شقاء عمر وتعب ليالي، ذهب في لحظة
“لكن في غالب الأحيان تكون الأمور خارج إرادتنا ومن الصعب التحكّم بها، فأنا الآن نازحة مع عائلتي بعد أن دُمرّ منزلنا والمكان الذي استأجرته، فخسرت بيتي ومنطقتي وحلمي”. تقول إيمان.
حلم التخرّج البعيد
“كان بعد عندي فصل واحد وبتخرّج من الجامعة، الآن راح كل شي”. هكذا اختصر أشرف قصّته بجملة واحدة. نزح أشرف من الضاحية الجنوبيّة لبيروت بعد أن تمّ إرسال تحذير بإخلاء المنطقة التي يقطنها مع عائلته. كان أشرف يخطّط للتخرّج في هذا الفصل، بعد سنوات من العمل الشاق والجهد المتواصل. حلمه كان قريبًا، وكان يحضّر لتلك اللحظة بكلّ فخرٍ واعتزاز. لكن توسّع الحرب بشكلٍ مفاجئ ومسألة النزوح شكّلا عائقًا له.
أُجبرَ أشرف على التوقّف عن الدراسة بسبب الأوضاع الراهنة والعيش في ظروفٍ صعبةٍ، وأيضًا بسبب إقفال الجامعات في لبنان. ابتعد أشرف عن منطقته ومعها ابتعد حلمه، لكن على الرغم من التحديات، زاد إصراره على إكمال دراسته وتحقيق حلمه بالتخرّج، فبالنسبة له التمسّك بالطموحات وخصوصًا البقاء في لبنان، هو ضروريّ بالنسبة إليه، كَونه الشيء الوحيد المتبقّي للصمود في أرضه والبقاء برفقة أهله.
من حلم الزفاف للبحث عن أمان
“حلمي مثل كثير من الفتيات، أنّ أتزوّج وأرتدي الفستان الأبيض وتأسيس عائلة”. زهراء نازحة من البقاع، كانت تحضّر بشغف لحفل زفافها، وعلى رغم الحرب المستمرّة منذ أكثر من عام، كانت زهراء تنوي أن تكون هذه المناسبة بمثابة هروب من الواقع الأليم وإدخال بعض من الفرح إلى حياتها وحياة أهلها.
اختارت زهراء فستانها الأبيض المميّز الذي يشبهها، أشرفت على تنسيق الديكورات وتناسق الألوان بدقّة. كانت تعيش حلمها بالزواج من حبيبها، لكن قساوة الحرب أعاقت هذا الزفاف والحلم تحوّل إلى كابوس، بسبب الخوف والقلق اضطرّت زهراء وعائلتها إلى الخروج من منزلهم بحثاً عن مكانٍ آمنٍ يلجأون إليه. غادرت البيت تاركةً خلفها حياتها وذكرياتها وأملها في الحياة.
أضحت أقصى اهتماماتها وطموحها ديمومة الأمان لأسرتها، مؤجّلةً حلمها بالزواج وقضاء بقيّة حياتها إلى جانب من تحبّ. إنّ محاولة التأقلم ومواجهة الظروف القاسية أصبحا أولوية بالنسبة لها. ولكن على الرغم من كلّ تلك المعاناة يبقى حلم زهراء في حفل الزفاف راسخًا في عقلها وقلبها ولا تريد الاستسلام، متمنّيةً في الختام أن تعود الأمور كما كانت عليه في السابق.
حلم المطعم المكسور
كانت نورا تحلم بافتتاح مطعمها الصغير الخاص بها لتقديم ألذّ الأطباق اليوميّة، تقول: “هذا المشروع بمثابة بداية جديدة وحلم منذ زمن بعيد”. بعدما كانت تجهّز للمكان وتقوم بمراجعة قائمة الطعام التي أعّدت للمرة الأخيرة، اضطرت إلى النزوح من الضاحية الجنوبيّة لبيروت بسبب قساوة الحرب والأوضاع المتدهورة.
كانت نورا تحلم بافتتاح مطعمها الصغير الخاص بها لتقديم ألذّ الأطباق اليوميّة. بعدما كانت تجهّز للمكان وتقوم بمراجعة قائمة الطعام، اضطرت إلى النزوح من الضاحية الجنوبيّة لبيروت بسبب قساوة الحرب والأوضاع المتدهورة.
تضيف: “غدرتني وحشيّة الحرب، وقضت على آخر أملٍ كان متبقّيًا لي، تغيّرت كلّ الخطط والمشاريع بدقائقٍ قليلة، بعد تهديدٍ بالإخلاء تلاه قصفٌ للمبنى الذي أقطنه. دُمّر منزلها وانهار معه حلمها، وأصبحت فكرة المطعم بعيدة جدًّا بل مستحيلة. تحوّلت نورا من فتاةٍ تبحث عن بدايةٍ جديدةٍ إلى نازحة تبحث عن مأوى أو حياةٍ جديدةٍ.
لكن على رغم كلّ شيء، لا تزال نورا تحتفظ بالأمل في قلبها. تشعر أنّ الحلم لم ينتهِ بعد، بل إنّه مؤجل فقط إلى أن يحين الوقت الذي تستطيع فيه العودة وتحقيقه مجددًا.
أحلام لا تموت
تُظهر قصص هؤلاء الأشخاص كيف أنّ الحرب لا تقتصر على تدمير المدن والمنازل فحسب، بل تمتدّ آثارها إلى أحلام الأفراد وطموحاتهم التي ربّما تكون قد بدأت للتوّ أو كانت على وشك أن تتحقّق. على رغم الألم والخسائر التي لحقت بهم، فإنّ الأمل لا يزال حيًّا في قلوبهم، بل سيتجدّد مع كلّ تحدٍ سوف يواجهونه. وعلى رغم أنّ الحرب قد تأخذ منّا كثيرًا، تظلّ الأحلام والأماني جزءًا من روح الإنسان، تحمل في طيّاتها طموحاتٍ لم تمحها أيّ قسوة. هؤلاء الأشخاص فقدوا كثيرًا، لكنهم لم يفقدوا إيمانهم في المستقبل، وجلّ أمانيهم أن تأتي الأيّام المقبلة بما يعيد لهم آمالهم، ويحقّقها لتكون بداية جديدة تبدّد قسوة كلّ ما مرّوا به.