أرقام من لحم ودم وزعتر
تتسلّل الأرقام إلى وعينا كالطوفان، تغمر صباحاتنا ومساءاتنا، تطاردنا في شاشات هواتفنا وفي نشرات الأخبار، وفي كلّ زاوية من زوايا حياتنا. نستيقظ على بورصات الموت والأوجاع وإحصائيّات الدمار ونسب النزوح، ونتابع بهوس مؤشّرات أسهمها صعودًا وهبوطًا، فهذه الأرقام المتقلّبة تحمل في طيّاتها مصائرنا، إذ نعيشها، وتعيشنا بشكل لصيق، فلسنا في صالة سينما، نتفرّج ومن ثمّ نغادر كي نمارس حياتنا الروتينيّة. تلك الأرقام هي نحن، بلحمنا ودمعنا وسخطنا وشتائمنا التي يرتفع منسوبها في الحروب المجنونة كتلك التي تصلبنا بنصال شظاياها.
في خضمّ الأزمات والحروب، تتحوّل المآسي الإنسانيّة إلى مجرّد إحصائيّات باردة- أعداد الضحايا، أرقام النازحين، إحصاءات الدمار. يختزل الألم البشريّ في أرقام متتالية، تمرّ علينا في نشرات الأخبار فلا نكاد نستشعر خلفها دموع الأمّهات، وصرخات الأطفال وأنين المكلومين. وهكذا يفقد الوعي الإنسانيّ، شيئًا فشيئًا، قدرته على التعاطف العميق، محاصرًا بسيل من الأرقام، التي تحوّل المأساة إلى مجرّد معادلة حسابيّة.
أرقام لا تثبت على جرح
قبل أيّام قليلة، صرّح وزير الزراعة اللبنانيّ في حكومة تصريف الأعمال عبّاس الحاج حسن قائلًا: “إنّ أعداد النازحين تخطّت مليونًا و400 ألف نتيجة العدوان المتواصل على لبنان”. بينما أفرجت وزارة الصحّة اللبنانيّة عن أرقامها التقريبيّة فنشرَت دراسة تقول: “ارتفعت الحصيلة الإجماليّة لعدد الشهداء والجرحى منذ بدء العدوان الإسرائيليّ على لبنان إلى 2343 شهيدًا والجرحى إلى 14134”.
لكن ما هي إلّا ساعات قليلة حتّى ارتفعت تلك الأرقام مع مجازر جديدة في جبل لبنان وشماله وجنوبه وشرقه. معضلة الرقم أنّه يمحي الوجوه، ويشطب الأسماء عن بطاقات الهويّة، بل يلغي الفوارق بين الأطفال والشيوخ، وما مِن اعتبارات تُذكر للخصوصيّات الجندريّة، وما مِن داعِ لأيّ تصنيفات ذات أبعاد عنصريّة، فالرقم جاف، بارد، محايد، مثل مكعّب معدنيّ أصمّ.
في خضمّ الأزمات والحروب، تتحوّل المآسي الإنسانيّة إلى مجرّد إحصائيّات باردة- أعداد الضحايا، أرقام النازحين، إحصاءات الدمار. يختزل الألم البشريّ في أرقام متتالية.
لقد أصبحنا أسرى لمنظومة رقميّة تختزل الوجود في معادلات وإحصاءات، تسلب من التجربة الإنسانيّة عمقها وروحها، وتحوّل البشر إلى مجرد أرقام في قاعدة بيانات ضخمة. وفي خضم هذا الطوفان الرقميّ، يضيع الإنسان، تائهًا بين الأصفار والآحاد، باحثًا عن معنى يتجاوز منطق الحساب البارد.
وللدمار أرقامه
لكن الرقم ضرورة أيضًا، هو بوّابتنا “العلميّة” على إحصاء خسائرنا بأشكالها، مثل البيوت والمحال ومعالم القرى. فالخسائر العظمى في القرى الأماميّة المحاذية للشريط الحدوديّ، الممتدّة من الناقورة غربًا إلى شبعا شرقًا، تتكثّف في 29 قرية تمّ تدمير نحو 22 قرية من بينها بشكل كلّيّ، مثل عيتا الشعب، يارين، مروحين، كفركلا، العديسة، بينما هناك ما يقارب الثلاثين ألف بيت مدمَّر على مساحة تتجاوز الـ 300 كيلومتر مربّع.
بحسب الشركة الدوليّة للمعلومات: “إنّ كلفة إعادة الإعمار لكلّ وحدة سكنيّة مدمّرة كلّيًّا هي 75 ألف دولار، و25 ألف دولار للوحدة المدمّرة جزئيًّا، وخمسة آلاف دولار للمنزل الذي أصابته أضرار بسيطة، فيكون مجموع كلفة إعادة إعمار المنازل نحو أربعة مليارات و250 مليون دولار”، و”التقديرات تعتبر أوّلية لأنّ ثمّة بيوتًا في ميس الجبل أو الخيام أو مركبا أو حولا أو يارون، تُقدّر قيمة البيت الواحد منها بمليون دولار مثلًا، لذا كان اعتماده على متوّسط الكلفة”.
600 منقوشة من فرن واحد
في قلب بيروت المثقلة بأحزان النازحين، تتحوّل الأرقام من مجرّد إحصائيّات إلى قصص إنسانيّة نابضة بالألم والأمل معًا. فحين نقول “1200 شخص” في مركز النزوح، لا نتحدّث عن رقم مجرّد، بل عن 1200 قصّة فرديّة، عن 1200 حياة انقلبت رأسًا على عقب، عن 1200 حلم تعلّق في الهواء. كلّ رقم من هذه الأرقام هو أمّ تحاول أن تخفي دموعها عن أطفالها، أو طفل يسأل بعينين بريئتين متى سيعود إلى غرفته وألعابه، أو مسنّ يحمل في قلبه صور بيته القديم وذكرياته.
وحين يتحدّث صاحب الفرن عن تجهيز 600 منقوشة، فهو لا يتحدّث عن أرقام إنتاج وحسب، بل عن 600 لحظة إنسانيّة- لحظة يلتقي فيها الجوع بالكرامة، واليأس بالأمل. كلّ منقوشة هي محاولة لإعادة شيء من طعم الحياة الطبيعيّة لمن فقدوا كلّ شيء. وفي تفاصيل توزيع المخدّات والطناجر وأباريق الشاي، نرى محاولة يائسة لإعادة تشكيل ملامح البيت المفقود، لخلق إحساس ولو بسيط بالألفة والاستقرار في خضمّ الفوضى والتشرّد.
تتتالى الأرقام
في مراكز الصحّة والتربية، تتحوّل الأرقام إلى تحدّيات يوميّة- كم طفل سيتعثّر في عامه الدراسيّ، وكم مريضًا يحتاج إلى دواء مزمن؟ كم عائلة تحتاج إلى رعاية نفسيّة لتجاوز صدمة النزوح؟ هنا تتجلّى المأساة في أبعادها المتعدّدة- ليست مجرّد أزمة إيواء وطعام، بل هي أزمة إنسانيّة شاملة تمسّ كلّ جوانب الحياة. عشرات الحاجات اليوميّة- تشكّل معًا لوحة مؤلمة لواقع إنسانيّ مرير. لكنّها في الوقت نفسه تشهد على قدرة الإنسان على التضامن والتكافل في أحلك الظروف. فخلف كلّ رقم من هذه الأرقام، هناك أياد تمتدّ للمساعدة، وقلوب تنبض بالعطاء، ومحاولات دؤوبة لإعادة بناء ما تهدّم من حياة الناس. هذه الأسئلة تتجاوز منطق الأرقام والإحصاءات، لتمسّ جوهر إنسانيّتنا المشتركة.
15 ألف كتاب
منذ أيّام قليلة، كتب الروائيّ والقاص عبد المجيد زراقط على حسابه الأزرق: “أُرسل لي صورة مربَّعات ومستطيلات سود، في وسطها مستطيل صغير أحمر، وكتب تحتها: بنايتك؟ كتبت له: يبدو أنَّها هي. ثم أرسل صورة ركام، وكتب تحته: هي؟” هي” ليست بنايتي، لي شقَّةٌ فيها، في الطابق السابع. فيها ما في الشقق السكنيَّة، في بلادي، من فضاء عيش عمر الحبِّ والتعب والإنجازات والخيبات، درج فيه الأبناء، وكبروا ورفرفوا إلى بيوتهم يحيون في فضاءاتهم”.
ويضيف: “وفيها مكتبتي، تحتوي مكتبتي على ما يزيد على خمسة عشر ألف كتاب، كثير منها الاَن مفقود. وفيها مخطوطات نادرة الوجود، وأرشيف كبير كبير، تتنوّع محتويات مكتبتي، جنى العمر، ركام أراه بعينيَّ، ولا أغمضهما”. هكذا نجد أنفسنا أمام نماذج أخرى من الأرقام، هي حصيلة عمر من المعرفة، والبحث الدؤوب خلفها، ليشتعل كلّ هذا بجرّة صاروخ.
تتجلّى في عالم الأرقام ثنائيّة عميقة تعكس جوهر الوجود البشريّ نفسه – فهي تقف كالبرزخ بين عالمين: عالم المادّة الصلب المحسوس، وعالم الروح المتدفّق المحسوس.
تناغمات وتناقضات كونيّة
في ظاهرها، تمثّل الأرقام النظام الكونيّ الصارم، والقانون الرياضيّ المطلق، كأنّها قوالب جامدة تحبس فيها الحقيقة نفسها. لكن في باطنها، تنساب طاقة روحيّة خفيّة، تتجلّى في تلك اللحظات التي يتجاوز فيها الإنسان حدود المنطق البارد ليستشعر نبضًا خفيًا، أو جرحًا حارًّا يسري في ثنايا الأعداد.
في هذا المستوى من الإدراك، تصبح الأرقام أشبه بالرموز السرّيّة للوجود، تختزن في ثناياها أسرار النظام الكونيّ وتناغماته وتناقضاته الخفيّة. وهنا يتجلّى البعد النفسيّ في قدرة هذه الأرقام على إثارة مشاعر عميقة في النفس البشريّة- مشاعر من الرهبة والدهشة والفظاعة والحنق.
إنّها العلاقة الجدلية بين الظاهر والباطن، بين المادّيّ والروحيّ، بين المحدود واللامحدود.