“أصوات نساء من بعلبك” نصوص خارجة على الإملاء

“أصوات نساء من بعلبك”. قد يبدو العنوان لافتًا أو حتّى غريبًا بعض الشيء، فالتنميط الذي لحق بمنطقة بعلبك، وساهم الإعلام بجزء كبير منه، على أنّها خارجة على القانون، ويسودها المجتمع الذكوريّ والعشائريّ، هما اللذان جعلا هذا العنوان لافتًا، وهو ما يعود العنوان نفسه ليصوّب الأمور ووضعها في نصابها، من أنّ بعلبك، وبالرغم مما يجري من تنميطها، هي منطقة كسائر مناطق لبنان، غنيّة بإرثها الثقافيّ والمجتمعيّ، تحاول جاهدة كسر تلك الصورة النمطيّة من خلال أولئك النسوة اللواتي علت أصواتهنّ في سماء بعلبك.

أربعة عشر نصًّا بين الخاطرة والقصّة والشعر، هي أربعة عشر صوتًا لنساء من أعمار مختلفة وجنسيّات متنوّعة، قلن قولهنّ خارجًا عن النصّ، في “أصوات نساء من بعلبك” أولى منشورات مكتبة ومقهى “ميلي” الخاصّة بالنساء في مدينة بعلبك، بدعم من Welead، في طبعته الأولى هذا العام 2024.

تحليق خارج السرب

نسوة لا صلة لهنّ مسبقة بالكتابة، كسرن الحالة لتي تمثّلها تلك المدينة التي لا نعرف عنها الكثير. في مدينة لا يوجد فيها بحر سبحت نساؤها في مخيال الكتابة، “الكتابة كآداة سياسيّة” كما تقول الصحافيّة والكاتبة ريتا باروتا، وهي مدرّبة ورشة الكتابة الإبداعيّة، أرادت نساؤها “روحًا واسعة مثل السماء”، حلّقن في عوالم مختلفة، ولكلّ منهنّ هاجسها الخاص، وتخيّلاتها الحميمة. نساء كابرن على الصورة النمطيّة، “لقد وضعنا للتوّ، أوّل طفل لنا، خارج منظومتكم” من جملة ما تضيفه ريتا باروتا في مقدّمة الكتاب وتوضح أنّه نتاج ورشة حمْلة بعنوان “الجسد واليوتوبيا”.

مقدمة تبدو كأنّها خطاب نسويّ موجّه، مع مراعاة اللغة المحبوكة بحزم انفعاليّ، تحمل بين طيّاتها انتفاضات حالمة، لنساء محمّلات بأعباء عاطفيّة ونفسيّة “لقد زرت بعلبك.. لكنّ عتبي عليك أنّك لم تترك فائضًا من الحبّ فيها. فائضٌ يكفيني، ولكلّ من يحتاجه” من نصّ موجّه لابن عربيّ الشيخ الصوفيّ. مقدمة تدين وتعلن قيامها على الآخر الذكوريّ الذي بدا قامعًا للأحلام، ومثبطًا لأيّ تحليق خارج السرب.

نصوصٌ بلا تعقيدات

ما يُميّز النصوص كما ذُكر، أن كاتباته هنّ نساء من بعلبك والجوار، اخترن التعبير عن ذواتهن بعيدًا عن أيّ تعقيدات أخرى، كانت مهمّة المُدرّبة -كما تذكر مهاد حيدر وهي إحدى المسؤولات عن المكتبة مع عدّة عضوات ومتطوّعات أخريات- “إعطاء الأدوات التي تسمح لهنّ بالاستماع للذات وفهمها وفهم الآخر، معالجة الموضوعات النسائيّة كما نتصوّرها كنساء وليس كما أملاه علينا الخارج، وتحفيز الخيال عبر تمارين مرتبطة بالشعر وتحليل قصائد، أو بتحفيز الحواس مثل النظر إلى صور معيّنة والتخيّل، والاستماع للموسيقى، مشاركة الأفكار بصوت عال لتحفيز الخيال والذاكرة”.

نسوة لا صلة لهنّ مسبقة بالكتابة، كسرن الحالة لتي تمثّلها تلك المدينة التي لا نعرف عنها الكثير. في مدينة لا يوجد فيها بحر سبحت نساؤها في مخيال الكتابة.

من هنا تأتي هذه النصوص المتفاوتة في القيمة الأدبيّة وفي الحبكة اللغويّة، لتحمل في طيّاتها مخيّلات كثيرة لوجود يكسر فيه الجسد محدودات الخوف، وتحلّق فيه الروح في عوالم مثاليّة بعيدة، تتّصل بالتصوّف وبالأندلس، وبالكتاب، تحكي النساء عن عقد خوفهنّ، عن الرغبة بالانطلاق والاتّساع، عن العلاقة المضطربة مع الجسد، عن التزويج المبكر، عن الوصمة الاجتماعيّة، وعن تقبّل الذات الخارجة على السرب. وكما جاء على لسان إحداهنّ “وصلت إلى هذا المكان بعد أن تحرّرت من مجتمعي الصغير قبل مجتمعي الكبير”.

سرديات نسوية تحاكي الواقع

ترى مهاد حيدر: “أنّ قوّة الكتاب تكمن بأنّ النساء هنا يحكين قصصهنَّ، من دون أن ينوب عنهنّ أحدٌ في السرد”. وتضيف: “صحيح أنّ الكتاب لا يحوي سرديّات مختلفة عن المنطقة، ولكن ما يختلف هنا أنّها منطلقة من ذات مؤنّثة راوية للأحداث التي حدثت من خلال العودة للواقع، على طريقتها. كذلك الأمر في نصوص لنساء وهن يتخايلن واقعًا موازيًا، يحلمن به”.

وتؤكّد “أنّ المراقبة وقراءة الواقع، وتخيّل إمكانيّات أخرى للوجود واحدة من عواميد التفكيك، حتّى استطعن التعبير عن أنفسهنّ، وعن الأزمات، والأحلام والأفكار التي تراودهنّ، أو تعيق حياتهنّ”.

كان نشاط التوقيع هادئًا، اجتمعت فيه المشاركات مع عدد من المهتمّات على قراءة النصوص، وبث أحاديث عفوية بعيدة عن التكلّف.

مساحة للتحليق

يشكّل مقهى ومكتبة ميلي “وفق طموح المؤسّسات لها، مكانًا تجتمع فيه النساء لإنتاج حالة نسائيّة تشبههنّ، يكنّ فيه أنفسهنّ، مساحة للتحليق في ظلّ غياب المساحات الخاصّة بالنساء حصرًا، وفي محاولة لكسر النمطيّة والانتصار لنوع من العدالة المكانيّة، بعيدًا عن إحداث أيّ نوع من الصراعات المعمعيّة. لا تعمل القيّمات على إسقاط أفكارهنّ وتصوراتهنّ النسويّة الطابع، بل إنّ عمليّة الاستقطاب تحدث بتلقائية. لأن الغالبيّة مهتمّات بالأساس ويشعرن أنّ المكان يشبههنّ” كما تقول حيدر.

يأتي النتاج ليكسر ما يُسمّى بالمركزيّة الثقافيّة والإنتاجات الإبداعيّة، المحصورة سلفًا في بيروت العاصمة ومناطق المركز كما تلفت حيدر: “على الرغم من وجود بعض الجهات المهتمّة بالأدب والثقافة ولكن ضمن إطار السائد والنمطيّ”.

نساء يجمعهنّ الحماس، ولديهنّ قدرات كتابيّة سمحت لهنّ الورشة ببلورتها، تشرح حيدر: “لم يكن اختيار المرشّحات مرتكزًا على نساء محدّدات، لأنّنا ضد الفكر الذي يهمّش أشخاصًا لديهم قدرات، ولم يحصلوا على فرص للتعبير”. والمشاركات كما يتجزم حيدر، من مختلف الفئات: “كلّهن كتبن وشاركن، وهناك نصوص لم تُنشر، احتفظنا بها في أرشيف “ميلي”. وتعقّب: “لأنّ كلّ شي له معنى وقيمة بالنسبة لنا بإنتاجاتهن، وكلّ كلمة هي خطاب للمجتمع، يَسمعنه بأنفسهن، ويُسمعنه للمحيط حولهنّ”.

بعلبك والحرمان.. وميلي

تعاني بعلبك وغيرها من البيئات اللبنانيّة عدم وجود صورة واضحة عن النساء، ويقدم الإعلام المنطقة على أنّها مكان متخلّف لا علاقة له بالثقافة، والتطوّر. وعلى الرغم من وجود نسبة كبيرة من النساء المتعلّمات كما تفيد حيدر “إلّا أنّ الإعلام يعمد إلى حصرها في إطاريّة العنف والقمع”؛ وتضيف: “وتعمل الدولة بمؤسّساتها وأحزابها على ترسيخ هذا النمط في ظلّ غياب خطط تنمويّة واضحة”.

من هنا ، تتابع حيدر “تفرض العقليّة الذكوريّة بما تحمله من تهميش وقمع ومحدوديّة رؤيويّة حضورها على وضع النساء في المنطقة، وحصر نشاطهنّ في أدوار حزبيّة وعشائريّة، وهو ما يفسّر غياب النساء عن الساحة الثقافيّة أو العمل السياسيّ في المنطقة. وبالتالي يسمح للعنف والقمع أن يظلّ مستشريًا”.

من هنا تأتي “ميلي”، كالنور في آخر النفق، لتجتمع على حبّها نساء بعلبك، يمارسن فيها عدّة أنشطة، ويتمّ التحضير لتدريبات قادمة متنوّعة منها: “تدريب التصميم الغرافيكي والذي سيتمحور عن رزنامة لتعقّب الدورة الشهريّة”. كما أشارت حيدر. وتطمح ميلي لتوسيع نطاق عملها، والتشبيك مع نساء من مناطق مختلفة، مع الوصول إلى عدد أكبر من النساء والمزيد من الإنتاجات.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى