أطباء في منطقة بعلبك الهرمل يقفلون عياداتهم.. ما السبب؟

هم الشريحة الأكثر معاناةً في الفترة الأخيرة، فما كادوا ينتهوا من تداعيات فيروس كورونا والجهود الحقيقية التي بذلوها وأثقلت كاهلهم، في محافظة بعلبك-الهرمل، حتى أرخت أزمة المحروقات أوزارها على عملهم، أطباء بعلبك الهرمل  يضطرون يومياً إلى قطع مسافات طويلة من مستشفى إلى أخرى حسب الطلب، مضطرون اليوم أن يقفوا في طوابير الذل على محطات الوقود للحصول على صفيحة بنزين لا تفيه غرضه. فالانتظار لساعات أمام محطة بالنسبة لطبيب ربما تنتظره حالة ملحة في طوارىء أحد المستشفيات أمرٌ في غاية الخطورة. فمن يتحمل مسؤولية موت المريض أو تفاقم حالته؟!…

يقفون مكتوفي الأيدي، ليس بيدهم حيلة، يقصدون هذه المحطة أو تلك عسى أن يتم مراعاة ظروفهم. وتأخذ بعين الاعتبار طبيعة عملهم الانساني، حيث الطلب عليهم من المستشفيات كافة في البقاع.

أطباء بعلبك يعتذرون من مرضاهم

جولة على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي كان كافياً للمس هذه المعاناة اليومية التي تطال أطباء بعلبك الهرمل والتي باتت تدق ناقوس الخطر. يحاول الأطباء من خلال تلك الصفحات إيصال صوتهم، لا بل صرختهم لعلّهم يلمسون حلاً في هذا المجال. من الحالات الملفتة ما نشره الدكتور هيثم طبيخ على صفحته على الفيسبوك وفيها يعتذر من مرضاه في المستشفيات لعدم قدرته على زيارتهم ومعاينتهم. وذلك  بسبب عدم توفر مادة البنزين في سيارته.

الدكتور طبيخ قال لـ “مناطق” إن حاله هو حال جميع الأطباء وإن لم يفصحوا عن ذلك. وأشار إلى أن الوضع حالياً اختلف كلياً عن الشهر الماضي حيث كان الأطباء بمجرد إبراز بطاقاتهم يحصلون على حاجتهم من البنزين خلال نصف ساعة. الأمر الذي كان يساعدهم على القيام بمهامهم وواجبهم وتلبية مرضاهم. الآن وبعد الإجراءات المكثفة للجيش اللبناني على المحطات يقول الدكتور طبيخ توقف هذا الامتياز للأطباء. وبدأت المعاناة وبات لزاماً علينا الوقوف في الطوابير للحصول على البنزين.

للحالات الطارئة فقط

بفعل المرحلة الصعبة التي يمرُّ بها أطباء بعلبك في الهرمل والخارجة عن إرادتهم، أصبح الاعتذار من المرضى هو أكثر ما يمكن أن يقدموه لمرضاهم. في أغلب الأحيان لا يستطيع الطبيب الحضور الى المستشفى رغم وجود حالات طارئة، خصوصاً إذا كانت بعيدة. ولا يستطيع أن يداوم يومياً في عيادته فالانتقال إليها بات متعذراً بفعل فقدان مادة البنزين. هذا ما حصل مع الدكتور محمد شحادة وهو اختصاصي في أمراض القلب. حيث أعلن أنه توقف عن معاينة الحالات “الباردة” والاكتفاء باعطاء الإرشادات عبر الهاتف.

وأشار شحادة إلى تلبيته للحالات الطارئة فقط لكن بصعوبة أيضاً، محدداً يوماً واحداً لاستقبال مرضاه في عيادته الخاصة، معتذراً في الوقت نفسه عن تلبية بعض الحالات الطارئة في الأماكن النائية كمستشفى الهرمل الحكومي والبقاع الغربي ومستشفيات بيروت ورياق والمستوصفات البعيدة كاللبوة. حيث المسافات طويلة ومتباعدة ويحتاج التنقل بينها لكميات كبيرة من البنزين وهذا غير متوفر على الإطلاق.

لكن يبقى السعي قدر الإمكان لتلبية الحالات الملحة التي لا يمكن تركه.  هذا ما يقوله الدكتور شحادة الذي أشار إلى أنه اضطر مرة للاستعانة بسيارة أحد أفراد عائلته للذهاب ليلاً إلى إحدى المستشفيات.  وذلك تلبية لحالة طارئة خوفاً من أن ينفذ البنزين من سيارته في الطريق.

بدوره أشار الدكتور طبيخ إلى أنه يتلقى يومياً إتصالات من مستشفيات عدة للحضور ومعاينة حالات طارئة. كان آخرها طفل في طوارئ مستشفى بعلبك الحكومي، وطفل آخر حديث الولادة في مستشفى المرتضى. فأكّد اعتذاره عن الحضور بسبب عدم توفر كمية البنزين التي توصله إلى المستشفى بالرغم من قرب المسافة. ولفت الدكتور طبيخ إلى أنه توقف عن الذهاب إلى المستشفيات البعيدة ومعاينة المرضى فيها كمستشفيات رياق وتمنين. وعلل السبب بأنه غير قادر على قطع حوالى ٥٠ كلم يومياً. وكذلك الأمر بالنسبة لمستوصفات شعت والبزالية.

استخفاف بالطبيب وبحياة الناس

كل شيء بات مباحاً، حتى حياة الإنسان أصبحت بلا قيمة، منذ يومين تعرض أحد أطباء بعلبك للضرب على إحدى المحطات بعد انتظاره لأكثر من ١٢ ساعة على المحطة على أمل تعبئة سيارته بالبنزين.

الوقوف يومياً واستجداء القيمين على المحطة ومحاولة إقناعهم من أن المرضى في خطر. هو ما يحصل مع الدكتور شحادة الذي قال “عبثاً أحاول” واصفاً المعاملة بأنها أكثر من سيئة، فلا احترام ولا قيمة للطبيب، حيث السائد هو الاستخفاف به وبحياة المرضى. هذا ما يؤكده أيضاً الدكتور إبراهيم البزال رئيس قسم غسيل الكلى في مستشفى دار الأمل الجامعي، من أن المحطات التي لطالما اعتمدنا عليها والتي كنا زبائنها . والتي من المفترض أن تتفهم أن الطبيب غير قادر على الانتظار خذلتنا خلال الأزمة، لم تحترمنا ولم تحترم المهنة وقدسيتها. وكان كل هدفها الاحتكار والربح المادي وتخزين البنزين لبيعه بأسعار عالية ضاربين بعرض الحائط كل القيم والأخلاق.

خطورة بالغة

ربما البعض لا يدرك حجم خطورة أن يكون هناك مريض يحتضر في طوارئ مستشفى ما، والطبيب غير قادر على إسعافه، وفي هذا الإطار يقول الدكتور شحادة أن “نصف ساعة” هي المدة الفاصلة بين إنقاذ المريض وعدم إنقاذه بعد ظهور أي عارض عليه، وإلا بات في خطر يهدد حياته.

هذا الأمر ينسحب على مريض الكلى الذي يحتاج إلى متابعة يومية لحالته في القسم. يشرح الدكتور البزال عن ذلك قائلاً “من يعاني من فشل كلوي بحاجة إلى غسيل كلى لمرات عديدة أسبوعياً. وبعض الحالات تصبح حرجة جداً ويتم إحضارها ليلاً إلى الطوارئ وبحاجة إلى استدعاء الطبيب فوراً.  وهذا الأمر بات عبئاً علينا، محاولين بشتى الوسائل أن نلبي نداء الواجب متمسكين بقسمنا ولكن دون مقومات للصمود.

مرضى في خطر

الآلاف يومياً سيصبحون في خطر إذا ما استمر الوضع على حاله، لأن أطباء بعلبك الهرمل الذي يتنقل بين المستشفى والعيادة والمستوصف ويعاين أكثر من ٣٠ مريض يومياً، ستصبح حياة هؤلاء في خطر إذا ما تخلّف الطبيب عن أداء عمله ولم يستطع معاينة هذا العدد من المرضى، فكيف هي الحال إذا كان الأمر سيحصل مع الغالبية العظمى من الأطباء. وبالتالي كم هو عدد المرضى المعرضة حياتهم للخطر.

عن هذا الوضع يقول الدكتور طبيخ إنه إذا استمر الوضع على ما هو عليه. فإن أكثرية الأطباء سيصبحون عاجزين عن ممارسة مهنتهم. مما يهدد الأمن الاجتماعي والصحي في المنطقة، متمنياً على نقابة الأطباء وإدارة المستشفيات بالتعاون مع قيادة الجيش السعي إلى إيجاد حل سريع. إما بالسماح للأطباء بتعبئة سياراتهم من المحطات الخاصة بالجيش اللبناني أو التعاقد مع محطات خاصة تسمح للطبيب بالتعبئة ولو صفيحة أسبوعياً ليستطيع تلبية مرضاه وحالاته الطارئة.

هذا ما حاولت اللجنة الطبية في مستشفى رياق التوصل إليه في اجتماعها الأخير. حيث يجري التفاوض مع محطات الوقود بهدف تزويد أطباء بعلبك بصفيحة أو صفيحتي بنزين أسبوعياً ولو مقابل سعر يفوق سعرها الرسمي. فكما يقول الدكتور شحادة يبقى الأمر افضل في كل الأحوال لأننا نقوم بتعبئتها في السوق السوداء بأكثر من ٣٥٠ ألف.  والتي من المتوقع حسب اوساطهم ان تلامس الـ ٧٥٠ ألف وأكثر…

اعتزال المهنة والهجرة!

ما يحصل مع أطباء بعلبك الهرمل ليس مجرد أزمة محصورة بهم فقط، فهي تشمل كل العاملين في القطاع الصحي دون استثناء حيث يضطر العديد من الأطباء والممرضين اليوم للنوم في المستشفيات بين مناوبتهم الأولى ومناوبتهم الثانية تفادياً للوقوع في أزمة الوصول إلى المستشفى إن لجهة غلاء المواصلات أو لجهة تأمين مادة البنزين للتنقل.

يقول الدكتور شحادة: “الفقر في الوطن غربة” معتبراً انه يوماً بعد يوم يفكر بالهجرة. ولكن لا زال التفكير بالأهل والعائلة يردعانه عن ذلك، لأنه كما يقول أنه في حال غلب خيار الهجرة سيكون دون عودة. ويلفت شحادة إلى أن وضع الطبيب المادي بات مهدداً فهو غير قادر على مواجهة الحياة.  فالمستحقات نستوفيها على سعر ١٥٠٠ ليرة للدولار ولا نقبضها إلا بعد مرور عام. فمستحقات مرحلة جائحة كورونا لم نقبضها حتى اليوم. لا إمكانية للاستمرار مع كل هذه الظروف الصعبة ويصبح الطبيب أمام خيارين الأول الهجرة. والثاني اعتزال الطب والجلوس في المنزل ريثما تتغير الأحوال فلا حوافز مادية ولا معنوية، فقط الضمير الأخلاقي والمهني هو الذي يحكم عملنا في مثل هذه الأيام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى