أطفال مخيّمات اللجوء “مكتومي القيد” وأسماء بلا وثائق
“ليسوا سوى أرقام”! هذا ما نسمعه عندما يتمّ توصيف الفئات الأكثر تهميشًا وحرمانًا من حقوقها. هنا في مخيّمات عرسال للاجئين السوريّين لن تعثر على ترجمة لهذا التوصيف فحسب، بل على ما أشدّ منه وقعًا وقساوةً، هنا أطفال لم يستطيعوا الفوز بأن يكونوا أرقامًا تُحفظ في قيود رسميّة، فباتوا مجرّد أطفالٍ يحملون أسماءً بلا عناوين، خالية من أيّ مستند قانونيّ وإثبات يُؤكّد صحة وحقيقة تلك الأسماء.
تشهد قضيّة تسجيل الولادات السوريّة في لبنان سجالات حادّة، وكثيرًا من الأخذ والردّ، بعضها القليل لأسباب إنسانيّة، بينما غالبيتها تفوح منها رائحة العنصريّة والطائفيّة والقلق الهويّاتيّ.
ضحيّة زواج عُرفي
رفعة الخطيب، طفلة يافعة ذات سنوات سبع، تركض كالفراشة في مخيّم “أبو شريف” في بلدة عرسال البقاعيّة، تلهو وتلعب بين الأطفال، تعيش في خيمة جدّيها لأمّها دون أن تدرك صعوبة ما ينتظرها مستقبلًا، فهي لا تحمل هويّة أو أيّ وثيقة تُثبت نسبها، لكنّها تقول ببراءة وخجل “بدّي صير متل رفقاتي معي إخراج قيد كرمال المدرسة”.
تقول حميدة الخطيب والدة الطفلة رفعة في حديث لـ”مناطق نت”: “تزوّجت في عمر السابعة عشرة، عقدوا قراني عند شيخ في المخيّم، يعني زواج عُرفي، من دون أيّ ورقة أو وثيقة تثبت زواجنا، أنجبت رفعة في السنة الأولى من زواجنا، ولادتي تَمّت في عيادة قابلة قانونيّة، ووالدها لم يقم حينها بأيّ إجراء لتسجيلها، تطلّقت منه بعد فترة، هو دخل السجن وحُكِم عليه بعشرين عامًا، أنا تزوّجت بعدها وبَقيت رفعة في خيمة أهلي، بلا إخراج قيد أو وثيقة ولادة أو أي مستند قانوني”.
تتابع الخطيب:” لن أترك ابنتي من دون هويّة، لا يمكنني رميها في الحياة، هل سأدعها تضيع وتتشرّد فقط لأنّ والدها غير مسؤول؟ لقد أرسلت إليه في السجن أنّني سأرفع دعوى بهدف تسجيل رفعة، وإذا كان غير مهتمّ سأقنع زوجي بتسجيلها على اسمه، إنّها طفلة الآن لكن عندما تكبر ماذا ستفعل؟ ما هي فُرَصها في الحياة؟ في التَعلُّم والعمل؟ في التنقُّل والعودة إلى بلدنا، سأفعل كلّ ما استطيع كي تحصل ابنتي على هويّة حتّى لو اضطررت للتسوّل”.
الاتفاقيّات الدوليّة والعنصريّة المقيتة
على رغم أنّ لبنان من أوائل الدول الموقّعة على اتفاقيّة حقوق الطفل، الصادرة عن الأمم المتّحدة في 20 تشرين الثاني/ نوفمبر1989 ، لكن معظم الأحزاب والقوى السياسيّة اللبنانيّة، تناقض بأفعالها ما التزم به لبنان، وتتصرّف بعنصرية تجاه اللاجئ السوريّ، حيث يتّخذ التوطين كشمّاعة عند النقاش في أيّ مسألة تتعلّق باللاجئين، حيث يتمّ تحميلهم كلّ ما وصل إليه لبنان من أزمات ومشاكل، هي في الحقيقة سابقة لقدومهم كلاجئين.
تقول اتّفاقيّة الأمم المتّحدة في مادّتها الأولى، “إنّ الطفل هو كلّ إنسان لم يتجاوز الثامنة عشرة، ولم يبلغ سنّ الرشد قبل ذلك بموجب القانون المنطبق عليه، تنصّ صراحة في مادّتيها السابعة والثامنة على:
المادة 7
1 – يُسجّل الطفل بعد ولادته فورًا ويكون له الحقّ منذ ولادته في اسم والحقّ في اكتساب جنسيّة، ويكون له قدر الإمكان، الحقّ في معرفة والديه وتلقّي رعايتهما.
2- تكفل الدُول الأطراف إعمال هذه الحقوق وفقًا لقانونها الوطنيّ والتزاماتها بموجب الصكوك الدوليّة المتّصلة بهذا الميدان، ولا سيّما حيثما يُعتبر الطفل عديم الجنسيّة في حال عدم القيام بذلك.
المادة 8:
1- تتعهّد الدول الأطراف باحترام حقّ الطفل في الحفاظ على هويّته بما في ذلك جنسيّته، واسمه، وصلاته العائليّة، على النحو الذي يقرّه القانون، وذلك دون تدخّل غير شرعيّ.
2- إذا حُرِم أيّ طفل بطريقة غير شرعيّة من بعض أو كلّ عناصر هويّته، تقدّم الدول الأطراف المساعدة والحماية المناسبتين من أجل الإسراع بإعادة إثبات هويّته.
تعاميم مساعدة
لا تملك وزارة الداخليّة اللبنانيّة جوابًا رقميًّا على الولادات السوريّة في لبنان، المسجّلين وغير المسجّلين. مرّة تقول إنّ المفوّضيّة السامية للأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين UNHCR لا تقوم بتسليم داتا المعلومات عن اللاجئين، ومرة أخرى إن النساء السوريّات لا يُبلِّغن جميعهنّ الدوائر الرسميّة بالولادة. لكن بحسب مصادر مفوّضيّة اللاجئين، فإنّ تضافر جهودها مع وزارتي الداخليّة والشؤون الاجتماعيّة أدّى إلى ارتفاع كبير في تسجيل ولادات السوريّين، خصوصًا بعد قرار مجلس الوزراء في الثامن من شباط، فبراير العام2018 بتسهيل تسجيل كلّ الولادات السوريّة في لبنان بعد 01 كانون الثاني/ يناير 2011.
على رغم أنّ لبنان من أوائل الدول الموقّعة على اتفاقيّة حقوق الطفل، الصادرة عن الأمم المتّحدة لكن معظم الأحزاب والقوى السياسيّة اللبنانيّة، تناقض بأفعالها ما التزم به لبنان، وتتصرّف بعنصرية تجاه اللاجئ
تسجيل الوقوعات ضروريّ جدًّا
تخرّج المحامي جمال الزهوري البالغ اليوم 52 عامًا، من جامعة الحقوق في دمشق، مارس مهنة المحاماة في مدينة حمص مدة 15 عامًا، قبل أن يفد إلى لبنان هاربًا من جحيم القصف والنار والموت، وهو عضو فريق “متطوّعون لخدمة مجتمعنا” منذ العام2015 بالتعاون مع المفوضيّة السامية للأمم المتحّدة لشؤون اللاجئين. يشير في حديث مع “مناطق نت” إلى أنّه “يجب على اللّاجئ السوريّ أن يقوم بتسجيل كلّ الوقوعات (زواج– ولادات– طلاق– وفيّات وشهادات) في الدول المضيفة، وأن يستحصل على الوثائق الرسميّة المعتمدة في هذه الدول، حفاظًا على حقوقه بالمواطنة السوريّة الكاملة بعد العودة، لأنّ عدم امتلاك هذه الوثائق سيدخله في متاهات قانونيّة كثيرة ومعقدّة هو بغنى عنها”.
يشكّك المحامي الزهوري بدقّة وصحّة الأرقام المتداولة حول عدم تسجيل الولادات السوريّة في لبنان فيقول: “هذه الأرقام مضخّمة بالتأكيد، أهدافها سياسيّة لبنانيّة محلّيّة. نحن هنا في عرسال إحدى أكبر المجمّعات المضيفة في لبنان، لا تتخطّى نسبة عدم تسجيل الولادات الخمسة بالمئة في أسوأ الأحوال، فيما حديث بعض الجهات عن نسبة 60 بالمئة هي بالطبع أرقام وهميّة جدًّا ولا تمّت إلى الواقع بصلة”.
أمّا عن عدم تسجيل الولادات السوريّة فيقول الزهوري: “لها أسباب عديدة، أوّلها عدم وعي بعض اللاجئين لأهمّيّة وضرورة عمليّة التسجيل؛ ثانيها وفود بعض العائلات إلى لبنان بدون أيّ أوراق ثبوتيّة وهذا موضوع معقّد وشائك جدًّا؛ ثالثها عدم امتلاك المال الكافي للتسجيل خصوصًا إذا كان ذلك يتوجّب الاستحصال على أوراق من السفارة السوريّة، فبعد “دولرة” المعاملات باتت الأمور سائبة ولا حسيب أو رقيب، فأيّ ورقة من السفارة تكلّف مبالغ طائلة يعجز اللاجئ عن تأمينها”.
ويختم الزهوري حديثه متوجّها إلى المنظّمات المانحة: “هناك ضرورة وأهمّيّة قصوى لإيلاء الأوراق الثبوتيّة الرسميّة والاستحصال عليها من الدوائر اللبنانيّة، فنحن لن نبقى في لبنان أو سواه إلى الأبد، سنعود يومًا ما، شاكرين من أحْسَن استضافتنا وسامح الله من فعل غير ذلك”.
ليس لدينا مال للتسجيل
لا يعود عدم تسجيل الولادات السوريّة دائمًا إلى “نظريّة المؤامرة” الغربيّة، وخطر التوطين كما تصدح بعض الحناجر العنصريّة في لبنان.
فكريمة الخطيب ابنة الـ37 عاماً، أمّ لأربعة أطفال تشكو من عدم قدرة عائلتها على تسجيل اثنين من أبنائها. تقول لـ”مناطق نت”: “لقد سُجن زوجي خمس سنوات، وقعنا في خلالها تحت ديون كثيرة، لم نقم بتسديدها كاملة حتّى اليوم، نعيش مثل معظم اللاجئين على ما تقدّمه لنا الأمم المتّحدة، وزوجي نادرًا ما يعمل، حتّى أنّ بعض الأعمال ممنوعة عليه كونه لاجئًا سوريًّا، وما تقدّمه الأمم المتّحدة لا يكفي لأبسط مقوّمات البقاء”. وتضيف بحسرة: “أتبادل الحذاء مع ابنتي للخروج من الخيمة، نعيش تحت أقسى ظروف إنسانيّة ومعيشيةّ.
وتشير كريمة إلى أنّ “عملية تسجيل ابنتيّ ريتاج عمار (2012) وسديل عمار (2015) تحتاج إلى 500 دولار، هو مبلغ زهيد نظريًّا، لكن فعليًّا صعب جدًّا علينا تأمينه، نحن نعي ونعرف أهمّيّة وضرورة تسجيلهما، سنفعل كلّ ما بوسعنا بإذن الله، لكن حاليًّا العين بصيرة واليدّ قصيرة، الله يفرجها عالجميع أحسن شي”.
سنعود فور توافر الظروف
يعود الوجود الاقتصاديّ السوريّ في لبنان إلى تسعينيّات القرن الماضي، وهو يدخل في صُلب وأساسيّات بعض القطاعات الاقتصاديّة اللبنانيّة، مثل الزراعة وقطاع البناء وبعض المهن الحرفيّة الأخرى، بينما اللجوء القسريّ يعود إلى بدايات الحرب في العام2011 .
يقول منسّق مخيّمات اللاجئين ولجنة التنسيق والمتابعة سامر عامر لـ”مناطق نت”: “للمرّة المليون نقولها ونكررها إننا نشكر لبنان الشقيق، وأيّ بلد أخر استقبل أهلنا الهاربين من ويلات الحرب ونيرانها، لكنّنا لا نسعى ولن نسعى للبقاء لا في لبنان ولا في أيّ بلد آخر، لأنّنا متمسّكون بهويّتنا السوريّة وسنعود حتمًا إلى بلدنا الحبيب، فور توافر ظروف العودة الآمنة وإجراء المصالحة الوطنيّة العامّة”.
يتابع عامر: “من هنا جاءت كلّ أعمالنا وتوجيهاتنا لكلّ السوريّين في عرسال بضرورة تسجيل كلّ ما له علاقة بالأوراق الثبوتيّة، من ولادات ووفيّات وزواج وغيره. أخيرًا بدأنا العمل على إحصاء كلّ الأطفال السوريّين غير المسجّلين في مخيّمات عرسال، بغية البحث عن حلول لها مع الجهات المعنيّة، باسم كلّ اللاجئين السوريّين لن نسمح ببقاء طفل سوريّ بلا أوراق ثبوتيّة”.
إنّ التضارب الكبير في الأرقام والمعلومات حول ولادات السوريّين في لبنان، بين مسجّلة أو غير مسجّلة، يؤكّد الاستغلال السياسيّ والتجاذب في هذا الملف الإنسانيّ الشائك، وهو لا يقف عند هذا الحدّ، بل يتعدّاه إلى الدعوات لطردهم من مناطق معيّنة، وإلى فتح البحر أمامهم في مرّات أخرى، كوسيلة ضغط على أوروبّا، لكن، أليس الحلّ الفعليّ يكون بتطبيق القوانين والمواثيق والأعراف الدوليّة وتنفيذ اتّفاقيّات حقوق الطفل والإنسان، ومنع التعرّض للشعوب لأسباب سياسيّة أو دينيّة أو عرقيّة؟