أفراح الطوائف وأحزان الوطن

زهير دبس

تحمل مشاهد حفلات «الأعراس الجماعية» المتنقلة التي تنظّم في مناطق مختلفة من لبنان ومن خلال رعاية الطوائف وأمرائها لها، دلائل ومعاني مغايرة لتلك التي تحمله عادة تلك المناسبات. فرمزية مشهد الزفاف الثنائي الذي يجمع بين عروسين، يعبّر عن صورة جميلة تحمل في طيّاتها الحب والفرح، ولها جوانب إجتماعية وإنسانية وتعكس إرادة الإنسان بسيروة الحياة من خلال مؤسسة الزواج. بينما تحمل صور الزفاف الجماعي في لبنان والتي تضم عادةً عشرات الأزواج معنىً ورمزية أخرى، تتداخل فيها العوامل الإجتماعية بالطائفية والسياسية!! فلا نقول جديداً عندما نتحدث عن أن الولاء الفردي ومن ثم الجماعي في لبنان هو ولاء طائفي بامتياز وليس ولاءً وطنياً وأن المواطنية فيه لم تستوفِ كامل شروطها بعد، باعتبارها نقيضاً للطائفية.
فالكيانات الطائفية في لبنان سابقة على فكرة الدولة وتكوينها، وبدخولها إليها تكرّست دولةً للإئتلاف الطائفي، لم تكن المواطنية فيها بما تعني إزالةً للفوارق قاسمهم المشترك، بل الدولة كإطار مكرّس لتلك الفوارق هي ذلك القاسم!! فالمواطن في لبنان هو رقم في مجتمع الطوائف وليس فرداً في مجتمع الدولة المدني المفقود.
وإلى جانب وجودها في الدولة كمكوّن أساسي من مكوّناتها، ترعى الطوائف مجتمعات موازية، لكل منها كيانه الخاص، له مؤسساته الثقافيه والإقتصادية والتربوية والاجتماعية ومناطق نفوذ ووسائل إعلام، وتلعب دور الوسيط بين جماعاتها من جهة والدولة من جهة أخرى، وذلك عبر وكالة حصرية مزدوجة ومطلقة غير قابلة للعزل، طرفاها الدولة والمواطن، تثبّت من خلالها الطوائف حصصها في النظام السياسي القائم، وتطلق الدولة عبرها يد الطوائف في إدارة مجتمعاتها.
كما تلعب الطوائف من خلال أحزابها دوراً مادياً ومعنوياً كبيراً في إدارة شؤون مجتمعاتها وتشمل إهتماماتها مجمل نواحي حياتهم، فبالإضافة إلى إحيائها لمناسباتها الدينية السنوية ومهرجاناتها المناطقية، تحيي الطوائف وترعى حفلات الزواج الجماعية المتنقلة في طول البلاد وعرضها، مستعرضةً مواكب الشباب والشابات خلف أسوار ممالكها وزواريبها وأزقتها الضيقة.
تستعرض الطوائف بصفتها المؤسسة الأم قوتها، وتعرض عضلاتها من خلال رعايتها لمؤسسات الزواج الجماعية الصغيرة في عروض تشبه حفلات تخريج الفرق العسكرية، حيث تُستبدل فيها الثياب العسكرية المرقطة بثياب الزفاف البيضاء والسوداء!! وتؤكد الطوائف أمومتها لهؤلاء الشبان والشابات ويؤكدون هم بنوتها وانتماءهم إليها، بوصفها الحامي والمدافع وصمام الأمان. تجدّد الطوائف من خلال هذه المشهدية شبابها، وتضخّ إلى شرايينها دماءً شابة جديدة تؤمن سيرورتها، وترسل عبر تلك الإحتفاليات رسائل متعددة يشكّل علم حساب الأرقام بما يتضمن من جداول ضرب وعلامات قسمة وجمع محورها، والخوف والقلق الهاجس الأول فيها. وفيما تتجنب طائفة تجرّع كأس نتائج الدراسات الإحصائية المرّ، تنتشي أخوات لها من شرب تلك الكأس، وفيما يحاول البعض أن يعوّض نقصاً ما عبر زيادة أعداد الخارج كقيمة مضافة على أرقام الداخل، تحاول أقليات طائفية صغيرة أن تتماهى مع كيانات طائفية كبرى في الخارج تعزيزاً لكينوناتها في الداخل.
إن احتفالية الزواج الجماعي التي تتنقل من صيدا إلى صور وحريصا، لا توحي وفي ظل نظام طائفي يقوم على توازنات دقيقة بالفرح والطمأنينة في بلد يحتفل بتجديد حروبه واقتتاله الأهلي كل فترة من الزمن.
إن لغة الأرقام التي تتقنها طوائف لبنان تتسع دائرتها ويزداد معها قلق اللبنانيين وخوفهم وترسم علامة صفرٍ كبيرة لوطن يضمحل ويتلاشى خلف هواجس أرقام طوائفه وحساباتهم، ويرسم صورة قاتمة لوطنٍ تحتفل طوائفه بأفراحها ويغرق هو في ليل مآسيه وأحزانه الطويل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى