ألوان تعيد تشكيل المشهد.. الفرشاة قبالة الطائرات
بينما تقوم الطائرات بدرز البيوت والحقول بخيوطها الناريّة، يكدّس التشكيليّون كلّ ما يعايشونه من أوجاع روحيّة، فيستلّ بعضهم الفرشاة لتنفيذ عمل فنّيّ معاكس في اتّجاهه، فالفنّان يطلق صرخته اللونيّة من البيت نحو السماء، حيث الطائرة المعدنيّة الصمّاء، بعيدة جدًّا، لكنّها ليست أبعد من العمليّة الإبداعيّة التي تخلّد اللحظة والمرحلة، بينما الصدأ مصير المعدن، ولو بعد حين.
توما الذي لمس ليصدّق
تحت النار تختلف انفعالات التشكيليّين، وتتباين في أسلوب المواكبة والمشاركة في ملحمة الموت والدمار والنزوح. أكثرهم يتشرّب كلّ هذا الجحيم، من دون أيّ ترجمة تعبيريّة، ليس استقالة من الدور الإنسانيّ التفاعليّ، بقدر ما يكون استجابة للصوت الداخليّ، باختمار كلّ هذا، ليصير لوحة أو جداريّة ضخمة، بعد انتهاء الحرب وليس في أثناء وقوعها، وليس بالضرورة أن يكون التفاعل التشكيليّ ترجمة لعناصر الحرب وضحاياها، إذ غالبًا ما ننجبل بالشيء ونتّجه نحو نقيضه، أو ربّما تفسيره بحركات جوّانيّة لا تخضع لسلطة الوعي بالضرورة. لكن هناك فنّانين يقاربون الوجع، مثلما فعل توما، تلميذ المسيح، الذي اقترب لملامسة الجرح حتّى يصدّقه، فكانت لوحات تفاعليّة، تراقص العبث وتعتصر منه زيت الإبداع الخالد.
هناك فنّانين يقاربون الوجع، مثلما فعل توما، تلميذ المسيح، الذي اقترب لملامسة الجرح حتّى يصدّقه، فكانت لوحات تفاعليّة، تراقص العبث وتعتصر منه زيت الإبداع الخالد.
الضوء في لوحة محمد شرف
بينما كانت الغارات توشّي الأبنية بمن فيها، في مشاهد ليليّة متكرّرة، ذهب الفنّان محمد شرف ليسجّل لحظة الانفجار الهائل بكلّ ما في ضربات الفرشاة من ظاهر وباطن، وكلّ ما في حركيّتها من ترتيب وانفعال، فكان في لوحته تلك قابضًا على الجرم، وليس مسجّلًا وقوعه. في كتلته الناريّة تلك، نرى في لوحة شرف فعلًا إشراقيًّا تحويريًّا ينزع عن الانفجار وجهه القاتل، ويعيد تلك الكتلة الناريّة إلى أمّها الشمس.
هكذا كانت لوحة شرف عملًا انبجاسيًّا للنّور الشاطر عتمة الليل، كأنّه تلقّى رسالة سُباب، فشطب اسم المرسَل إليه على المغلف، وأعادها إلى كاتبها بكل ما فيها من شتائم ولعنات؛ فالفنّ ليس حيادًا تصويريًّا تأريخيًّا بقدر ما هو فعل رفض واحتجاج وتحوير لما يحصل، ليس كما كانت الأحداث، إنّما كما يجب أن تكون.
أنس اللقّيس ونزف القرميد
من ناحيته نحى الفنّان أنس اللقّيس المنحى التعبيريّ، من خلال تلخيص حالة انسلاخ الناس عن بيوتهم، ليقارب عمليّة النزوح من زوايا وجدانيّة، فرسم وجوه النازحات بكلّ ما تختزنه من صمت واختلاجات فكر، وحنين ذاكرة وخوف من المجهول الآتي، وقلق على “الماضي الذي لا يمضي”.
في إحدى رسوماته تلك، رسم اللقيس شابًّا يغادر منزله المدمّر، حاملًا حقيبته، التي يخرج من أعلاها داخون، مثل دواخين البيوت الريفيّة، لكنّ المتصاعد من الحقيبة ليس دخانًا، إنّما ذاكرة المكان بأكملها: صورة العرس والأشجار وحقيبة المدرسة وغرفة المكتب ومقعد الحديقة والشمس. تلك الشمس التي ستعود وتشعّ. في رسم آخر لهذا الفنّان البقاعيّ أنس اللقيس، سنلاحظ عمليّة تحوير القرميد الأحمر، لنراه سائلًا ينزّ دمًا.
ينزف ببطء، تجفّ أوردة السقف، حيث لا غطاء لكلّ تلك الآلام. هكذا يخرج السقف عن كينونته الفيزيائيّة، ليتشكّل بمعناه الجوهريّ الدلالي أداة حماية ووقاية وأمان. كان القرميد يذرف هويّته الأمانيّة.
إلهام شاهين وهموم الرأس
أما التشكيليّة اللبنانيّة إلهام شاهين، فاستعانت بالقلم لترسم إمرأة تحمل حقيبة على رأسها مفتوحة على التفاصيل التي تختزنها، كأنّه الدماغ وقد أفرج عن مكنوناته في لحظة الحيرة، والسؤال الذي تنطق به الملامح. الحقيبة على الرأس، مركز التفكير والقلق، واحتمالات المسير. في رسمها السريع ذاك، يتجسّد الهمّ المتربّع على الرأس، مثل الصرّة القديمة التي كان يحملها أبناء القرى، فترة انتقالهم من مكان إلى آخر، أو ربّما هروبهم ونزوحهم. لم تترك شاهين عملها الفنّيّ بلا عنوان، فكان عنوانًا على شكل سؤال: “كيف لهذا المنزل أن يتسع في حقيبة؟”.
شمس الدين رسم وحرف
قدّم الفنّان علي شمس الدين عملين يحاكيان الحرب، الأول يتضمّن مجموعة من الجرحى الضاجّين بالحياة، يواسيهم عصفور جريح، ويترافق العمل مع جملة تحمل دلالتها في التراث الدينيّ “ما رأينا إلّا جميلًا”. العمل الآخر يمثّل طائرًا جارحًا، ينقضّ على الوجوه والطيور والبيوت، وكلّ ما هنالك من تشابك أشكال ورموز.
لكن الفنّان ابن بلدة عربصاليم، تابع فعله التعبيريّ بنصّ رافق الرسم، يقول فيه: “هي في جوهرها، معركة أحرار العالم… معركة الحقّ التاريخيّ للذين دُمرت أوطانهم وسُلبت بيوتهم وأُلقي بهم مشرّدين في أربع رياح الأرض، ضد الباطل الاستعماريّ المتوحّش، الذي أقام بنيانه وحضارته ورفاهيّته على دماء الضعفاء والفقراء والمضطهدين… ضد النازيّين والفاشيّين والعنصريّين الذين يحكمون العالم بأحذيتهم العسكريّة، مرتدين ربطات العنق والقمصان المنشّاة، ويحملون رايات الديموقراطيّة وحقوق الإنسان وحرّيّة التعبير، ويرمون ما في جوفهم من نار وحقد ودمار، على أمم وشعوب خطيئتها الوحيدة، أنّها تدافع عن أرضها وهويّتها وكرامتها وحقّها في الحياة”.
أما التشكيليّة اللبنانيّة إلهام شاهين، فاستعانت بالقلم لترسم إمرأة تحمل حقيبة على رأسها مفتوحة على التفاصيل التي تختزنها، كأنّه الدماغ وقد أفرج عن مكنوناته في لحظة الحيرة
دمار المحترَف
“لم تكتمل آخر لوحة قبل خسارة بيتي ومرسمي، لن يبقى لي لا ريشة ولا لون ولا أرشيف بعد خسارة محلّي في الأحداث السابقة، الحمدالله”، هذا ما كتبه الفنّان علي شحرور عبر صفحته على “فيسبوك”. خسارة عرفتها الفنّانة الجنوبيّة عبير عربيد، التي احترق مرسمها في حرب تمّوز 2006، حال الفنّان “الخياميّ” يوسف غزّاوي الذي ذاق الوجع عينه لمرّات ثلاث في الحروب السابقة، وها هو اليوم ينشر صورة له في مرسمه، راجيًا أن تسلم لوحاته من الحريق. لكن غزّاوي يتابع نشر أعمال متناسبة مع الحدث عبر حسابه “الفيسبوكيّ”، خصوصًا تلك اللوحة المائيّة التي تصوّر فلّاحًا جنوبيًّا يحرث أرضه. بدوره ينشر الفنّان شربل فارس أعمالًا كان قد أنجزها ورسمها في فترة الاجتياح في العام 1982، وما استتبعه من نتائج، رسومات نفّذها بالحبر، ونشرها في صحف يوميّة آنذاك، مثل “السفير” و”النداء”.
تشكيل الوعي
منذ بداية الوعي البشريّ، كان الرسم لسان حال الجماعات والشعوب، مرآة تعكس الواقع بكلّ تفاصيله، سواء كانت مبهجة أو مؤلمة. وفي خضمّ الأزمات والحروب، يجد الفنّانون التشكيليّون في لوحاتهم ملاذًا للتعبير عن معاناتهم الفرديّة والعامّة، وتوثيق لحظات تاريخيّة فارقة. هؤلاء أبطال حقيقيّون، لا يوثّقون لحظات تاريخيّة مهمّة فحسب، بل يساهمون في تشكيل الوعي الجماعيّ، وإلهام الأجيال القادمة.