أنبياء باختيارات شعبيّة.. لهم المقامات والمزارات والأموال المبذولة

إذا ما تحقّقنا من عمليّات التحديث الطارئة على هندسة المقامات والمزارات في جبل عامل والبقاع، سنكتشف أنّ معظمها كان بسيطًا، بساطة بيوت القرى، حيث كان شظف العيش ديدنًا على الجميع، وما تجديد المقامات والاهتمام بقبابها وزخارفها، واليافطات المشيرة إليها، سوى نتاج متغيّرين اثنين، متقاربين زمنيًّا إلى حدٍّ ما.

ربّما تعود إلى طفرة فرص عمل اللبنانيّين في الخليج وأفريقيا، التي هبَّت في السبعينيّات والثمانينيّات، ثمّ انتصار الثورة في إيران، ما انعكس على شيعة لبنان ممّن أعادوا تخليق عقيدتهم، فتبدّل اللباس والطقوس والشعارات والمساجد والحسينيّات، ومن ضمنها تمّ الالتفات إلى المقامات “المبهمة” نسبيًّا والمهملة، لناحية أصل حكاياتها، وجدّيّة مصادرها وإثباتاتها.

لقد كانت مطارحَ بسيطةٍ متقشّفة، من بضعة حجارة، وربّما تجد رخامة دُوّن عليها اسم صاحب المزار. وإذا ما دقّقنا بتلك المرويّات الشعبيّة وحولها، سنجد أنّ أكثر تلك القبور “المقدّسة”، تحتضن رفات رجال أو نساء، كان لهم تقدير عند الناس، في حقبة تاريخيّة ما، جرّاء حدث معيّن، أو لقاء تفسير حلم أو تغيير في طقس، أو مساهمة في شفاء مريض. هكذا قرّر الناس أنّ زائرهم هذا، كان مُرسلًا من السماء، فيقدّرونه ثم يقلّدونه قداسة ورتبًا دينيّة بمعظمها: نبيّ، وليّ صالح، صحابيّ، شيخ جليل وغيرها.

طفرة تمويل وترميم

على الأغلب الأعمّ، لم يقم الحزبَان الشيعيّان بإنفاق مبالغ ماليّة بشكل مباشر على تجديد تلك المزارات، لناحية ترميم البناء أو إعادته، بل تكفّل الأمر بعض الميسورين في تلك القرى، وهُم بطبيعة الحال مؤيّدون إمّا لحزب الله أو لحركة أمل. هكذا صار للمكان هيبة ومرجعيّة ومفتاح، وسرديّة يردّدها الجميع، ومنامات كثيرة عن صاحب المقام، ونذور تُعقَد وتُوفى، وشموع توقَد، وكرامات تتحقّق.

على الأغلب الأعمّ، لم يقم الحزبَان الشيعيّان بإنفاق مبالغ ماليّة بشكل مباشر على تجديد تلك المزارات، لناحية ترميم البناء أو إعادته، بل تكفّل الأمر بعض الميسورين في تلك القرى، وهُم بطبيعة الحال مؤيّدون إمّا لحزب الله أو لحركة أمل.

لم يوظَّف الأمر بشكل مباشر بالأيديولوجيا، حيث يمتزج الدينيّ الميتافيزيقيّ، بالحزبيّ العضويّ الآنيّ، الساعي إلى توظيف جميع العناصر، لمصلحة مشروعه، ولذلك جرى تكريس وتعظيم تلك المقامات، وكان بحدّ ذاته إسهامًا في عملية تعزيز التعبئة، وترسيخ الإيمان، والاستفادة من كلّ المجريات لتحصين البنية الروحيّة في نفوس المحازبين والمناصرين.

جمعية “قبس”

لم يطل الأمر عند حزب الله فسارع إلى مأسسة الموضوع، فنشأت جمعيّة تحمل اسم “قبس”، دورها تقفّي آثار المقامات وأسماء أصحابها، واحتمال ورود تلك الشخصيّات في النصوص التاريخيّة، وعليه يتمّ تحديد الأصيل من الخرافيّ، ومن ثم تبدأ رحلة التوثيق والترميم، والإضاءة على المكان وصاحبه.

لم يحتاج الحزب أو الحركة إلى وضع راياتهما في تلك المقامات، وحسنًا فعلوا بتجنّبهم هذا الأمر، إذ إنّهما لا يحتاجان لأكثر من ترسيخ البعد الدينيّ الوجدانّي في النفوس، وبذلك يحقّقان مرادهما، في مشروع تعزيز الهويّة، بعدما كادت تتسرّب ذات حقبة يساريّة جارفة.

مقامات بقاعيّة

على بعد رمية حجر من قبو “طحوش باي” الأثريّ، شرقيّ بلدة طاريّا، ثمّة قبّة زرقاء معدنيّة، تتوّج مقام النبي “نجّوم”، الذي يُقصَد من الزوار للتبرّك بقبره، وطلب الرجاء، في تلك المساحة الضيّقة التي يتوسّطها القبر، وإلى جانبه مكتبة صغيرة، فيها نسخ من القرآن الكريم وكتب الأدعية. كذلك هناك حوض ماء، “معجزته” أنّه ممتلئ ولا يفيض، وهناك سرديّات متناقلة حوله، تكاد تشي بأنّ شهرة “نجّوم” سببها العوض وبركاته.

مقام النبي نجّوم

أعداد كثيرة من بلدات البقاع تحمل أسماء أنبيائها، مثل النبي رشادة، والنبي شيت، وحام، والخضر، والنبي ايلا، وسباط. وفي العين مقام يسمّى النبي قاسم، وفي رسم الحدث مقام للنبي يوشع، من بين عدّة أنبياء سكنوا منطقة الخريبة، منهم: عطريف، وسيرج، وصخيرة، بينما مقام النبي يوسف في مغرّبون، وله مقام آخر في كفردان.

أمّا “أحد الضايع” فمقامه في حدث بعلبك، لتكون هناك حصّة للمرأة بمقام السيّدة البطحاء في سرعين الفوقا، وحفصة بنت معاذ بن جبل في حيّ الشراونة. لم نسمع بنبيّ اسمه “أسمر”، لكنّ لهذه الشخصيّة مقامها الخاصّ في بدنايل، بينما لـ”يونين” نبيّان: سليمان وعيسى. وهو حال طاريّا بنبيين كذلك هما إسماعيل ونجّوم، في حين يقع مقام النبي زبدة عند مجرى النهر الفاصل بين عين بورضاي والطيبة.

مقامات جنوبيّة

تقول المرويّة الشعبيّة إنّ نبيًّا كان يتكبّد عناء الصعود إلى أعلى الجبل في بلدة عرمتى، في قضاء جزّين. ثمّ يعيد الكرّة، مثل لعنة سيزيف ليصعد، متجاوزًا الصعاب والأشواك والصخور الحادّة، إلى أن شُلَّت قدماه. لهذا كرّمه الناس بأن بنوا له مقامًا عند سفح ذلك الجبل، مطلقين عليه اسم “مقام بو ركاب”، أيّ النبي الذي فقد ركبتيه، في سبيل غايته التي لم نعرف سببًا لها، سوى أنّه يفضّل التعبّد في تلك النقطة البعيدة عن البشر. الآن يتبع أهالي عرمتى والجوار، خطى ذلك “النبيّ”، حاملين الشموع الموقدة، مضمرين النذور، آملين بتحقّقها.

في القنطرة مقام آخر لرجل صالح، اسمه محمّد الشمعة، يعتقد أهل البلدة بكراماته، وتحقّق الأمنيات التي يوكلونه بها. ومنذ سنوات، تبرّع أحد المؤمنين لتجديد بناء ذلك المقام المجاور للمسجد. أمّا بلدة مركبا، فلها نبيّ اسمه مُنذر، مقامه مبنيّ بالحجر الصخريّ، بينما القبّة خضراء، تحوطه شجرات السرو.

“مقام بو ركاب” في قضاء جزين

بالنسبة للخضر، فله أكثر من مقام في لبنان، أحدها في البقاع، وثانيها في حومين التحتا، حيث تسجّل السرديّة أنّ رجلًا غريبًا بهيّ الطلعة، قد مرّ في البلدة وطلب من بعض المتواجدين شربة ماء، متمنيًّا لهم البركة والسعة في رزقهم، فقدمّوها له، ثمّ مشى، فتباركت غلالهم وزادت، فكان الاستنتاج أنّه الخضر، فأقامو له مزارًا بسيطًا للتبرك بذكرى هذا العبد الصالح، ثمّ جرت توسعة المكان، وتجديد البناء، حتّى صار معلمًا يزار للتبرّك.

وكانت حصّة الغازية، بنبيّ ذُكر اسمه مرّتين في القرآن، هو إدريس، فكان له مقام رمزيّ، بني حيث صلّى ذات مرّة. وكان المكان شديد البساطة إلى أن جاء متبرّعٌ بالتحسين والتفخيم، فكانت الزخارف الخشبيّة من الداخل، والقبّة الخضراء من الخارج.
في جويّا المقام للنبيّ الصيّاح، وكان مطاردًا من قبل “اليهود”، فوَشَت به امرأة، فمسخها الله إلى صخرة.

وكنّيت بلدة محيبيب باسم نبيّها محيبيب، في حين جادت علينا بلدة قعقعيّة الجسر بمقام محمّد بن الحسن القعقعاني. كذلك للنبيّ يعقوب مقام في بلدة روم، والنبي هارون في بلدة الخرطوم، وحزقيل في بلدة بلاط، والنبي ياثر في ياطر، والنبي آثا في حدّاثا، والنبي سُجد في بلدة سجد، وشمعون الصفا في بلدة شمع، والنبي عمران في القليلة، والنبي نوح في بلدة يانوح، والنبي يونس في كفرا، والولي العلماني (علمان- القصير) بينما مقام محمد بن يعقوب، مشيّد في بلدة الحلّوسيّة، وقد نبش قبره الاسرائيليّون في العام 1982.

في النبطية الفوقا ثمّة مقام يعرف بمقام “النبي” وينسب إلى “اليالوشيّ”، أحد تلامذة الشيخ محمّد مكّي العاملي المعروف بالشهيد الأول وهو أحد أبرز فقهاء الشيعة، واتّخذ من جزين مقرًّا له لإدارة أمور الشيعة في جبل عامل، وقد عيّن اليالوشي وكيلّا عنه في منطقة النبطية وكان له أتباع كثر. وقد قتل اليالوشي ودفن في النبطية الفوقا بعدما تمرّد على المرجعيّة الدينيّة ونحا بالتبشير نحو الصوفيّة.
في بلدة تول، المقام يحمل اسم محمّد أبو الأنوار، وفي الريحان، مقام يوشع بن نون، والنبي إسماعيل في صور، بينما لمدينة صيدا أكثر من مقام، منها مقام أبي روح، وأبو نخلة، والست نفيسة، بينما للنبي يحيى مقام في حارة صيدا.

بين كلّ هؤلاء، يكاد النبي ساري أن يكون الأشهر، كون مقامه مشيّدًا في عدلون على الأوتوستراد الرئيسيّ، وغالبيّة الجنوبيّين محكومة بالعبور من جانبه، بذلك البناء الجامع بين المسجد والمزار. المضحك المبكي هنا، أنّ العديد من حوادث السير تجري بالقرب من “ساري”، ما دفع بالبعض إلى تفسير الأمر بأنّ أسفلت الأوتوستراد، مفروش فوق أرض تعود للمقام، أيّ أنّها مسلوبة من حقّه، فغضب لذلك، وسبّب الحوادث المميتة!

مقام النبي ساري

بالنسبة إلى بلدة أنصار، فهناك عند طرف البلدة لناحية الغرب، مكان يسمّى “بلاط أبو كيلة” كدلالة على مرور وليّ صالح من هناك، وقد وقعت أكواز التين من الكيل (الوعاء) الذي يحمله، فنحتت مكانها في الصخر، بشكل مرئيّ وملموس. بعدها ثمّة من أدخل مرويّة أنّ الصحابيّ أبا ذرّ الغفاريّ زار أنصار، في فترة تواجده في جنوب لبنان، فجرى الاستنتاج أن “أبو كيلة” هو ذاته أبو ذرّ الغفاريّ، مع العلم أن لا وثيقة تؤكّد هذا الأمر.

مشاهد “خطط جبل عامل”

في خطط جبل عامل للسيّد محسن الأمين (الطبعة الأولى 1983 عن الدار العالميّة للطباعة والنشر) وتحت عنوان “مزارات جبل عامل ومشاهدها” ص 178، ورد ذكر أكثر من ثلاثين مشهدًا (مزارًا) معروفًا في جبل عامل، وهي بحسب ورودها: مشهد محيبيب (محيبيب)، مشهد النبي منذر (خربة ميس)، مشهد منذر (مركبا) مشهد العويذي (كفركلا) مشهد حزقيل (دبّين) مشهد بنات يعقوب (شقرا) مشهد شيت (برعشيت) مشهد جمال الحسن (حدّاثا) مشهد الصيّاح (جويّا) مشهد محمد نوف (البازوريّة) مشهد المعشوق (قرب صور)، مشهد ساري (عدلون) مشهد شمع (ساحل صور) مشهد النبي قاسم (قرب صور) مشهد صافي (فوق جباع) مشهد سجد (قمّة جبل الريحان) مشهد عليّ الطاهر (كفرتبنيت) مشهد أبو الركاب (عرمتى) مشهد هارون (خرطوم) مشهد أبو الروح (صيدا) مشهد الخضر (الصرفند) مشهد مار الياس (حارة صيدا) مشهد فارس البطاح (الدوير) مشهد تميم (الدوير) مشهد النبي جليل (الشرقيّة) مشهد نون (مشغرة) مشهد مري (مشغرة) مشهد يحيى (حانويه) مشهد صاليم (عربصاليم) مشهد محمد الباقر (عين قانا) مشهد إدريس (الغازية) مشهد النبي عازر (عازور- جزين) مشهد شحور (شحور) مشهد روبيل (طربيخا) ومشهد ناصر بن نصير (الخيام).

نذور الشموع اقتباس؟

قديمًا، كان زائرو المقامات يحملون معهم زجاجة (قارورة) مملوءة بمادّة الكاز، غايتها إيقاد القناديل (السراج) الموزّعة في أرجاء المقام المقصود، بغية الإضاءة، وهو كذلك نوع من إضفاء النور حول الضريح وفي أرجاء المزار. وكانوا يغادرون والسراج مشعّ بمداد النذر المنذور. تراجعت نذور “الكاز” بتراجع دور القناديل ووصول الكهرباء إلى كلّ مكان، وكذلك بالاستغناء عن مادة الكاز في استعمالات البيوت اليوميّة، فكانت الاستعاضة بالشموع.

لم يعرف التاريخ الإسلاميّ طقسًا دينيًّا مرتبطًا بالشموع، ولم تكن النذور مرتبطة بالشمع بأيّ شكل من الأشكال، والأرجح أنّ هذه الممارسة في بعض المقامات “الشيعيّة” ليست أكثر من عادة اقتبست من القرى والبلدات المسيحيّة، مثل دير الأحمر وبشوات وبرقا وجبولة والقاع، في البقاع، أو مثل مغدوشة وصربا والعيشيّة والكفور ودبل وعين إبل ورميش والقريّة وغيرها في الجنوب، خصوصًا أنّ بعض المسيحيّين يزورون تلك المقامات باعتبار أنّ لأصحابها أثرًا في المسيحيّة قبل الإسلام، مثل نوح، ويعقوب ويونس، مع الإشارة إلى أنّ بعض الشيعة يزورون مار شربل في عنّايا، ويضمرون النذور في حماه، ويطلبون منه الشفاء.

لم يعرف التاريخ الإسلاميّ طقسًا دينيًّا مرتبطًا بالشموع، ولم تكن النذور مرتبطة بالشمع بأيّ شكل من الأشكال، والأرجح أنّ هذه الممارسة في بعض المقامات “الشيعيّة” ليست أكثر من عادة اقتبست من القرى والبلدات المسيحيّة، مثل دير الأحمر وبشوات وبرقا وجبولة والقاع.

لكن من الناحية الشرعيّة، ثمّة إشكاليّات حول إيقاد الشموع في المزارات، تتراوح بين المكروه والمحرّم، بحسب المراجع والمذاهب، وهذه واحدة: “أمّا إشعال الشموع في المقامات، فليس من دين الله، وهو من البدع والمحدثات وفاعله مأزور غير مأجور إذ إنّه غلوّ في المقبور ووسيلة وذريعة للشرك بالله تعالى”.

العقل الجمعيّ

في لبنان مئات المقامات، المنتشرة في مختلف المناطق. وما مِن داعٍ للتسليم بأهمّيّتها الماورائيّة، في حين أنّ الدور التاريخيّ- التراثي بذاته يعطي القوّة والأصالة للمقام، حتّى لو كان وجود المقام مبنيًّا على حكاية شعبيّة متواترة بلا دليل.

للشعوب طرقهم في نسخ قناعاتهم أو نسجها، وأساليبهم في تقديمها والتعامل معها، فكما للشجرة جذور متشعّبة في الأرض، يحتاج صاحب القناعة الدينيّة إلى شواهد ومعالم وأدوات ملموسة، وحِكَم وعِبَر ومعجزات وكرامات، لتوليد الطمأنينة في اللاوعي الجمعيّ ليكون المكان مباركًا، وعين السماء علينا.

إنّها مسألة لها وجه سيكولوجيّ من دون شّك، خصوصًا لناحية تعليق الآمال الذاتيّة عند الأفراد؛ لكن ثمة جوانب سيسيولوجيّة أيضًا، وهي أكثر أهمّيّة عند الأحزاب الدينيّة، حيث الانكباب على توظيف المجتمع لتحقيق الأهداف، فتجري ترجمة الأمر في الانتخابات وفي “الصناديق”، أو في التجنيد العسكريّ. ليس بالضرورة أن يتمّ ذلك في قالب من الخبث والدهاء، بقدر ما هو قناعة متينة عند أصحابها، وربّما هذا النموذج أغرب من ذاك!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى