أنسي الحاج ابن قيتولي المسكون بالخوف
يُعتَبَر شاعر “الرأس المقطوع”، واحدًا من هؤلاء الذي يبرقون في العتمة، كلّما أوغل في الظلام يزداد لمعانًا. ربما لهذا أحبّ فيروز وكتب في صوتها أجمل ما استطاعته الأبجديّة.
كثيرة هي المؤشّرات التي دلّت على اختلاف الصبيّ عن أترابه: أسئلته، تأمّلاته، علاقته بالمعرفة، تصفّحه للجرائد والكتب، وكتاباته المبكرة. الأهمّ أنّه لم يحبّ المدرسة صغيرًا، ولا كبيرًا، معتبرًا إيّاها سجنًا يجب تغيير قوانينه، وإلغاء كثير من موادّه وساعات دراسته.
هو الذي تعلّم في مدارس فرنكوفونيّة، وكان البيت كذلك مدرسة بذاتها، بوجود الوالد لويس الحاج الصحافيّ الأشهر، والحرفيّ الذي ترأّس تحرير جريدة “النّهار” سنوات.
أمّا الدرس الأعظم الذي لم يبرح وعي أنسي ولا وعي الوالد، فهو وفاة والدته وهو في عمر السابعة. صدمة الانسلاخ القهريّ وغدر الحياة التي لم يأمن لها يومًا، ليكون الشاعر المسكون بالخوف، ولو أنّه الأكثر جرأة في مشروعه النثريّ، الذي طال فيه اللغة العربيّة أيضًا، مستنفرًا ضدّه مئات الأقلام العربيّة التي لم تتوقّف عن مهاجمته حيًّا وميتًا.
قيتولي الذاكرة
على الرغم من تنشئته البيروتيّة، كانت “قيتولي” جزءًا من التركيبة الشخصيّة لأنسي الذي أحبّ بلدته الجزّينيّة المتربّعة على تلّة تعلو فوق البحر نحو 950 مترًا ، بوداعتها وصنوبرها وقرميد بيوتها وجرس كنيستها. بلدة تكاد تخلو من الأصوات، لولا زقزقة عصافير النهار وغناء زيزان الليل.
يحفظ أنسي الكثير من جماليّات قريته، بينما يتذكّر من بيروت، غارات الطيران البريطانيّ والفرنسيّ (بقيادة الجنرال ديغول)، على ثكنات الجيش الفرنسيّ (بقيادة فيشي). كان ذلك في إبّان الحرب العالميّة الثانية التي يحفظ منها الحاج نداء بائع الصحف: “التلغراف: قنبلة ذرّية على هيروشيما”. كذلك يتذكّر أنسي والده لويس، الذي كان يفتح الراديو يوميًّا، كي يسجّل معلومات نشرات الأخبار من الإذاعات الأجنبيّة، ليستفيد منها في عمله في الصحيفة.
على الرغم من تنشئته البيروتيّة، كانت “قيتولي” جزءًا من التركيبة الشخصيّة لأنسي الذي أحبّ بلدته الجزّينيّة المتربّعة على تلّة تعلو فوق البحر نحو 950 مترًا ، بوداعتها وصنوبرها وقرميد بيوتها وجرس كنيستها
الأب المتسامح
تزوّج أنسي في العام 1957 من ليلى ضو ورزقا بندى ولويس. كان أبًا مثاليًّا في وقت قصير، حيث يجتمع بولديه لساعات قليلة ظهرًا بعد عودتهما من المدرسة، فيحكي لهما القصص السورياليّة المحمّلة بالمواقف الساخرة، كما كان يشتري لهما الكتب التي تنتظرها ندى بفارغ الصبر. تصفه ندى التي غدت شاعرة معروفة، بأنّه أبّ متسامح، بحيث كان يفكّك عنهما العقوبة التي تكون الوالدة قد قرّرتها.
تجلّت ارهاصات الكتابة عند أنسي الحاج بتحبير القصص القصيرة والقصائد، في المجلّات الأدبيّة، طارقًا باب الاحتراف، بينما كان تلميذًا على مقاعد الدراسة. ليدخل الصحافة في العام 1956 بشكل رسميّ في جريدة “الحياة” وكان يترأّس تحريرها كامل مروّة، لينتقل بعدها إلى “النهار”، فكان مدقّقًا في المطبعة للبروڤات.
ثم تنقّل كصحافيّ من صفحة القضاء إلى الاقتصاد والمحليّات، ثمّ الصفحة الأدبيّة، التي تولّى مسؤوليّتها، ثم ترأّس تحرير “النهار” بين عامي 1992 و2003. منصب استحقّه أنسي وأداره بشكل جيّد، بمباركة من غسّان تويني الذي آمن بعبقريّته وحكمته. سنوات لم يكتب في “النهار” إلّا في ما ندر وبأسماء مستعارة.
ثورة “لن”
في العام 1963 أصدر أنسي مجموعته الشعريّة/ النثرية “لن” عن “دار مجلّة شعر”، مفتتحًا الكتاب بمقدّمة طويلة عن المشروع الجديد للغّة، وأزمة القصيدة، ومأزق التعبير، مستفيدًا من المقالة/ البيان الذي اشتهرت به سوزان برنار في فرنسا، المحمّل بالاشكاليّات ذاتها.
بدورها كانت قصائده في “لن” جريئة بتكسيرها للغّة، بمقاربات غير مسبوقة، وقوالب غير مطروقة. لذلك بقي هذه الديوان أهمّ ما كتبه أنسي، وسيبقى حاضرًا في أيّ بحث تأريخيّ وتحليليّ للمسار الشعريّ الحديث في العالم العربي. هي ثورة على الورق، حيث تساءل أنسي في سنواته الأخيرة قائلًا: “جرّبت بـ “لن” تفجير اللغة، شو صار بعدين؟ بعدها لغة”. ثم يصف طريقة كتابته لذاك الديوان: “كلّما وصلت للغنائيّة، بخزّقها. كنت عم افتعل الكتابة”. بدوره يصف يوسف الخال ديوان أنسي قائلًا: “لن، بيضة الديك” إشارة إلى فرادة هذا العمل.
مجلّة “شعر”
كان أنسي أحد فرسان مجلّة “شعر” التي أطلقها الشاعر يوسف الخال في العام 1957، مع شوقي أبي شقرا، وأدونيس وفؤاد رفقة ومحمد الماغوط ونازك الملائكة، وآخرين ممّن آمنو بالتغيير الضروري لشكل القصيدة، والأدب عمومًا، فكانت خليّة ثوريّة فيها ما فيها من المحاولات والترجمات والنقد الحاد. مشروع تعرّض للعديد من الهجمات والتشكيك، لكن “شعر” استمرّت حتّى العام 1964، ثمّ وبطلب من غسان تويني ومتابعة من رياض الريس، عادت “شعر” للصدور سنة 1967 وتستمرّ حتّى خريف العام 1970.
خواتم “الناقد”
قبل أن ينشب الخلاف بين أنسي ورياض الريّس، كان للحاج أربعة صفحات ثابتة في كلّ عدد من أعداد مجلّة “الناقد” الأدبيّة التي أصدرها الريّس في أواخر التسعينيّات، وكانت تلك الشذرات مادّة كتابه “خواتم 1” الصادر في العام 1991، ثمّ “خواتم 2” الصادر في العام 1997، لتكون تلك الكتابات شكلًا آخر مطعّم بالأدب والفلسفة واللاهوت والشكّ، في قالب لغويّ رشيق ومكثّف وخاطف.
كلمات كلمات كلمات
بعد “لن”، أصدر الحاج: “الرأس المقطوع” (1963)، و”ماضي الأيام الآتية” (1965)، و”ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة” (1970)، و”الرسولة بشعرها الطويل حتّى الينابيع” (1975)، و”الوليمة” (1994). هو الذي يعتبر نفسه كسولًا لناحية النشر، كانت غالبية إصداراته بطلب وحثّ من أصدقائه، مثل أدونيس وبلند الحيدريّ ورياض الريس وغسّان تويني.
بعد “لن”، أصدر الحاج: “الرأس المقطوع” (1963)، و”ماضي الأيام الآتية” (1965)، و”ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة” (1970)، و”الرسولة بشعرها الطويل حتّى الينابيع” (1975)، و”الوليمة”
كذلك لأنسي كتاب مقالات في ثلاثة أجزاء هو “كلمات كلمات كلمات” (1978). كذلك تُرجمت مختارات من قصائده إلى لغات عديدة، منها الفرنسية والإنكليزية والبرتغالية والأرمنيّة والألمانية. وصدرت أنطولوجيا “الأبد الطيّار” بالفرنسيّة في بّاريس عن دار “أكت سود” العام 1997، وأنطولوجيا “الحبّ والذئب الحبّ وغيري” بالألمانيّة مع الأصول العربيّة في برلين العام 1998. الأولى أشرف عليها وقدّم لها عبد القادر الجنابي والأخرى ترجمها خالد المعالي وهربرت بيكر. بينما صدر كتاب شذرات له بعد رحيله بعنوان “كان هذا سهوًا” عن دار نوفل.
أنسي وفيروز
في وقت مبكر، كتب الحاج مقالين عن السيّدة فيروز، ما لفت أنظار الأخوين رحباني، فأنسي رفض في مقالاته مبدأ المقارنة بين صوتها وبين أصوات مطربات أخريات، معتبرًا أنّ في صوت فيروز، فوق الجمال والبراعة، “شيئًا أكثر” كما سمّاه، معتبرًا أنّه “العامل الغامض الذي لا يستطيع أحد له تفسيرًا، والذي سيظل يحيّره، كما يظل كلّ “شيء أكثر” في الخليقة يحيّر العقل والتحليل”.
توصيف لم يبلغه ناقد من قبله، حقّق التعارف واللقاء الذي استمر مع الثلاثيّ، ولتبقى فيروز تلك الساحرة بالنسبة له، حتّى كتب عنها حلقات في جريدة “الأخبار”. مع ذلك لم يحصل أيّ تعاون فنّي بين الحاج وفيروز، بينما غنّت له ماجدة الرومي أُغنيتين هما “إبحث عنّي”، و”شعوب من عشاق”.
أنسي في “الأخبار”
بينما كان مشروع جريدة “الأخبار” في مرحلة التبلور بين جوزف سماحة وابراهيم الامين، اقترح عليهما زياد الرحباني أن يكون هناك تعاون بين الجريدة وأنسي الحاج، وكان زياد عرّاب جلسة رباعيّة، أفضت إلى تعيين أنسي مستشارًا للجريدة، ليبادر هو في ما بعد بكتابة مقالة أسبوعيّة، دامت سنوات، بمساحة حرّيّة مطلقة، إلى درجة أنّ الأمين قال في مقابلة عن أنسي: “مين بيسترجي يراجعلو نصّو”. أمّا الآليّة فكانت كتابة أنسي على الورق، ثم تتمّ طباعة المقالة وتدقيقها، لتعود إليه ويراجعها، ثم ترسل للنشر.
أجرأ خائف
ظنّ بعض الأهل والأصدقاء أنّ سهر أنسي حتى ساعات الصباح الأولى، هو حبّ من قبله للّيل، عادة الشعراء والفنّانين، ليكشف هو في حوارت في ما بعد أنّه يخاف من الليل، ولا يريد أن يعطيه ظهره. بينما النهار أكثر احتشادًا، حيث أنّ الحياة تجري في كينونته.
“خلقت خايف. في صوَر إلي أنا وصغير فيهن خوف، كأنّو مسكون، إذا منرجع للخرافات القديمة، بطلع أنا مسكون. أوّل كلمة بـ”لن” أخاف”. ثم يضيف في حديث آخر: “الليل العدوّ الأساسيّ. ما بحبّو، بئر عم إتجنّب أوقع فيها. الهدوء الشيء الوحيد الايجابيّ بالليل. أقرأ بالليل وبكتب. أنا جبان. هرّيب مستمرّ. بالكتابة الشجاعة ما إلها فضل”.
مع ذلك إذا حدث واضطرّ الحاج للنوم ليلًا، فهو يشعل الأضواء رافضًا أيّ علامة من علامات العتمة. في الغالب يردّ خوفه من الليل إلى خوفه من الموت، حيث كانت صدمة رحيل أمّه بمرض عضال. المرض الذي كان يهجس به حتّى أصابه في آخر سنوات حياته، ليرحل في اليوم الثامن عشر من شهر شباط 2014، عن سبعة وسبعين عامًا. فيقول عنه الشاعر عصام العبدالله: “أنسي الحاج من هؤلاء الذين يتركون توقيعهم على الزمان”.
إيمان اللّاديني
يعترف أنسي أنّ شخصيّته حسّاسة، مرتبطة بجهازه العصبيّ، وتحمل الكثير من التناقضات، ومن تلك التناقضات لادينيّته القديمة ومشاكسته للسماء، بينما يعتبر في آخر سنوات مرضه أنّ القدّيسة ريتّا، عنوان مبارك لحياته، هي التي منحته معجزتين، لا يحبّ أن يحكي عنهما. في مرّة نظر لصورة العذراء وقال: “هيّي الخلاص، هيّي الخلق”.