أيّام دكاكين القرى.. متاجر برتبة “أسواق” وصيدليّات ومصارف

قديماً كان الدكّان مركزاً تجاريّاً، تحتشد فيه معظم حاجيّات أهل القرية، من حبوب ومعلّبات وسكّر وملح وزيت، كذلك بعض صنوف الحلوى، والمشتقّات النفطيّة، ولوازم الصيد، وعدّة النجارة، وصولاً إلى قبّعات القشّ، وطابات اللعب، والمشمّعات، وقضبان الخيزران، من دون أن ننسى “فخذ البقر” الذي يُعلَّق عند باب الدكّان في يوم محدّد، من أيّام الأسبوع، يحفظه أهالي القرية كافّة.

في البداية، كانت غالبيّة أبواب الدكاكين خشبيّة، كذلك الطاولة التي تُعرَض عليها البضائع والرفوف. ثمّ غدت بعض تلك الأبواب معدنيّة، مشغولة على يديّ حدّاد الضيعة، ثمّ أتى زمن الجرّارات التي تُعقَل بأقفال نحاسيّة.

لا، لم يكن أيّ صنف من تلك الأصناف ركيزة الدكّان، بل السرّ كلّ السرّ يكمن في دفتر الدَّين، حيث تدوّن الأسماء، والسلع التي تمّت استدانتها، على وعد تسديد المبلغ مع حلول موسم ما. والموسم هنا، يعني جني المال من بيع الرزق الذي جادت به الأرض، بعد فلاحة، ونثر البذار، وعناية بالشتلات، أو الثمرات، بحسب كلّ مزارع ونوع مزروعاته.

بعض هؤلاء لا يسدّدون ديونهم بواسطة عملات نقديّة، إنّما بتقديم نسبة من المنتج الزراعيّ إلى صاحب الدكّان، وقد يكون قمحاً، أو عدساً، أو فولاً وغيرها…

دكاكين قديمة في حاصبيا (تصوير كامل جابر)
الحلونجي

كانت معظم أصناف الحلوى تتربّع وسط بعض الدكاكين قديماً، مؤلَّفة من مكوّنات غير مكلفة، ولا معقّدة، فتسمح لفقراء القرى بتذوّقها لرخص أثمانها، ذلك لأنّها تتكوّن من سكّر وطحين وزيت، وقد يدخل عليها الحليب كمكوّن إضافيّ، مع قطرات من ماء الزّهر أو الورد. لذلك كانت العوّامة مثلاً، مع المشبّك، على رأس القائمة، تليها النمّورة والصفوف وسميدة غرَيْبة.

أصناف كان يصنعها “أبو شقرا” في النبطية، ليبيعها في محلّه، وكان يقوم بتوزيعها على بعض الدكاكين في قرى القضاء. بعض أصحاب الدكاكين تعلّموا الصنعة، فصاروا هم “حلونجيّة” القرى، ليوفّروا على جيوبهم بعض التكاليف الإضافيّة.

في الاعياد، كانت تتزايد سدور الحلوى، وتتضاعف كمّيّاتها، إذ يخصّص الأولاد جزءاً من “عيديّاتهم” ليتناولوا تلك الكرات المغمّسة بالقطر، أو المربّعات المختومة باللّوز.

في الاعياد، كانت تتزايد سدور الحلوى، وتتضاعف كمّيّاتها، إذ يخصّص الأولاد جزءاً من “عيديّاتهم” ليتناولوا تلك الكرات المغمّسة بالقطر، أو المربّعات المختومة باللّوز.

لكن، لم يكن الواقع مثاليّاً كلّ الوقت، ذلك أن الروابي القريبة، والحقول البعيدة، خير جاذب للذباب والنحل والزلاقط، وغيرها من الحشرات التي لن تألوا جهداً للعثور على حلوى الدكاكين، فتحوم فوقها، ويقترب بعضها، ومنها ما يغرق في القطر، فينشغل صاحب الدكّان، بالهشّ والمطاردة، وغالباً ما يلجأ إلى تغطيّة السدور بالناموسيّة، أو بغطاء بلاستيكيّ.

الدكان الصيدليّة

في تلك الأيام كانت بعض زوايا الدكاكين، أشبه بصيدليّات مصغّرة، من دون أيّ حاجة للتراخيص من الجهات المعنيّة في الدولة، فعلى تلك الرفوف سوف تجد وصفات علاجيّة، وأدوية شائعة، ومواد تطهير للجروح، ولتضميدها. هي عناصر استطباب أوّليّة، متقاطعة مع الحاجات الضروريّة، مثل الجروح والفدوغ وآلام الظهر، والبطن والرأس والحروق.

من تلك المواد نذكر: المرهم الأسود، الدواء الأحمر، سبيرتو أزرق، سبيرتو أبيض، صبغة اليود، اللزقة الأميركيّة، أسبرو، أسبيرين، سرغس للشربة، ديجينا، مرهم التهاب أبيض، إضافة إلى القطن، والشاش، ولاصق الجروح، ومسكّن آلام الأضراس والبودرة.

شاهد على ذلك الزمان

لمعايشة حال الدكّان القديم، بعين البائع وليس الزبون، كان لـ”مناطق. نت”، لقاءٌ مع أحدهم، ممّن ساعدوا آبائهم في شغل الدكان، وهو يحفظ جلّ المعروضات حتّى يومنا هذا، بعد مرور ما يفوق ستّين عاماً على تلك الذكريات. يقول الاستاذ سعدالله، الذي أصبح معلّماً في مدرسة الضيعة: “امتلك والدي عقلاً تجاريّاً مميّزاً، تجلَّى في أسلوبه في الحساب، هو الذي عرف الكتابة والقراءة في زمن قلّ فيه المتعلّمون.

افتتح دكّانه في ساحة البلدة نحو العام 1925، وكان عبارة عن متجر كبير إذا ما حسبنا أنواع البضائع التي يقدّمها، من شكلات (ربطات شعر)، وأدوات خياطة مثل الأزرار والسحّابات والأبر والبكرات السوداء والبيضاء. ومن الخردوات باع أبي المسامير الصغيرة والكبيرة والغالات والأقفال، كما باع القنديل نمرة أربعة، والقنديل نمرة ثلاثة، وفتائل هذه القناديل والكاز.

من البهارات هناك الفلفل الأسود والكمّون واليانسون وجوز الطيب، والمحلب ودقّة الكعك. باع المعلّبات والأجبان، والأرز والسكّر. كان في المتجر كذلك قسم لبيع الثياب (نوڤوتيه)، والثياب الداخلية، وأثواب قماش فتباع بالمتر أو الذراع، وبيوت (أغطية) الوسائد والفرش، وقبّعات صيفيّة (من قشّ)، وشتويّة (من صوف)، وشالات وأحزمة خصر.

دكاكين قديمة في ساحة بلدة أنصار (تصوير زكريا صفاوي)

في الدكان الصغير ثمّة أحذية ومشايّات، والأنتريك (المصباح اليدوي) ولمباته وبطّاريّاته. كذلك البوظة والمياه الغازيّة، والدخان الفلت (التبغ). كانت سجائر “لوكي” بليرة ونصف الليرة. “بافرا” بـ 65 قرشاً، “زودياك” بـ65 قرشاً، “تاطلي” عريضة بـ40 قرشاً، تاطلي رفيعة بـ 35 قرشاً. وكانت في متجر أبي الفاكهة كالتفاح والعنب والخضار والحبوب وغيرها. وفي مواسم الأعياد كان والدي يبيع فرودة الفلّين (المسدّسات البلاستيكية)، الفتّيش (المفرقعات)، القجج (الحصالات)، الطابات، البالونات والزمّور. وكانت مصادر بضائع الدكان النبطية، أو سوق “المعرض”، أو باب إدريس في بيروت”.

يتابع الاستاذ سعد الله قائلاً: “كنت أذهب معه إلى بيروت، فيشتري البضائع، ويشتري لي بعض الأغراض الخاصّة. ذات مرة اشترى لي بيجاما من بائع يهوديّ في بيروت. كنا نتناول طعام الغداء في “المعرض” من رأس نيفا، وكنا نشرب الجلّاب. كنّا نوزّع بعض ما تجود به الطبيعة هنا، خصوصاً البيض، وفي المقابل نحمل معنا السلع التي سوف نحتاجها في الدكان”.

يختم استاذ المدرسة كلامه، بتوصيف لباس والده، فيقول: “في البداية لبس أبي الشروال والطربوش، بعدها صار لباسه عاديّاً، لكنّه احتفظ بالطربوش على رأسه. كان يهتمّ بأناقته. على فكرة، في الدكّان عينه، اشتغل الوالد في كار الحلاقة، وكان يُطعم بعض الزبائن العوامة في أثناء الحلاقة”.

ساحة جباع ترصد التحولات بين التراث والحداثة (تصوير كامل جابر)
المصرف المصغَّر

كونهم من أكثر وجوه القرية تعاملاً مع المال، نقداً وديناً وربحاً وادّخاراً، كان يتحوّل بعض أصحاب الدكاكين، إلى “مديري” مصارف مصغّرة، إذ تقوم بعض النسوة بتخبئة أموالهنّ مع البائع، حتى يكتمل المبلغ للحجّ إلى بيت الله الحرام. وكان البعض يقوم بالإقتراض من البائع، لقاء تسديد المبلغ مع حلول الموسم، وهو إجراء لا يخلو من شبهة الرّبا، حيث يتمّ الدفع مع الفائدة. ولتذليل العقبة الشرعيّة، كان بعض هؤلاء يقرنون الدَّين بقطعة بسيطة من الدكان، ثم يرفعون سعرها بنسبة عالية جدّاً، وبذلك يحصلون على الفائدة من خلال تسعير تلك السلعة، وغالباً ما تكون صابونة.

البائعات

في تلك الأيام، من النادر جدّاً أن تكون صاحبة الدكّان إمرأة، وإن حصل ذلك، فهي على الأرجح أرملة جارت عليها الظروف، فكانت هذه التجارة باب رزق لتحصيل قُوْتها وقُوْت عيالها. هي مجتمعات ذكوريّة بطبيعة الحال، لكنّ المستغرب أنّ تلك البيئة تسمح للمرأة بالعمل في الحقل، وحمل جرار المياه على الرؤوس والأكتاف من عين الضيعة، بينما تتولّد الإشكاليّة مع جلوس المرأة على كرسيّ، وتعاملها مع التجّار والزبائن، وأن تدير تجارتها بنفسها. هنا بيت القصيد. كانت هناك ريبة من الاستقلال الماليّ والإداري عند المرأة، الذي سينتج خيارات مستقلة بطبيعة الحال.

كان يتحوّل بعض أصحاب الدكاكين، إلى “مديري” مصارف مصغّرة، إذ تقوم بعض النسوة بتخبئة أموالهنّ مع البائع، حتى يكتمل المبلغ للحجّ إلى بيت الله الحرام

من هنا، سمح المجتمع الرّيفيّ للمرأة بأن تدخل “سوق” البيع والشراء، إنّما بدرجات منخفضة، وعبر سلع بسيطة، والأهم، بأن يكون دكّانها تابعاً للبيت، وهو ما شهدته الكثير من القرى، حيث تبيع السيّدات من بيوتهنّ بعض المواد الغذائيّة، أو الألبسة والأقمشة.

الماضي الذي لم يغادر

حتّى يومنا هذا، لم تفقد بعض القرى النائية، أو ذات العدد الضئيل من السكّان، سمات ذلك الدكّان القديم ومواصفاته، التي تناولناها، كجزء من الماضي. أمّا اليوم، فثمّة قرى بدكّان واحد، وربما قد يجاوره الفرّان، أو الحلّاق أو الجزّار. وللأسباب عينها، سوف تحتوي تلك الدكاكين على مواد وسلع غير منسجمة، مثل الفحم، والألعاب، والحلوى، وبطاقات شحن الهاتف، وأقراص ممغنطة لأفلام وأغنيات. إضافة إلى الدفاتر والقرطاسيّة، وعلب المعسّل.

الصورة النمطية التي كانت سائدة في ساحات القرى.. كبار السن يقلّبون الأيام (الصورة من بلدة الطيبة تصوير كامل جابر)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى