إغتيال “فرويد”.. عن الممارسات غير المهنية لبعض المعالجين النفسيين في الجنوب
من الأمور اللافتة جدًا في الجنوب، هو التطور الحاصل في مجال العلاج النفسي والنظرة المجتمعية التي تغيّرت كثيرًا بشأنه. هذه النظرة التي كانت أسيرة “التنميط” حيث زيارة الطبيب أو المعالج النفسي تندرج تحت مسميات “العيب” أو “الجنون”، أصبحت اليوم حاجة ملحّة في بلد لم يترك شيئًا إلا وفعله لكي “لا” يبقى مواطنوه أسوياء نفسيًا.
لكن، ما يجدر الإشارة إليه تحديدًا هو تلك السلوكيات التي حصلت وتحصل خلف الكواليس، وداخل العيادات ذات الأبواب الموصدة، حيث يوجد العديد من المعالجين والأطباء النفسيين الذين يفرضون معتقداتهم الخاصة، تحديدًا الشخصية والدينية منها، على طالبي خدمة العلاج النفسي لتحقيق غايات معينة، وهذا أمر لا يمكن تجاهله نظرًا لخطورته.
لا يمكن التعميم طبعًا، لأن ذلك يؤدي إلى الوقوع في فخ التشوهات المعرفية التي تعيق طريقة تفكيرنا ونظرتنا لأنفسنا وللآخرين وللعالم الخارجي. ولكن عند الغوص عميقًا في هذه القضية، يتبيّن وجود مُمارسات خطيرة تُلحق الأذى بصورة هذه المهنة من جهة، وبطالبي الخدمة النفسية من جهة أخرى، وذلك انطلاقًا من تجارب بعض الأشخاص الذين التقتهم “مناطق.نت” واختبروا مثل هذه المواقف، وأيضًا ما نراه على مواقع التواصل الإجتماعي من تحيّزات، ومن آراء وأساليب لا تليق أبدًا بحق كل من يمارس مهنة العلاج النفسي، ولا حتى بطالبي تلك الحاجة.
يوجد العديد من المعالجين والأطباء النفسيين الذين يفرضون معتقداتهم الخاصة، تحديدًا الشخصية والدينية منها، على طالبي خدمة العلاج النفسي لتحقيق غايات معينة، وهذا أمر لا يمكن تجاهله نظرًا لخطورته
في مجال الصحة العقلية، يُعتمد العلاج النفسي كحجر أساس في ذلك، وهو يهدف إلى مساعدة الأفراد للتغلب على التحديات النفسية وعيش حياة مُرْضِية. لكن في رحلة السعي وراء الشفاء والعلاج، يُسجّل في حالات عديدة مخالفات جسيمة يرتكبها المعالجين والأطباء النفسيين، تتعلّق بالنزاهة والسلوك الأخلاقي والمعايير الواجب اعتمادها في ذلك.
ممارسات غير مهنية
من خلال تسليط الضوء على تلك القضية، يتبيّن وجود ممارسات غير مهنية لدى بعض المعالجين والأطباء النفسيين في الجنوب. وهي تؤدي إلى تقويض أسس علم النفس والأخلاق المهنية. يتجلى ذلك من خلال انتشار الممارسات المعادية لمجتمع الميم عين لام+، وفرض المعتقدات الدينية على طالبي الخدمة النفسية، والتي تديم التحيزات الضارة وتعيق التقدم نحو رعاية الصحة العقلية الشاملة.
بدايةً من رهاب المثلية الجنسية، مرورًا بإطلاق مسميات على المرأة التي تخلع حجابها وحصرها ضمن فئات ومسميات معينة من الإضطرابات الشخصية والأمراض النفسية، وصولًا إلى الإصرار على تغيير القناعات الدينية بناءً على ما يتناسب مع معتقدات المعالج، تتنوع الأساليب المؤذية، لكنها تندرج جميعها تحت عنوان عريض ورئيسي هو “إستغلال المعالج لسلطته العيادية”.
يعتبر ألبرت إيليس، وهو أحد أبرز علماء النفس الأميركيين، ومؤسس مقاربة علاجية مهدت الطريق للثورة والتطور الحاصلين في مجال علم النفس في أيامنا هذه، أن دمج بعض المعتقدات الدينية ضمن تقنيات العلاج السلوكي العقلاني الإنفعالي قد تكون فعّالة مع بعض الأفراد المتدينين، شرط أن يكون بموافقتهم بالدرجة الأولى وبرغبة منهم. ولكن ما يحصل خلف الأبواب العيادية عند بعض المعالجين، قد يتعدى حدود ذلك، ليصبح نوعًا من أنواع الإرهاب ومحاولات الإقناع المؤذية ذات الطابع الإقتحامي.
يعتبر ألبرت إيليس أن دمج بعض المعتقدات الدينية ضمن تقنيات العلاج السلوكي العقلاني الإنفعالي قد تكون فعّالة مع بعض الأفراد المتدينين، شرط أن يكون بموافقتهم بالدرجة الأولى وبرغبة منهم
شهادات حية
يروي “م. ف.”، وهو طالب سنة ثانية في إختصاص علم النفس، عن تجربته مع العلاج النفسي في إحدى العيادات النفسية الخاصة في الجنوب. يقول لـ “مناطق نت” إنه “في الجلسة الثانية لي عند أحد المعالجين النفسيين، سألني مباشرةً عن ما إذا كنت أصلّي أم لا. كانت إجابتي مباشرة وواضحة بـ”لا”. وعند سؤاله عن السبب، أجبته يومها بكل صراحة بأنني لا أصلي، لأنني شخص لا يؤمن بوجود إله”. يتابع “م. ف.” أن “أسلوب الطبيب كان محاطًا بالكثير من الغرابة، وتحديدًا عندما حاول إقناعي مرات عدّة بأن أؤديها كشكل من أشكال اليوغا، حيث قال لي “المهم أن تقوم بأدائها”!
أسلوب الإصرار لدى الطبيب لم يكن مريحًا أبدًا بحسب “م. ف.”، بل جعله متيقظًا خلال جلساته اللاحقة معه، حتى لا يجرّه كما أشار إلى ما يريد. “م. ف.” شرح عن الناس الذين لا يمكنهم أن يبقوا متيقظين وحذرين من هذه الأساليب، الأمر الذي يسهّل التلاعب بهم لتحقيق غايات خاصة”.
يستطرد “م. ف.” عن الطبيب المعالج: “أخبرني يومها بأن عدم إيماني بوجود إله ناتج عن إضطراب نفسي ومشاكل في دينامية الأسرة، وأنه ليس خيارًا البتة، وهذا ما أزعجني جدًا”.
أسلوب الإصرار لدى الطبيب لم يكن مريحًا أبدًا بحسب “م. ف.”، بل جعله متيقظًا خلال جلساته اللاحقة معه، حتى لا يجرّه كما أشار إلى ما يريد
أما “أ.ع.”، الذي رفض الكشف عن هويته أيضًا بهدف حماية نفسه، فكشف لـ “مناطق.نت” عن تعرضه للتمييز والتهميش من قبل أحد الأطباء النفسيين في المركز النفسي التابع للهيئة الصحية الإسلامية في النبطية، حيث قال: “إضطررت لزيارة طبيب نفسي هناك، لأنني أعاني من إكتئاب حاد منذ فترة طويلة. رحب بي ترحيبًا مميزًا منذ لحظة دخولي، لتتحول ملامح وجهه إلى ملامح متهجمة بعد أن أخبرته عن ميولي الجنسية المثلية، حيث قال لي دون أي تردد، وقد أشاح بنظره عني: “شخصيًا، أنا لا أتقبل المثلية الجنسية أبدًا. إذا كنت ترغب بأن تتعالج منها، سأدلّك على معالج متمرس بالعلاج التحويلي، لتتخلص من ميولك هذه”.
يتابع “أ.ع.” “أجبته يومها بأنني لم أسأل عن رأيه الشخصي، الذي يجب أن يحتفظ به لنفسه، وخرجت دون العودة مرة أخرى إليه. ما كان صادمًا بالنسبة لي، هو أنني لم أكن أتوقع أن أسمع الكلمات عينها التي تقال في الشارع في عيادة نفسية! توقعت أن أجد القبول هناك، لكنني أعتقد أن خياري كان خاطئًا”، يختم كلامه.
معاداة لمجتمع الميم عين لام +
هذا النموذج من الأطباء النفسيين والمعالجين النفسيين، يتمدد ليصبح آراء علنية معادية لمجتمع الميم عين لام + على مواقع التواصل الإجتماعي، دون أن يلتفت هؤلاء المعالجين والأطباء إلى أن هناك شريحة من الناس تتبنى آرائهم ككلام مقدس لا لبس فيه، مما يعمّق الخطاب المعادي لهذه الفئة من المجتمع.
هذه الممارسات التي ليس لها أي أساس علمي. تقوض مبادئ العلاج النفسي القائم على التعاطف بالدرجة الأولى، والتقبل غير المشروط لطالب الخدمة النفسية، وبناء جسر الثقة والاستقلالية والكرامة المتأصلة للفرد.
هذه الممارسات التي ليس لها أي أساس علمي. تقوض مبادئ العلاج النفسي القائم على التعاطف بالدرجة الأولى، والتقبل غير المشروط لطالب الخدمة النفسية، وبناء جسر الثقة والاستقلالية والكرامة المتأصلة للفرد.
من خلال إدامة فكرة أن المثلية الجنسية هي مشكلة يجب إصلاحها، ووصمهم، يساهم هؤلاء المعالجين والأطباء النفسيين بترسيخ ثقافة العداء ضد أفراد مجتمع الميم عين لام +، وإلحاق الأذى بهم، بدلًا من تقديم الدعم الذي يحتاجون إليه.
يهدف الاستخدام المجازي لعبارة “اغتيال فرويد” في جنوب لبنان، للإشارة إلى إماتة أسس علم النفس والأخلاق المهنية بسبب انتشار الممارسات غير الأخلاقية وغير المهنية بين بعض المعالجين والأطباء النفسيين، والتي تعيق التقدم نحو رعاية الصحة العقلية الشاملة. ومن خلال الاعتراف بالحاجة الملحّة لمعالجة هذه القضايا وتنفيذ الإصلاحات اللازمة، يمكن للعاملين في مجال العلاج النفسي وطالبي خدماته في جنوب لبنان الحفاظ على سلامة المجال، وتعزيز السلوك الأخلاقي والمهني، وتوفير مساحة آمنة وشاملة للأفراد الذين يسعون للعلاج والدعم.