إيليا سليمان.. “حنظلة” السّينما الفلسطينيّة
على مدى عقود من الزّمن مرورًا ب”طوفان الأقصى” قاومت فلسطين وأهلها بكلّ ما تملك من طرق وطاقات للمقاومة، بدايةً من السّلاح والصّوت والحجارة والكلمة، وصولًا إلى الصّورة، الّتي هي سيّدة الكلمة والتأثير اليوم. وهو ما كان له تأثيرٌ ضخمٌ، قد لا يقلّ تأثيرًا عن المقاومة العسكريّة، من حيث تبلور وتثبيت وتغيير وجهات نظر متضاربة حول القضيّة والفلسطينيّين. وهذا بالتّحديد ما كان يدفع بالعدوّ الإسرائيلي لاستهداف وكتم أصوات الأدباء والشعراء والصّحافيّين والفنّانين الفلسطينيّين، إن كان بالقتل أو بالتّهديد أو بالأسر.
وكشكلٍ من أشكال المقاومة خلق ناجي العلي “حنظلة” في العام 1969، وتحوّل إلى رمز يعبّر عن الفلسطينيّين وعن قضيّتهم وتمسّكهم بالأرض. إلى أن أتى المخرج الفلسطيني إبن الناصرة إيليا سليمان بعد أعوام ليجدّد فكرة حنظلة بحدّ ذاتها ولكن بطريقته ورؤيته الخاصّة، من خلال السينما.
كشكلٍ من أشكال المقاومة خلق ناجي العلي “حنظلة” في العام 1969، وتحوّل إلى رمز يعبّر عن الفلسطينيّين، إلى أن أتى المخرج الفلسطيني إيليا سليمان بعد أعوام ليجدّد فكرة حنظلة بحدّ ذاتها، من خلال السينما.
بدايات السّينما الفلسطينيّة: ما قبل النكبة وبعدها
على الرّغم من أنّ السّينما الفلسطينيّة (1935) ظهرت متأخّرة عن غيرها كالسينما المصريّة سنة 1923 والسينما السّورية سنة 1928، إلّا أنّ دُور “السينما” كانت موجودة في فلسطين منذ العام 1908 وفي مدينة القدس تحديدًا.
كانت بداية السينما الفلسطينية مع أول مخرج فلسطيني وهو ابراهيم سرحان. من بعد سرحان برزت محاولات وطاقات سينمائيّة عديدة، كجمال الأسمر وخميس شبلاق وأحمد حلمي الكيلاني وغيرهم، إلّا أنّها ظلّت محاولات معظمها لم يكتمل وذلك لأنّ فلسطين في تلك الحقبة من القرن العشرين كانت خاضعة لعدد من الأحداث الّتي استطاعت تشويش ذهن الفلسطينيين وإشغالهم.
إلى أن عاد نجم السينما الفلسطينيّة تحديدًا في العام 1967 حيث ظهر ما يُسمّى ب”سينما الثّورة الفلسطينيّة”. وهي ما نتج عن كلّ ما خلّفت النكبة بالفلسطينيّين. ولأنّ المقاومة تحمل وجوهًا عديدة، استطاعت السينما الفلسطينيّة أن تقاوم بطريقتها، مثلما فعلت مي المصري الّتي كانت أوّل من مهّد لبداية حقبة “السينما الفلسطينيّة الجديدة”، والتي يُعدّ إيليا سليمان من روّادها.
“يدٌ إلهيةّ”
وُلد إيليا سليمان في العام 1960 في الناصرة في فلسطين، وتنقّل بين بلدان أوروبيّة مختلفة. وبعدما أمضى مدة لا تقل عن 12 عامًا في أميركا أخرج فيلمه الأوّل “سجل اختفاء”(1996) الذي حصل على الجائزة الأولى بمهرجان فينيسيا للأفلام.
في العام 2002 ظهر لسليمان فيلم جديد “يدٌ إلهيّة” وهو من أشهر أفلامه، يحكي عن الحياة في ظلّ الإحتلال الإسرائيلي وأثار جدلًا واسعًا في هوليوود بين من انقسم مؤيّدًا لترشيحه للأوسكار عن أفضل فيلم باللغة الأجنبيّة، وبين مَن رفض طرح الفيلم بحجّة أنّه ليس هناك دولة تُدعى فلسطين.
يحكي الفيلم قصة حب بين فتى فلسطيني، لعب دوره إيليا سليمان، من فلسطينيي 1948، وفتاة فلسطينية من سكان الضفة الغربية، يلتقيان كلّ يوم في سيارة فارهة عند حاجز إسرائيلي (نقطة تفتيش)، ويراقبان أفعال الإحتلال ضدّ الفلسطينيّين على الحواجز.
يبدأ الفيلم بلقطات متسارعة لاهثة لبابا نويل فلسطيني في الناصرة مطعون في صدره الّذي يصعد هاربًا من صغار يركضون خلفه، وعلى ظهره صندوق هدايا تتناثر منه خلفه وهو يصعد إلى قمة جبل. وهو رمزٌ لناصرة المسيح الحزينة والمكبّلة بأيدي الإحتلال.
لقطات إيليا سليمان.. رمز للمقاومة
تمرّ لقطات في الفيلم يدمجها إيليا سليمان بأسلوبه الخاص الّذي لا يعتمد على فعل الكلام لإيصال الفكرة أو المشهد، بل تعتمد على الصمت المبتَكَر والّذي يتطلّب تشغيل “الحسّ” لا المنطق والتفكير كالأفلام الّتي اعتدنا مشاهدتها، وخاصة تلك الّتي تعتمد على عامل السّرد والحبكة والحكاية.
لذلك استطاعت أفلام ولقطات إيليا سليمان أن تصير رمزًا استخدمه الفلسطينيّون والدّاعمون للقضيّة والمحتجّون على ما يحصل في غزّة منذ بداية معركة “طوفان الأقصى”، عبر منشورات السوشيل ميديا، كشكل جديد من أشكال المقاومة والإحتجاج.
فقد عرف السّينمائيّون الفلسطينيّون الجدد، منذ بداية الألفيّة، ضرورة التّجديد في السينما الفلسطينيّة الّتي كانت تعتمد بغالبيتها، ومن أركانها الأساسيّة على عامل “الثّورة” والمقاومة العسكريّة، وقد برزت فيها وفي حكاياها شخصيّات الفدائيين والمناضلين.
لذلك يُعدّ إيليا سليمان من المجدّدين في السينما الفلسطينيّة، إذ إنّه استطاع تحوير الخطاب الفلسطيني المقاوم بعد أن فهم ضرورة تغيير لغة المقاومة وأساليبها من خلال الصورة والمشهد الحيّ، ليتناسب مع العصر ومع رؤيته الخاصّة للقضيّة ولفلسطين الّتي اعتنى بها جيّدًا في أفلامه.
يُعدّ إيليا سليمان من المجدّدين في السينما الفلسطينيّة، ذاك أنّه استطاع تحوير الخطاب الفلسطيني المقاوم بعد أن فهم ضرورة تغيير لغة المقاومة وأساليبها من خلال الصورة والمشهد الحيّ، ليتناسب مع العصر.
“حنظلة” السّينما الفلسطينيّة
ما انفكّت فلسطين تظهر في أفلام إيليا سليمان وبأشكال مختلفة، وهي عادةً ما تُترجم من خلال ردود فعل شخصيّاته لا من خلال كلامها وحوارها الّذي يندر وجوده في أفلامه. فهو لا يستخدم الحوار إلا للضّرورة القصوى، بل يكتفي بالرموز والإشارات والإستعارات الشّعريّة الّتي يغلب عليها أسلوبه الفكاهي والسّاخر من الإسرائيليّين ومن الواقع المُعاش.
في فيلمه “لابد أن تكون الجنّة” لقطة لسليمان وهو يقف متأمّلًا البحر دون أن يظهر وجهه أمام الكاميرا. يقف ثابتًا واضعًا يديه وراء ظهره وكأنّها إشارة إلى “حنظلة” ناجي العلي، أو تجديدٍ لفكرة “حنظلة” نفسها، كما يفعل عادةً في كلّ أفلامه المليئة بفلسطين الّتي في رأسه وليست فلسطين الواقعيّة، وقد تكون صورة فلسطين الجديدة.
حمل سليمان فلسطين معه حتّى عندما صوّر جزءاً من فيلمه الأخير “لابد أن تكون الجنّة” في فرنسا ونيويورك. استطاع أن يوجد لنا فلسطين أخرى رافقته في رحلته إلى تلك البلاد. وهي الفكرة الّتي أراد إيصالها من هذا الفيلم الذي رُشّح في مهرجان كان ونافس على السّعفة الذّهبيّة.
رسائل مشفّرة بالسّخرية
استطاع إيليا سليمان من خلال تشفير لقطاته-حتّى تلك الأكثر فجاجة- بالسّخريّة والفكاهة والكوميديا، أن يصل بأفلامه إلى العالم بأكمله في خارج فلسطين، بمعنى أنّه استطاع إثبات حضور فلسطين من جديد وسط من ينكر وجود دولة فلسطين وشعبها.
أثار فيلمه “يدٌ إلهيّة” بلبلة بعد فوزه في مهرجان كان السّينمائي في العام 2002، وقد صفّق له الحضور لمدّة ستّ دقائق متواصلة. وفي العام الماضي أعلنَت “نيتفليكس” عن بداية عرض كل أفلام إيليا سليمان على منصّتها.
استطاع أن يصوّر سليمان من خلال أفلامه، العدوّ الإسرائيلي على أنّه كيانٌ مهزوزٌ وضعيف دائمًا، بينما صوّر الفلسطينيّ على هيئة غضبٍ يمشي على قدمين، وهو ما يستطيع مُشاهد أفلام إيليا سليمان أن يشعر به من خلال التوتّر الحسيّ والملموس في كلّ اللقطات الّتي يصوّر فيها الفلسطيني.
نستذكر من هذه المَشاهد، مشهد إيليا سليمان وهو يقود سيّارته وحين يقف على الإشارة ينظر إلى يمينه، فيجد سيارة لرجل إسرائيلي. في هذه اللّحظات يشغّل سليمان الأغنية الأجنبيّة “i put a spell on you”، ولكن مع تغيير اللّحن والإيقاع بحيث صار موحيًا بأنّه لحن فلسطيني، ويرفع الصوت ثم ينظر إلى الرّجل الإسرائيلي بسخرية.