احتكار الفرص في الدراما اللبنانيّة بين شِلَليّة ومحسوبيّات

في المشهد الدراميّ اللبنانيّ اليوم، لم تعد الفرص تُوزّع بناءً على الموهبة أو الاجتهاد، بل وفق شبكة من العلاقات الشخصيّة والمصالح. فشركات الإنتاج نفسها باتت أشبه بـ”دوائر مغلقة”، لكلّ مجموعة فريقها الخاصّ من الممثّلين والمخرجين والكتّاب، يندر معها اختراق تلك الشبكة. يتجلّى ذلك على سبيل المثال لا الحصر أنّ بعض الأسماء تحجز مقاعدها في كلّ موسم، فيما يواجه الآخرون، حتّى ممّن كانوا نجومًا في السابق، إقصاءً غير معلن من المشهد.
هذا الاحتكار لا يقتصر على الممثّلين المخضرمين فحسب، بل يطال أيضًا متخرّجي المعاهد الفنّيّة، الذين بالكاد يجدون موطئ قدم لهم في الصناعة الدراميّة. ومع كلّ موسم جديد، تتكرّس ظاهرة “المسلسلات المصمّمة على المقاس” إذ يتمّ اختيار البطل أوّلًا، ثمّ بناء العمل من حوله، بينما تتوزّع الأدوار الأخرى وفق اعتبارات تتجاوز الكفاءة الفنّيّة.
في ظلّ هذه الديناميكيّة، أصبحت الدراما اللبنانيّة تدور في فلك مجموعة محدودة من الأسماء، في وقت يبقى عشرات الممثّلين على الهامش، ينتظرون فرصة ربّما لن تأتي أبدًا. لكن إلى أيّ مدى يمكن أن يستمرّ هذا النهج قبل أن ينعكس سلبًا على الصناعة نفسها؟ وهل يتحمّل المنتجون مسؤوليّة إعادة التوازن، أمّ أنّ الدراما أصبحت رهينةمنطق المصالح والشِلَليّة؟
“أنا ممثّلة، ولست إنفلونسر”
في حديثها الى “مناطق نت”، تخبرنا نورا حسام الدين، المتخرّجة من معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانيّة، عن رحلتها في المجال الفنّيّ التي بدأت بكثير من الطموحات، ولكنّها سرعان ما اصطدمت بالواقع الصعب الذي يعيشه متخرّجو الفنون في لبنان. وتسترجع نورا بداية مسيرتها الفنّيّة قائلةً: “في البداية، كنت أطمح للحصول على أدوار كبيرة، كوني متخرّجة أكّاديميّة، وهذا حقّي. لكن اكتشفت أنّ النجاح يتطلب صبرًا وجهدًا مضاعفًا. شاركتُ في أعمال صغيرة وتطوعيّة أحيانًا، على رغم أنّها لم تكن بمستوى طموحاتي، لكنّها منحتني خبرة وأصرارًا أكبر على الاستمرار”.
تتذكّر نورا موقفًا أصابها بالإحباط، فتقول: “تقدّمت لتجربة أداء، وكان تقييمي إيجابيًّا، لكن بعد يومين تلقّيت اتصالًا يخبرني بأنّ عليّ العمل على زيادة عدد متابعي صفحتي على إنستغرام، لأنّ جمهوري صغير. آنذاك شعرت أنّ كلّ شيء يُختصر بالأرقام، وليس بالموهبة”. وتعتبر أنّ بناء سجلّ مهنيّ قويّ يصبح مستحيلًا من دون وجود أعمال بارزة. وتضيف: “أشعر أنّني في سباق مع الزمن، فالفرص نادرة، والوقت يمرّ بسرعة. نحن، متخرّجو المسرح والتمثيل نركض وراء أيّ فرصة، ونتمسّك بخيط أمل في أن نرى يومًا ما عملًا دراميًّا لبنانيًّا من بطولة متخرّجي معهد الفنون”.
على رغم سيطرة العلاقات والوساطة على المجال الفنّيّ في لبنان، لا تزال نورا متشبّثة بحلمها في التمثيل، وترى في هذا الإطار “أنّ التمثيل ليس مجرّد مهنة، بل هو شغفي وهويّتي. قد لا أملك العلاقات اللازمة، لكنّني مؤمنة بأنّ متخرّجي المسرح، إن أُعطيوا فرصة، سيحدثون فرقًا في الدراما اللبنانيّة”.
نورا حسام الدين: تقدّمت لتجربة أداء، وكان تقييمي إيجابيًّا، لكن بعد يومين تلقّيت اتصالًا يخبرني بأنّ عليّ العمل على زيادة عدد متابعي صفحتي على إنستغرام، لأنّ جمهوري صغير.
وفي خضمّ التحدّيات، تجد نورا في النهضة المسرحيّة الحاليّة بارقة أمل، إذ يبذل متخرّجو الجامعة اللبنانيّة جهودًا ذاتيّة لإنتاج أعمالهم الخاصّة. وتؤكد “أنّنا نمثّل بملامحنا الحقيقيّة، بتجاعيد وجوهنا، بانفعالاتنا الصادقة، وليس بمظهر مصطنع مليء بالبّوتوكس والفيلر”.
صراع المتخرّجين مع الفنّ التجاريّ
في حديثها إلى “مناطق نت”، تُشير أليسار أبو رافع المتخرّجة هي الأخرى من معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانيّة إلى أنّ “الأدوار الرئيسة في التلفزيون والسينما تُمنح غالبًا لأشخاص لا علاقة لهم بالفنّ مثل ملكات الجمال أو وجوه من السوشيال ميديا وغيرهم، بينما يجد متخرّجو معاهد الفنون أنفسهم خارج الحسابات”.
وتقارن أليسار كذلك الوضع في لبنان مع دول أخرى مثل تركيّا، حيث يُتاح للمواهب الحقيقيّة التألّق بواقعيّة أكبر، بغضّ النظر عن مظهرهم الخارجيّ. وفي لبنان، يبدو أنّ هناك تركيزًا على صورة واحدة للمجتمع”. وتشدّد في الوقت عينه على “أهمّيّة تعليم المسرح كجزء من المنهج الدراسيّ الأساسيّ”، معتبرةً أنّ “المسرح لا يُعدّ وسيلة للتعبير الفنّيّ فحسب، بل أداة لبناء وتطوير المجتمعات”. وتردف “إنّ المجتمعات الأوروبّيّة تقدّر الفنّ والمسرح ضمن التربية والتعليم، وهو أمر بالغ الأهمّيّة لنقل الرسائل الاجتماعيّة والثقافيّة”.
وتعرب عن فخرها بما قدّمته من تعليم مسرحيّ في منطقتها حاصبيا، حيث أسهم هذا التعليم في تغيير نظرة المجتمع إلى المسرح وجعله قيمة ثقافيّة لا غنى عنها. وتوضح أنّه لولا وجود تعليم المسرح في المدارس، “لما أصبح بالإمكان نشر هذا الفنّ في المجتمع المحلّيّ”.
وتدعو أليسار إلى تعاون أكبر بين الجامعات وشركات الإنتاج لضمان توفير فرص عمل مناسبة لمتخرّجي المسرح، معتبرةً أنّ “هذا التعاون ضروريّ لتعزيز احترام الفنّ الأكّاديميّ وتقديره في الوسط الفنّيّ اللبنانيّ”. وفي ختام حديثها، تعرب أبو رافع عن أملها في الحصول على فرصة تتيح لها إظهار موهبتها من خلال العمل في مسلسل أو فيلم أو عرض مسرحيّ يليق بها، مع تطلّعها “إلى أن يُمنح العمل الفنّيّ اللبنانيّ حقّه من الفرص والاعتراف بالمواهب الأكّاديميّة”.
قلة الإنتاج تهدّد المتخرّجين
في حديثه إلى “مناطق نت”، أكّد نقيب الممثّلين نعمة بدوي أنّ “متخرّجي معاهد الفنون في لبنان، سواء في التمثيل أو الإخراج أو الكتابة الدراميّة أو التخصّصات التقنيّة المرتبطة بالصناعة، يواجهون تحدّيات كبيرة في العثور على فرص عمل، ممّا ينعكس سلبًا على مسيرتهم المهنيّة. ويوضح في هذا الإطار أنّ “السبب الرئيس وراء هذه الأزمة هو محدوديّة الإنتاج الفنّيّ في لبنان، إذ تسيطر قلّة محدودة من الشركات على الصناعة، ما يؤدّي إلى منافسة شديدة وتراجع عدد الفرص المتاحة”.
ويشير النقيب بدوي إلى أنّ “الأزمة الاقتصاديّة المتفاقمة تزيد من تعقيد المشهد، إذ يتطلّب الإنتاج الفنّيّ استثمارات ضخمة لا تتوافر بسهولة في ظلّ الظروف الراهنة. وعلى رغم أنّ نسبة العاطلين من العمل من متخرّجي معاهد الفنون تُعدّ مرتفعة جدًّا، لكن لا يوجد حتّى الآن أيّ إحصاء رسميّ يحدّد العدد بدقّة. ويضيف: “إنّ عديدًا من المتخرّجين يتّجهون للسفر إلى خارج البلاد بحثًا عن فرص عمل، ما سيؤدّي إلى فقدان لبنان كثيرًا من طاقاته ومواهبه الشابّة”. ويلفت إلى أنّ هناك كذلك “مشكلة في آليّة اختيار الممثّلين، حيث يتم الاعتماد على نفس الأسماء في معظم الأعمال الفنّيّة، ممّا يقلّل من الفرص المتاحة للمتخرّجين الجدد”.
بدوي: هناك مشكلة في آليّة اختيار الممثّلين، حيث يتم الاعتماد على نفس الأسماء في معظم الأعمال الفنّيّة، ممّا يقلّل من الفرص المتاحة للمتخرّجين الجدد
النقابة ودعم الممثّلين الجدّد
على الرغم من أنّ النقابة ليست مسؤولة بشكل مباشر عن خلق فرص عمل، إلّا أنّ بدوي يؤكّد “أنّ النقابة تسعى إلى دعم الممثّلين الجدد عبر بناء علاقات مع شركات الإنتاج المحلّيّة والعربيّة. ومن بين الأدوات التي تقدّمها النقابة هي “الدليل الإلكترونيّ للممثّلين”، وهو قاعدة بيانات تحتوي على معلومات تفصيليّة عن الممثّلين، مثل: العمر، الطول، الشكل، ووسائل التواصل، وأحيانًا مقاطع فيديو لأعمالهم. هذا الدليل يتمّ توزيعه على شركات الإنتاج في لبنان وبعض الدول العربيّة وبعض الشركات التركيّة. وعلى رغم أنّ النقابة لا تضمن حصول الممثّلين على أدوار، إلّا أنّها توفّر أداة تسهّل عمليّة البحث عن فرص”.
تعمل النقابة حاليًّا على مشروع قانون جديد يهدف إلى تعزيز “سلطتها”، بحيث “تكون لها القدرة على فرض تطبيق القرارات بموجب القانون، إذ سيصبح العمل في القطاع الفنّيّ محصورًا بالمنتسبين إلى النقابة، مع إمكانيّة السماح لغير المنتسبين بالعمل ضمن نسبة معيّنة وبإذن من النقابة” بحسب النقيب بدوي.
تحسين صورة الدراما اللبنانيّة
يرفض بدوي فكرة أنّ “المسلسلات اللبنانيّة لا تجذب الجمهور”، مشيرًا إلى نجاح المسلسل اللبنانيّ “بالدم”، الذي “حقّق نجاحًا كبيرًا في لبنان والعالم العربيّ في الموسم الرمضانيّ لهذا العام، كدليل على قدرة اللبنانيّين على إنتاج أعمال فنّيّة عالية الجودة”. وينتقد “ظاهرة احتكار بعض الممثّلين للمشهد الدراميّ، إذ يتمّ تكرار الوجوه نفسها في مسلسلات عدة، ممّا يخلق انطباعًا بأنّ الأعمال اللبنانيّة متشابهة”. متمنّيًا “ضرورة التنويع في الأدوار وإعطاء فرص للممثّلين الجدد، وبخاصّة المتخرّجين”.

تسعى النقابة أيضًا إلى دعم الممثّلين اللبنانيّين من خلال لجنة خاصّة داخل النقابة “تهدف إلى إعادة إحياء الدراما اللبنانيّة. وتحاول هذه اللجنة ضمان إعطاء الأولويّة إلى الأعمال اللبنانيّة خلال شهر رمضان، حيث يزداد الاهتمام والمشاهدات. وترفض النقابة كذلك أن يتحوّل لبنان إلى ساحة مجّانيّة للفنّانين الأجانب، وهناك ضرورة لإعطاء الأولويّة إلى الفنّانين اللبنانيّين في الإنتاجات المحلّيّة”.
ويعدّد بدوي في حديثه أنّ “هناك سبع محطات تلفزيونيّة في لبنان حصلت على تراخيص بموجب قانون المرئيّ والمسموع، والذي يفرض على كلّ محطّة إنتاج نسبة محدّدة من الأعمال الدراميّة سنويًّا. ففي حال التزمت جميع القنوات بهذا البند وإنتاجها مسلسلات لبنانيّة سنويًّا، فلن يبقى أيّ ممثّل عاطلًا من العمل، بل ربّما يصبح القطاع بحاجة إلى استقدام ممثّلين من الخارج”. إلّا أنّ المشكلة تكمن بحسب بدوي، “في غياب تطبيق هذا القانون، ممّا يستدعي إقرار تشريعات مهنيّة تمنح العاملين في القطاع الفنّيّ قوّة قانونيّة تضمن حقوقهم وتعزّز الإنتاج المحلّيّ”.
تسعى النقابة كذلك إلى إقرار قانون جديد يجعل الدراما اللبنانيّة ذات أولويّة، من خلال توقيع بروتوكولات تعاون بين لبنان والدول العربيّة، ممّا يسمح بانتشار الإنتاج اللبنانيّ في الخارج. وتؤكّد النقابة ضرورة دعم الدولة للقطاع الفنّيّ، باعتباره صناعة ثقافيّة وطنيّة يجب أن تحظى باهتمام حكوميّ.
الموهبة لا تموت…
لكن على رغم كلّ شيء، يبقى الأمل قائمًا. فالموهبة الحقيقيّة قد تتأخّر، لكنّها لا تضيع. وربّما حان الوقت لإعادة النظر في معايير الفرص، حتّى لا يبقى الإبداع مكبّلًا، وحتّى لا تظلّ المسارح وشاشات التلفزيون والسينما أسيرة الأسماء ذاتها، فيما يقف جيل جديد خلف الستار، بانتظار دوره ليضيء. هؤلاء الشباب لم يختاروا شغفهم اعتباطًا، بل حملوه عن قناعة، وخاضوا طريقه على رغم وعورته. بعضهم اختار الرحيل بحثًا عن فرص خارجيّة، وآخرون لا يزالون يقاتلون لإثبات أنفسهم هنا، في وطن يصعب فيه تحقيق الأحلام. لكن السؤال يبقى: متى يتوقّف الفنّ عن كونه امتيازًا للبعض، ويصبح حقًّا لمن يستحق؟