استبعاد النساء المتزوّجات والحوامل من الوظائف انتهاك لحقوقهنّ
تتركّز عديد من الوظائف “النسائيّة” في معظم المناطق اللبنانيّة في مجال “الأعمال الرعائيّة”، سواء في القطاع التعليميّ، أو الطبّيّ وغيرها. وتعتبر هذه الأعمال في جوهرها إعادة إنتاج للأدوار الجندريّة وامتدادًا للأدوار التي تمارسها النساء من المجال الخاص ليشمل العام.
فتُأهّل بعض النساء لتأدية هذه الأدوار في حياتهنّ الخاصّة والعمليّة، مع تجهيزهنّ المبكّر لهن- بأن يكنّ معلّمات، ممرضّات، أو مساعدات- بينما تنخفض نسبة النساء العاملات في مهن أخرى غير رعائيّة، إلى درجة شبه انعدامها في بعض المجالات المحصورة بكونها “أعمال رجّاليّة” الطابع.
يعزو البعض هذا التحيّز في تقسيم العمل، إلى الطبيعة البيولوجيّة للنساء التي لا تحتمل تأدية بعض المهام لأنّها تطلّب جهدًا بدنيًّا عاليًّا. وينسى أو يتناسى أصحاب هذه النظريّة أنّ المعايير البدنيّة تختلف ما بين رجل وآخر، وما بين النساء أنفسهنّ، وما بين النساء والرجال في ظروف وبيئات مختلفة. وتظهر هشاشة النظريّة في إلغائها دور القدرة العاطفيّة والعقليّة في كثير من الوظائف التي لا تطلّب جهدًّا بدنيًّا.
أعمال رعائيّة غبّ الطلب
يسهل التداخل ما بين العام الخاص، حين يكون الأمر منوطًا بالأدوار الجندريّة، إلّا أنّ الأمور لا تأخد مجراها “الطبيعي” من وجهة نظر المجتمع عندما يفرض الخاص- رغم تسييسه – نفسه على العام. ويصبح الأمر مصدرًا للقلق إذا ما حاولت النساء، الجمع ما بينهما. فقدسيّة العمل الرعائيّ سواءً المنزليّ أو في القطاع العام ستتراجع إذا كان يشمل حقّ النساء بالعمل، وفي الخروج من إطار الخصوصيّة.
يعزو البعض هذا التحيّز في تقسيم العمل، إلى الطبيعة البيولوجيّة للنساء التي لا تحتمل تأدية بعض المهام لأنّها تطلّب جهدًا بدنيًّا عاليًّا. وينسى أصحاب هذه النظريّة أنّ المعايير البدنيّة تختلف ما بين رجل وآخر، وما بين النساء أنفسهنّ
في هذا الصّدد تقول “ريهام” متخرّجة علوم تربويّة ومدرّسة، في حديث لـ”مناطق نت”: “كنت معلّمة مدرسة في بيروت، عندما طلبت منّا الإدارة الامتناع عن الحمل في أثناء العام الدراسي، أو في حال أرادت إحدى المعلمات الإنجاب أن تؤجّل موعد ولادتها إلى الصيف حتّى تستطيع الاستمرار في وظيفتها”.
وتضيف: “ما حدث معي هو أنّني حملت بطفلتي بشكل غير متوقّع بداية العام الدراسيّ، واضطررت لأخذ إجازة دمجتها بعطلة أعياد الميلاد كي أرتاح قليلًا في الفترة الاولى من حملي. ووفقًا لسياسات المدرسة أمّنت معلمة بديلة عنّي خلال أيّام الإجازة على رغم أنّها إجازة غير مدفوعة، وقدّمت لإدارة المدرسة ورقة من الطبيب تفيد بضرورة أخذ استراحة مؤقّتة. إلّا أنّهم بدلا من استقبالي لمتابعة عملي بشكل طبيعيّ خلال هذه المرحلة وحساسيّتها، جوبهت بالطرد تحت حجّة مخالفتي لسياسات المدرسة”.
وتسهب ريهام في شرح العنف المعنويّ والاقتصاديّ الذي تتعرّض له المتزوّجات والحوامل. حيث تعمد بعض المدارس على إلزام المعلّمات المتزوّجات توقيع عقد خطّيّ يتعهدن فيه بعدم الحمل أثناء العام الدراسي. في حين ترفض بعضها توظيف معلّمات متزوّجات خوفًا من حملهنّ والإجازات التي يطالبن بها. ويعود ذلك لأسباب عديدة من ضمنها اضطرار إدارة المدرسة للبحث عن معلّمات بديلات، ولسبب آخر مفاده أنّ الأمّهات المعلّمات يمكن لهنّ تسجيل أبنائهنّ في المدرسة عينها مع حصولهن على حسومات، ما يلزم المدرسة دفع الأكلاف، وهو ما يحصل في معظم المدارس الخاصّة في لبنان وفي أهمّها.
ومن الملاحظ أنّ بعض المدارس تفتح مجال تقديم الطلبات أمام الطالبات الجامعيّات، بعد أن يسرّحن المعلمات السابقات مع أعذار متعدّدة، كي تتمكّن من توظيف أخريات في ظروف استغلاليّة، وبأجور زهيدة، أيّ بمبلغ لا يتجاوز 150 دولارًا بحجّة غياب الخبرة.
تعمد بعض المدارس على إلزام المعلّمات المتزوّجات توقيع عقد خطّيّ يتعهدن فيه بعدم الحمل أثناء العام الدراسي. في حين ترفض بعضها توظيف معلّمات متزوّجات خوفًا من حملهنّ والإجازات التي يطالبن بها
كما تشارك “علياء” البالغة 43 سنة من بعلبك تجربة إحدى صديقاتها، “مناطق نت” فتقول: “أخفت صديقتي حملها عن إدارة المدرسة بارتدائها ملابس فضفاضة. وأنجبت طفلها في موعد يتناسب مع عطلة الربيع، أيّ قبل موعد ولادتها.” وتأكّد علياء العنف الاقتصاديّ الذي تعرّضت له صديقتها، والذي كان يمكن أن يؤدّي إلى مضاعفات على حياتها وحياة مولودها، بسبب لجوئها إلى الإنجاب المبكّر خوفًّا من فقدان عملها.
حقّ العمل درس في الأمومة
ويظهر أنّ الأمومة مبجّلة طالما أنّها ضمن نطاق المنزل، وضمن شروط المنظومة الرأسماليّة والأبويّة التي تتوقّع من النساء أداءً رعائيًّا مميّزًا في الإطار الخاص.
في حديث لها مع “مناطق نت”، تخبرنا “رانيا”، وهي متخرجة إدارة أعمال، عن تجربتها في مؤسّسة خاصّة: “كنت في الشهر الأخير من الحمل عندما طلبت إجازة مسبقة من المدير كي ارتاح قليلًا قبل الولادة، لأنّ طبيعة عملي كمساعدة تتطلّب تحرّكًا وصعود الأدراج للوصول إلى المكتب”.
وتكمل رانيا: “أخبرني أنّه ما من إجازة مدفوعة في القطاع الخاص، ويمكنني الحصول على إجازة لكن على نفقتي الخاصّة. كنت خلال هذه الفترة أتابع العمل معهم عن بعد، بعد إصرار المدير على مكاني المحفوظ، وفقا لعقد شفوي بيننا، وأنّ المؤسّسة بحاجة إلى شخصين للعمل في المسمى الوظيفي نفسها، وفي المقابل كان عليّ تدريب موظّفة جديدة لتحلّ كبديلة حتّى لا تتأثّر المؤسّسة إلى حين عودتي”.
وتذيّل حديثها: “أكثر ما صدمني عندما زرته بعد الولادة، هي جملته “اهتمّي انت هلّأ بابنك جبنا بديل” أشعرني للحظات بأنّني أمّ غير مسؤولة على وشك أن تضحّي بمصلحة طفلها كرمى مصلحتها الخاصّة، وليس أنّني بحاجة للعمل، وتحوّل نبأ استبعادي من العمل إلى جلسة حول دوري الأموميّ، وبحاجة الطفل إلى وجودي. هذا كلّه على رغم أنّني حظيت بفرص وبرواتب أفضل لكنّني آثرت البقاء لأنّه وعدني بالضمان الاجتماعيّ طوال مدّة عملي مع أنّ الراتب الذي لا يتجاوز 200 دولار”.
ما بين العدالة الوظيفيّة والإنجابيّة
في العالم حيث يحتفى بالخطوات نحو المساواة بين النساء والرجال، لا يزال التمييز ضدّ النساء في سوق العمل قائمًا، مع غياب أطر الحماية القانونيّة، والحاضنة الاجتماعيّة التي تدعم عمل النساء، وتحفظ حقوقهنّ الانجابيّة. ويمكن أن يشمل ذلك حالات الطلاق التعسّفي للنساء اللواتي يرغبن بالعمل ويصرّ أزواجهن على منعهنّ.
تقول “سارة” البالغة 24 سنة وهي طالبة جامعيّة لـ”مناطق نت”: “يرفض زوجي فكرة العمل خارج المنزل، فالمرأة تتعلّم لتعلّم أطفالها.”
ما بين الأزواج، العائلة وأصحاب المؤسّسات، تواجه النساء تخييرًا بين حقّهنّ بالعمل وحقوقهنّ الإنجابيّة بسبب عقليّة الهيمنة الذكوريّة، ما يُعيد تكرار دوّامة غياب العدالة والظلم. وهذا كلّه يسهم في إعاقة تحقيق إمكاناتهنّ الكاملة وتحديد دورهنّ، في ما يمكن تسميتها بالأعمال الرعائيّة المتكيّفة حسب طلب المجتمع.