اضطراب الهويّة الجنوبية بين عاملية متجذرة ولبنانية مستجدة
تختار الجنوب وجهة للتنزه، فتسلك الطريق الساحلي حيث تؤنس زرقة البحر المتوسط وحدتك. وما إن تصل صيدا رائياً قلعتها البحرية وخانها الشهير، حتى يرد الى ذهنك شعار “بوابة الجنوب”، فتدخل آمناً الى مسالكه، وتحط رحالك في مدينة النبطية فإذا بها “عاصمة جبل عامل”، وتصعد الى خربة سلم، فإذا أمامك يافطتها الزرقاء الكبيرة “منارة جبل عامل”، وتنعطف في مسار طويل الى ميس الجبل التي تعلن عن ذاتها “لؤلؤة جبل عامل”. فتختلط الأمور عليك ولم تكد تتبخر بعد آثار الإحتفاء بـ “مئوية لبنان الكبير”، فهل نحن أمام جغرافيا واحدة؟ أم التبست الأزمان علينا؟ ما يستدعي وقفة أمام أوراق التاريخ اللبناني المفتت والمتنازع عليه والمكتوب من مواقع طائفية، كما يقول أحمد بيضون، في عمله الرائد “الصراع على تاريخ لبنان” (1989).
وثمة صعوبة مضافة في التأريخ لجبل عامل، بسبب ضياع الوثائق والمخطوطات وعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي لأهل البلاد، الى الإحتلالات المتعاقبة. ونريد هنا، النظر في ذلك التحول الذي قاد جبل عامل الشامخ في عنفوانه ليتلبس عبارة “الجنوب اللبناني”.
والقصة تبدأ من التسميّة، يكتب محمد جابر آل صفا في تأريخه لجبل عامل:”سمي بعامل نسبة إلى اهله الذي يعود نسبهم إلى قبيلة بني عاملة اليمنية وهم من أقدم من سكن لبنان”، وقد قدموا عند تهدم سد مأرب في اليمن، وهم عرب أقحاح. ويسمى أيضاً جبل الجليل أو جبل الخليل أو بلاد بشارة نسبة إلى أحد الزعماء الذي تعددت الآراء حول نسبه. وكان لهذه البلاد حدود واضحة المعالم، فمن جهة الغرب شاطئ البحر المتوسط أو بحر الشام ومن الجنوب فلسطين ومن الشرق الأردن “الحولة” ووادي التيم وبلاد البقاع وقسم من جبل لبنان الذي هو وراء جبل الريحان ووراء إقليم جزين ومن الشمال نهر الأولي أو ما يقرب منه وهو المسمى قديماً نهر الفراديس.
ويُقدر المؤرخ منذر جابر، نزيل بنت جبيل في مؤلفه “يوسف بك الزين، من جبل عامل الى الجنوب اللبناني” (2022) أن القيادات العاملية بدت حائرة غداة الحرب العالمية الأولى، فالإحتلال الأجنبي لبلادهم جعل نظرتهم ملتبسة. ولا سيّما أن الأروقة السياسية بدأت منذ العام 1920 بالحديث عن “دولة لبنان الكبير”، وبدأ الإلتفات الى شيعة جبل عامل، فأبدى زعيمهم كامل بن خليل بك الأسعد رضاه عن مساعي الحاق الجبل بلبنان الكبير، في زمن كان الإضطهاد هو نصيب الذين ساندوا القضية العربية فيه، وباتوا من دون نصير بعد هزيمة التيار الوحدوي في دمشق.
الجنوب والجنوبية
ومع هذا الإلحاق بدأت الرابطة العاملية في الأفول و”برز الإنتساب الى الجنوب والجنوبية، والى هويّة ودولة جديدتين ناشئتين”، بعبارات جابر، ويضيف أن هذا الوضع جعل الحدود الجنوبية في تماس مع خطر قادم هو الحركة الصهيونية، تلمسه الشيخ سليمان ظاهر، فكتب في العام 1911 عن “الإستعمار والصهيونية في أرض فلسطين”. ويبدو أن هذا الو ضع دفع العامليين للتمسك بالبقاء ضمن النفوذ الفرنسي، خوفاً من بريطانيا ومشاريعها الإستعمارية المراعية والموالية لأحلام الصهيونية في المنطقة العربية.
لذا، يرى جابر، إن الإنتماء للبنان الكبير كان “المنجاة” الأكيدة للجنوب اللبناني من هذه المخططات ولا سيّما أن هاجس ضياع الجنوب حصة صهيونية أو تشطيره ما بين لبنان وفلسطين ظل هاجساً حتى السنوات الأولى من عمر الإستقلال، وبقيت محاولات تعديل الحدود. حتى أن الجنرال أدوارد سبيرز، ممثل النفوذ البريطاني، صرح في العام 1943 بأن لبنان “مثقل بحدوده الحالية” وأن من الخير له أن “يُنزل عن كتفيه بعض أراض له في الشمال والجنوب، فيصير سكانه أكثر انسجاماً”.
الجنرال أدوارد سبيرز، ممثل النفوذ البريطاني، صرح في العام 1943 بأن لبنان “مثقل بحدوده الحالية” وأن من الخير له أن “يُنزل عن كتفيه بعض أراض له في الشمال والجنوب، فيصير سكانه أكثر انسجاماً
ويزعم جابر إن موقف الشيعة في لبنان كان “شأناً داخلياً”، وأن مواقف القيادات السياسية كانت تدور في الفلك اللبناني المحلي، وذلك اثر انحسار التطلع الوحدوي الى كيان عربي جامع مع مشروع فيصل وحكومته في دمشق (1918)، ومعركة ميسلون الشهيرة بقيادة يوسف بك العظمة (24 تموز، 1920) ضد المحتل الفرنسي، التي أثمرت في تداعياتها بروز “وطنيات” عدة، منها “الوطنية اللبنانية”.
قام لبنان الكبير على فكرة التعدد “الطائفي” والإقرار لكل طائفة بكيانيتها، وكان على القيادة السياسية الشيعية التعامل مع القيادة المسيحية بوصفها “حاضنة لبنان الكبير”، ويٌقر جابر أن معارضة الكيان الوليد قد” بدت من نشأته مهمة السُنة في لبنان”. لكن، مع مؤتمر الساحل في العام 1936، أقر “مسلمي الساحل بلبنان الجمهورية المستقلة، وباندراجهم طائفة من طوائفها، وتخليهم عن أملهم بقيامة جديدة، وحُسبان حالهم من عصب الدولة العربية الموعودة”.
الشيعة ولحظة إعلان لبنان الكبير
ثمة صورة تبقى في الذاكرة، لحظة إعلان دولة لبنان الكبير، في قصر الصنوبر ببيروت، بلسان الجنرال الفرنسي هنري غورو في الأول من أيلول من العام 1920، وهي خلو الحفل من أي خطيب شيعي، ما عكس تراتبية حكمتها علاقات القوة والمركز، ويُفسر جابر ذلك بأنه أتى انعكاساً “لدونيّة شيعية في الإقتصاد والإجتماع، ولغربة شيعية عن مداولات السياسة وموازينها”، مقارنة بأحوال غيرها من الطوائف.
ثمة صورة تبقى في الذاكرة، لحظة إعلان دولة لبنان الكبير، في قصر الصنوبر ببيروت، بلسان الجنرال الفرنسي هنري غورو في الأول من أيلول من العام 1920، وهي خلو الحفل من أي خطيب شيعي
والحال، مع هذا الإعلان التاريخي، ورغم هامشية الموقع، إلا أن لغة جديدة برزت عند النخب العاملية تعبر عن “الرضى” و”القبول” عبرت عنها مجلة “العرفان” التي كان يصدرها الشيخ أحمد عارف الزين (1960- 1884) منبراً يعرض لأحوال جبل عامل بدءاً من شباط من العام 1909. يقول الشيخ في العام 1920، إن الإنتداب سيمضي، ويتوجه بكلامه الى أبناء الوطن داعياً أياهم الى أن يتصافحوا بالقلوب قبل الأيدي، والى طرح الأضغان جانباً والى الإتحاد من أجل “إيقاظ هذا الوطن من غفلته وانقاذه من ورطته”. من دون أن يمنع ذلك استشعار الظلم والتفرقة في المعاملة، ما دفع القيادات السياسية الى رفع عريضة الى عميد الدولة المنتدبة، هنري دوفينيل، في العام 1926، تشكو فيها، وتعبر عن شعورها بالغبن بسبب حرمانها من الوظائف في الإدارة.
لقد وجد الشيعة أنفسهم مع بداية الدولة الحديثة في لبنان : “أمام خيار مركب، فكان عليهم أن يظهروا مزيداً من القبول بالدولة، كما كان عليهم أن يثبتوا جدارتهم بهذا الدخول ولاء وكفاءة، فانخرطوا في الدفاع عن الدولة والوطن، في الداخل والخارج، على خطأ مرة وصواب مرة”، كما عبّر الراحل هاني فحص في مؤلفه القيّم “الشيعة بين الإجتماع والدولة” (2015).
ود. جابر ثاقب البصر في ما خص قبول الشيعة الدخول في الكيان الجديد، فهو، في تقديره، لم يكن طلباً أو انفتاحاً على “هويّة جديدة”، إذ كان الأمر خياراً سياسياً يُراعي توازن القوى والمصلحة في “مجرى سياسي كان يدور في المنطقة، ولبنان الكبير واحد من محطاته”، فكان الكلام (الحوار) مع الداخل حول الدولة وتقديماتها والمشاركة في الإدارة، وهو “حوار كان حاداً حيناً، مشوشاً بعقابيّل الطائفية في كل الأحيان”. وكان لقيّام الكيان اللبناني تداعياته أيضاً على توازنات “الداخل العاملي”، زعماء وقيادات وعلماء، وعلى موازين القوى بينها.
وفي الختام، تبدو النزعة أو العصبية العاملية حنين الى ماض تليد والى رابطة كانت تجمع ولا تفرق، وهرباً من حاضر مثقل بالأخطار والتحديات يفرضها الإنخراط والذود عن وطن لا يعرف غير الأزمات.