“ما عاد تجي رزقتو معو”.. انخفاض معدل الولادات في بعلبك الهرمل

ترخي الأزمة الإقتصادية والانهيار المالي الذي يرافقها باثقالهما على كاهل اللبنانيين دون أن تترك متنفساً لهم. أصبح الهاجس الأول والأخير هو الاستمرار على قيد الحياة وتأمين الأكل والشرب والمستلزمات الضرورية، وباتت قضايا الزواج والانجاب تطرق أبواب المستحيل، فمن استطاع سابقاً أن يُنشىء أسرة ربما نجا، بالرغم من أنه يشقى ليستطيع تأمين قوتها، ومن لم يستطع فقد بات بالنسبة إليه ضرباً من الجنون.

الإنجاب بالأرقام

تعتبر قضية الإنجاب من القضايا الحيوية البالغة الأهمية في المجتمعات وهي “سنة الحياة”. لكن تراجع نسبة الولادات في السنوات السابقة، كان له تداعيات سلبية على الأسر والمجتمع. ففي قراءة سريعة لعدد الولادات خلال السنوات الخمس الماضية، يقول الباحث في المؤسسة “الدولية للمعلومات” محمد شمس الدين لـ “مناطق نت” إن عدد الولادات بلغ حوالي ٩٢٩٥٧ خلال العام ٢٠١٨. تراجع هذا الرقم إلى ٨٦٥٨٤ في العام ٢٠١٩، وإلى ٧٤.٤٩ في العام ٢٠٢٠ ليصل في العام ٢٠٢١ إلى ٦٨١٣٠، ويواصل انخفاضه في العام ٢٠٢٢ إلى ٦٢٨٦٨ أي أن التراجع خلال الخمس سنوات المنصرمة بلغ حوالي ٣٠٠٨٩ أي ما نسبته ٣٢،٣ في المائة، وبالطبع فإن هذا الرقم مرشح للانخفاض سنوياً في ظل استمرار وازدياد حجم الإنهيار الاقتصادي والمالي.

البحث في الأسباب التي أدت إلى تراجع عدد الولادات خلال السنوات الماضية يقودك إلى الأزمة الإقتصادية التي أدّت إلى هذه الأسباب، حيث تضافرت وتكاتفت عوامل عدة لتحرم الأزواج اللبنانيين من التفكير بإنشاء أسرة أو زيادة عدد أفراد أسرتهم وهو يعود بالدرجة الأولى إلى انخفاض الدخل الذي بمعظمه بالليرة اللبنانية المنهارة أمام الدولار الأميركي، وانخفاض القدرة الشرائية للبنانيين، مصحوبةً بالبطالة والتي معها أصبح مستحيلاً في هذه الظروف المبادرة إلى الإنجاب، والتي لا قدرة للأزواج على إعالة مواليدهم.

وفي هذا الإطار يتحدث شمس الدين عن سبب امتناع الأسر عن الإنجاب بالقول “إنها بدأت مع جائحة كورونا حيث انتشر لديهم الخوف من التشوهات، وامتدت إلى الأزمة الاقتصادية لتحول دون توجه الأسر نحو الإنجاب” موضحاً أن تراجع الإنجاب مرتبط بشكلٍ وثيق واساسيّ بتراجع الزواج. هذا الأمر يعود بدوره إلى إلغاء القروض السكنية حيث كان يتم تقديم حوالي عشرين ألف قرض سنوياً واليوم تم الغاؤها، وبالتالي فإن كلفة استئجار منزل باهظة وخارج قدرة المقبلين على الزواج.

كما ويلفت شمس الدين إلى أن عامل هجرة الشباب اللبنانيين وهروبهم الى الخارج هو أيضاً أسهم في تراجع معدل الإنجاب.

تراجع الإنجاب مرتبط بشكلٍ وثيق واساسيّ بتراجع الزواج، هذا الأمر الذي يعود بدوره إلى إلغاء القروض السكنية حيث كان يتم تقديم حوالي عشرين ألف قرض سنوياً

حلم الإنجاب تلاشى

هذا الواقع يؤرق أجفان الأسر التي لطالما حلمت بإنجاب أطفال لا سيما اولئك الذين أقدموا على الزواج حديثاً خلال السنتين الماضيتين، بعضهم كان يتوقع أن يتحسن الحال فقرر تأجيل الخطوة قليلاً، فإذا به يتفاجأ بأن الأمور تجري نحو الأسوأ، ومنهم من بات ينظر إلى الإنجاب بأنه مستحيلاً، وعدل عنه إلى أجلٍ غير مسمّى.

ويلفت شمس الدين في هذا السياق إلى أن كلفة أو مصروف الطفل شهرياً تبلغ ما بين حليب وحفاضات ومستلزمات حوالي أربعة ملايين ونصف، وبالتالي بات على أي شخص أن يعدّ للعشرة قبل الزواج، وللمليون قبل إنجاب طفل، وللمليار قبل إنجاب طفل ثانٍ. (وفق سعر صرف ٨٠٠٠٠ أو أقل أما اليوم فقد تخطى الدولار الـ ١١٧٠٠٠ ليرة لبنانية).

تقول بتول وهي سيدة لبنانية متزوجة من حوالي السنة أنه وبسبب الظروف تبدد حلمها بأن تصبح اماً، لأنها غير قادرة على تحمل كلفة الاستشفاء والولادة، مضيفة نحن هنا في البقاع ندعو ليل نهار أن لا نمرض لأننا غير قادرين على زيارة عيادة الطبيب أو دخول مستشفى فكيف ننجب طفلاً ؟!

وتقول أخرى من آل المولى لديها طفلة واحدة أنها كانت ترغب أن تنجب أخاً لها كي لا تبقى وحيدة، مضيفة” أن هذا غير ممكن في ظل ما نمرّ به، فراتب زوجي لا يكفي لنأكل، وبالرغم من أنه بدأ موخراً بعمل آخر ليستطيع اعالتي واعالة طفلتنا”.

حتى الإجهاض

بات من الخطورة أن تنجب طفلاً إلى هذه الحياة ليعاني ويشقى، وكثيرات من النساء بتن يلجأن إلى الإجهاض بالسر على الرغم من حرمته دينياً. تقول إحدى السيدات اللبنانيات التي لها تجربتها في الإجهاض، وهي أم لثلاثة أولاد أنها حملت عن طريق الخطأ، وكان الحل الوحيد أمامها أن تقوم باجهاض طفلها لأن زوجها كان مراراً وتكراراً قد حذرها من الإنجاب في ظل وضعه الاقتصادي المزري بحيث وحسب تعبيرها تقول أنها “ورطة” أن تنجب طفلاً في هذه المرحلة لا سيما وأنه في السلك العسكري وراتبه لا يكفيه لإطعام وتعليم أولاده.

سيدة لبنانية متزوجة من حوالي السنة: نحن هنا في البقاع ندعو ليل نهار أن لا نمرض لأننا غير قادرين على زيارة عيادة الطبيب أو دخول مستشفى فكيف ننجب طفلاً ؟!

أرقام المستشفيات: تكلفة الإنجاب

غلاء المعيشة والمستقبل المجهول للطفل ليس العائق الوحيد لأن الغالبية لا زالت تؤمن أن الطفل يولد وتأتي رزقته معه، ولكن كيف يولد إذا كانت كلفة استشفاء الأم وولادتها سجلت أرقاماً خيالية بالإضافة إلى رفع الدعم عن الأدوية التي أصبحت اسعارها مرتفعة. وفي هذا الإطار تقول الطبيبة عزة الطشم أن تكلفة الولادة دائماً بمنحى تصاعدي، وهي عالية جداً بالنسبة لدخل المواطن، وتختلف من مستشفى لأخرى، لكنها تتراوح بين ٣٠٠ إلى ٥٠٠ دولار للولادة القيصرية، وهذه التكلفة تحددها المستشفيات، وما يتقاضاه الطبيب زهيد جداً.

وتشير الطبيبة الطشم إلى أن المرأة تحتاج خلال فترة حملها اي خلال التسعة أشهر إلى ٣ معاينات من قبل الطبيب للاطمئنان على وضع الحمل في حال عدم وجود اختلاطات، وبحاجة إلى معاينات أكثر في حال وجود مشاكل ما، بالإضافة إلى الفحوصات والصور الشعاعية التي هي اليوم بدورها مكلفة، لافتةً إلى أن الكثير من النساء يأخذن علاجات في المنزل كونهم غير قادرين باستمرار على زيارة الطبيب والمستشفى.

في إحدى مستشفيات البقاع بلغ عدد الولادات اللبنانية في العام ٢٠٢١ حوالي ٣٦٧ ولادة، و٤٩٢ ولادة في أوساط اللاجئات. وفي العام ٢٠٢٢ انخفض عدد الولادات الى حوالي٢٧٢ ولادة لبنانية بينما في أوساط اللاجئات السوريات ازداد الى ٥٤٩ ولادة.

وبناء على معلومات المستشفى كنموذج، يظهر الفارق واضحاً بين التغطية التي تقدمها “الأمم” بجمعياتها للمرأة عند دخولها المستشفى لتضع مولودها وبين ما تقدمه الجهات الضامنة اللبنانية، فالمرأة السورية التي تغطيها “الأمم” تدفع فقط بين ٢٢٥ و٣٤٠ الف ليرة لبنانية فقط، أما المرأة اللبنانية التي تدخل المستشفى وتلد على حساب وزارة الصحة فإنها تدفع ما بين ٨٠٠ الف والمليون وثمانمائة ألف ليرة لبنانية كفروقات تغطية.

أما بالنسبة للضمان الاجتماعي وتعاونية موظفي الدولة فحدث ولا حرج حيث تزداد قيمة الفروقات بشكل كبير، كون التغطية التي تقدمها هذه الجهات ضئيلة لا سيما الضمان الإجتماعي، وبالتالي يكون على المرأة في هذه الحالــة أن تــدفع ما بين ٦ و٢٠ مليوناً وهذا هو السبب الذي يقف وراء انخفاض عدد الولادات على حساب الضمان الاجتماعي وتعاونية موظفي الدولة بحيث لا يتعدى ٢٠ ولادة في إحدى المستشفيات لعجز الناس عن دفع هذه المبالغ.

وبحسب مصادر المستشفى تختلف الفروقات كثيراً بين مستشفى وآخر وباتت تسعر بالدولار.

الولادات في صفوف اللاجئات

ينسحب هذا الواقع قليلاً عند الحديث عن الولادة في صفوف اللاجئات في المخيمات السورية حيث أن عملية الإنجاب لم تتأثر بالأزمة الاقتصادية. وتقول سيدة سورية تعيش في أحد المخيمات في بلدة القاع في البقاع الشمالي وهي أم لستة أطفال أنها أنجبت طفلين خلال السنتين الأخيرتين، وحول المقدرة على دفع تكلفة العملية القيصرية وتكاليف المستشفى تلفت إلى أنها مغطاة بشكل كامل من قبل الأمم، بالإضافة إلى تلقيها مساعدات ومواد غذائية لها ولأولادها.

وفي هذا الصدد توكد الدكتورة الطشم من خلال عملها على مدار السنوات الماضية أن الإنجاب ينخفض بمعدل كبير لدى المرأة اللبنانية بنسبة ٥٠٪ ،بينما يرتفع في أوساط المرأة السورية اللاجئة، اي بمعدل يقارب الثلاث أضعاف الإنجاب عند المرأة اللبنانية، ويعود ذلك إلى التغطية التي تقدمها الأمم المتحدة ومجموعة من الجمعيات مثل اطباء بلا حدود.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى