الأفراح في ديارنا لم تعد عامرة.. الفرح البعلبكي تاريخًا وحاضرًا
نالت مراسم الزفاف التقليدية في بعلبك-الهرمل حصة وازنة من التحولات الكبرى التي أحدثها التطور الهائل في شتى المجالات، فحلّت السيارات الفارهة محل الخيول العربية الأصيلة، وصالات الأعراس الحديثة محل الخيم المخصًصة لحفلات الزفاف. وبدأت شيئًا فشيئًا تختفي العديد من العادات والتقاليد التي كانت معتمدة في العرس البعلبكي، والخوف وربما الحسرة أن يأتي يوم ويختفي فيه ذلك “الطقس” الذي حجز له مكانة مهمة في التراث البعلبكي الممتد عميقًا في الزمن.
أبرز تلك التحولات، كانت الأزمة الاقتصادية التي حلت ضيفًا ثقيلًا على العرس البعلبكي، حيث كان لها الأثر الأكبر في هذا التّحوّل السّريع والمفاجئ، وأيضًا في انخفاض معدلات الزواج والمقبلين عليه، وذلك وفق أرقام الاحصاءات التي تحصل سنويًا. لكن بعيدًا عن كل ذلك، يبقى العرس البعلبكي وما يرافقه من طقوس وعادات، متميّزًا عن باقي حفلات الزفاف في المناطق اللبنانية كافة.
لمراسم الزفاف عند أبناء بعلبك الهرمل وجهٌ آخر، لا يعرفه من لم يشاهده أو يشارك به، لكنه ينفرد حتمًا ويتميّز بطقوسه وعاداته وشكله عن باقي المناطق في لبنان. هناك طقوس تختلف بين القرية والأخرى، لكن يبقى ذلك محدودًا ولا يُحدث فروقًا كبيرة في عادات العرس البعلبكي وطقوسه وعاداته.
العرس.. عادات وتقاليد
قديمًا جرت العادة، لا سيما في القرى البقاعية الصغيرة، أن يتولى الدعوة للعرس إثنان، واحد من أقارب العروس وواحد من أقارب العريس، عبر التنقل بين منازل الجيران والأقارب بيتًا بيتًا، وإبلاغ العائلة بأنهم مدعوون إلى زفاف فلان ابن فلان على فلانة ابنة فلان، وكانت هناك صيغة موحدة للدعوة: “بدنا ننقل هالشب لهالبنت”، مع تحديد موعد ومكان إقامة الزفاف، والذي كان شائعًا إقامته داخل المنزل أو داخل خيمة يتم نصبها في الباحة الأمامية للمنزل أو ساحة القرية، قبل أن تحتل صالات الأفراح الحديثة المشهد.
لا يتم العرس البقاعي بليلة واحدة، وقديمًا كان يصل إلى سبعة أيام بلياليها، لكل ليلة طقوسها الخاصة. من الشّائع اليوم أن تسمّى الليلة التي تسبق ليلة الزفاف المنتظرة بـ “حفل توديع العزوبية”، وهي تقام ضمن نطاق ضيق بين العروس وصديقاتها واقاربها من شابات يافعات، وقد صارت منتشرة أكثر في الوقت الراهن، وتأخذ طابعًا ورديًا منمقًا مع قالب حلوى وملصقات مرحة.
لا يتم العرس البقاعي بليلة واحدة، وقد يصل لدى بعض العائلات إلى أكثر من ثلاثة أيام بلياليها، لكل ليلة طقوسها الخاصة
في البقاع، تسمى الليلة التي تسبق ليلة الزفاف “سهرة العروس”، تبدأ نهارًا مع قدوم نساء العائلة والجيران والأصدقاء إلى منزل عائلة العروس التي تتولى مسؤولية تحضير وتأمين كافة مستلزمات الضيافة لهذا اليوم. تأخذ بعض النّسوة دورًا في تحضير الطعام الذي يقدَّم في السهرة، وهو غالبًا “تبولة” وما يسمى بـ “كبة العروس”، وهي سندويشات صغيرة من الكبة مع النعنع ورشة ملح. في حين تنشغل باقي النسوة بالرقص والغناء للعروس التي تتوسط الحفلة بفساتينها المتعددة، فالعروس خلال هذه الليلة تغير فستانها مرات عدة، إلى حين قدوم العريس وأفراد عائلته للمشاركة لفترة محدودة، حيث عادةً ما يقام طقس “الحنة” للعرسان، ومن ثم يغادر الرجال من الطرفين الحفلة، لتستكملها النساء بالرقص والغناء والقرع على “سطل اللبن” أو أي وعاء منزلي يصدر صوتًا يتناسب مع الأغاني اللاتي يرددنها.
تقول “مريم” المتزوّجة منذ أكثر من ثلاثين عامًا، وكانت زوّجت ابنتها على الطريقة البعلبكية أيضًا رغم اقترانها بشاب جنوبي، أن بعض الأمور تغيّرت فكان من الشائع في هذه الليلة أن ترتدي العروس فستانًا من التراث البدوي، وتقوم النساء والعروس برسم نقوش بدوية على وجههن وكان يتم تعليق أقمشة مزخرفة بنقوش على الجدران كنوع من الزينة. أما اليوم فهناك توجه نحو الملابس والزينة العصرية، وتأجيل طقس الحناء الى ليلة الزفاف التي صارت تقام في الصالات، ما حوّل هذه السهرة إلى “سهرة مودرن” على حد قولها.
حنة العرسان
حافظ طقس “الحنة” على وجوده ورمزيّته في الأفراح البقاعية رغم كل التغيرات التي طرأت، سواء كان أحد العرسان من منطقة أخرى، أو أقيم الزفاف خارج البقاع وحتى خارج لبنان، لا تزال “صينية الحنة” كتقليد قائم بنفسه حاضرة في الأغلب الأعم من أعراس أبناء المنطقة. والأصل بهذا التقليد أن تقوم عائلة العريس بتحضير هذه الصينية، وهي عادةً ما تكون صينية فاخرة من النحاس، مخبأة في منزلٍ أو منزلين من منازل كبار العائلة، ولا تستخدم إلا في هذه المناسبات.
يتم تزيين هذه الصينية، ويوضع عليها وعاء صغير من الحنة، وبخور، وورد، وشموع. تحرص العائلة على أن تكون الصينية على أكبر قدر ممكن من الترتيب والجمال والفخامة، وعادة ما توكل هذه المهمة إلى سيدة من العائلة في كل الأعراس، ويبقى الأمر على حاله إلى حين عجزها عن ذلك.
يدخل أهل العريس بالصينية إلى المنزل أو الخيمة حيث تقام “سهرة العروس” أو إلى الصالة في الأعراس الحديثة، ويتم التناوب في حملها والرقص بها عاليًا من قبل المقربين من العريس، في حين تستقبل عائلة العروس، الشريك المنتظر وعائلته بالزغاريد و “الرديات” الشهيرة أبرزها: “جيبوا الحنة بصواني للزين الأسمراني” و “جيبوا الحنة ويني بدي حني ايديي”. من ثم يتم وضع الصينية على طاولة أمام العريسين، اللذين يجلسان بهدوء وخجل، ويقوم كل واحد منهما بوضع خنصره في وعاء الحنة، فيقوم أحد كبار العائلة بلف الخنصر بقماشة بيضاء وربطها بخيط، من ثم يبدأ الأقرباء بالتوافد لتقديم “النقوط” للعرسان، والنقوط هو مبلغ مالي يقدمه الناس للعريسين كهدية زواج.
تستقبل عائلة العروس، الشريك المنتظر وعائلته بالزغاريد و “الرديات” الشهيرة أبرزها: “جيبوا الحنة بصواني للزين الأسمراني” و “جيبوا الحنة ويني بدي حني ايديي”.
يبادر الأب بذلك ويليه الأعمام والأشقاء من ثم باقي أفراد العائلة والراغبين من جيران وأصدقاء بتقديم النقوط تواليًا، إما بوضعها على الصينية أو تسليمها باليد إلى أحد الأقارب الذي يتولى مهمة استلام المبلغ ولف الأوراق النقدية على أصابع العرسان، في حين يردد المقربون للعريس ردية متوارثة ” عريس عريس مد الكف وتحنى، وحياة عمرك ما تزعل حدا منك”.
جرت العادة في بعض العائلات أن يقف إلى جانب الصينية رجل أو امرأة، ليعلنوا بصوت عالٍ عن قيمة النقوط وإسم الشخص الذي قدمه، “الله يبارك فلان الفلاني نقط ب 100$ للعروس”، ويأخذ الأمر منحى تنافسي ودي في بعض الأحيان، فتحاول كل عائلة أن تزايد على الأخرى بنقوطها، ويفوز في النهاية إما أهل العروس أو أهل العريس بذلك.
بعد انتهاء تقديم النقوط تقوم سيدة بالتجول بصينية الحنة وتدور بها على المعازيم الذين يسارعون إلى تحنية خناصرهم، ولفها بـ”محرمة” ورقية لمحاولة تثبيت اللون الذي يبقى أحمرًا ظاهرًا على الإصبع لأيام معدودة، وذلك للدلالة على أنهم حضروا وشاركوا في هذا الزفاف.
الزفاف البقاعي الأصيل
لعل أبرز نموذج حقيقي وواضح لما يمثّل الزفاف البقاعي الأصيل، هي أعراس آل صلح، فهم حتى اليوم، لا يزالوا أكثر المحافظين على ما سنته العادات والتقاليد العربية العشائرية، فلا يغيب عن حفل زفافهم الخيل والدبكة العربية واللباس البدوي، وكل المظاهر الأخرى التي التزم بها البقاعيون في الماضي. ومنها عادة خطف العريس والمزاح معه بشكلٍ قاسٍ، ومن ثم إعادته في الصباح، وتناول الفطور معه قبل جلسة الحلاقة التي بدورها لها عاداتها وطقوسها وأغانيها، والتي تمتزج عادةً بإطلاق الرصاص ابتهاجًا.
قبيل موعد الزفاف، وبعد انتهاء العروس من تجهيز فستانها وزينتها، يتوجه وفدٌ من عائلة العريس إلى منزلها لاصطحابها إلى مكان إقامة حفل الزفاف، تسبقهم بفرقة الزفة التي تدخل المنزل قبل العريس ممهدةً لوصوله، من خلال ترديد أغانٍ تراثية شامية، والعزف وقرع الطبول والرقص. كما تستقبلهم عائلة العروس بالزغاريد ورش الأرز، والمووايل. ومن العادات المتوارثة الطريفة أن تقوم عائلة العريس بسرقة “شيء ما” من منزل أهل العروس وتخبّئه في منزلها، وعادةً ما يكون قطعة أثاث صغيرة أو “صينية” أو أي وعاء صالح للإستعمال المنزلي، وأحيانًا يتم شرائه لأجل ذلك.
ما إن تخرج العروس من بيت أهلها، تطلق النساء الزغاريد في مدح أهل العروس، ويرددن أغنيات الشكر والامتنان “يخلف عليكم كثر الله خيركم”، ويبادلهم أهل العريس وكبار عائلته التشكرات والمباركات. ومن التقاليد البقاعية الأصيلة، يدخل العروسان إلى مكان إقامة الزفاف على الأحصنة، ويرتدي العريس الرداء التراثي البقاعي، وهو عباءة بيضاء أو سوداء.
من العادات المتوارثة الطريفة أن تقوم عائلة العريس بسرقة “شيء ما” من منزل أهل العروس وتخبّئه في منزلها، وعادةً ما يكون قطعة أثاث صغيرة أو “صينية” أو أي وعاء صالح للإستعمال المنزلي، وأحيانًا يتم شرائه لأجل ذلك.
يُعرف أهل البقاع بكرمهم الّذي ينعكس جليًّا في مناسباتهم، فهم يحرصون أيًا كانت أوضاعهم المادية، على تقديم وليمة طعام كبيرة ومميّزة للحاضرين، يتكفل بها العريس وعائلته. تتألف هذه المائدة بشكل أساسي من “الصفيحة البعلبكية” ومناسف الأرز باللحم واللبن، ودائمًا ما يفيض عن الوليمة الكثير من الطعام الذي يتم توضيبه وتوزيعه على أفراد العائلة والجيران.
ينتهي الزفاف مع انتهاء المراسم كاملة، ويتوجه العريسان مع عائلة العريس وبعض أفراد عائلة العروس لإتمام المراسم. عند الوصول إلى منزل الزوجية، يترجل العريس من سيارته، في حين تبقى العروس داخلها منتظرة “خلعة باب الدار”، وهو طقس ينبغي خلاله أن يقوم العريس أو والده أو أحد إخوته بتقديم مبلغ مالي للعروس، تكريمًا لقدومها إلى المنزل.
تطالب نساء عائلة العروس بـ “خلعة باب الدار” من خلال الغناء والتصفيق “والعروس ما بتحول إلا بخلعة باب الدار” (أي أن العروس لا تدخل المنزل إلا بهدية مالية). وبعد ترجل العروس من السيارة، تقوم حماتها بوضع “رمانة” على الأرض لتدوسها العروس، من ثم يتم حملها لتلصق “العجينة” فوق باب المنزل، وعند التصاق العجينة تنطلق الزغاريد، في إشارة لالتصاق العروس طويلًا بمنزلها الجديد.
بين الماضي والحاضر
تتشابه الأعراس البقاعية بطقوسها المميزة مع العديد من الدول العربية كفلسطين والأردن وسوريا، لكنها تكتسب في بعلبك مزايا إضافية ومختلفة، تنبع من عادات مجتمعية لها علاقة بأنماط العيش وعملية الانتاج والدورة الاقتصادية. وكذلك من خلال توارث التّقاليد البدويّة العربيّة الأصيلة. تبقى هذه التقاليد والعادات دلالة على تمسك البقاعي بهويته العربية، وارتباطه الوثيق بالأرض والطبيعة، وكرمه الذي لا يتبدل ولا يتغير أيًا كانت الظروف.
قد تندثر بعض هذه العادات مع مرور الوقت، وقد يأخذ مكانها طقوس ومراسم حديثة عصرية، لكن التوجه للحفاظ عليها لا يزال قائمًا في ذهن الغالب الأعم من البقاعيين، الذين يدركون جيدًا أن الفرح لا يكتمل إلا بأن نكون أنفسنا المأصلة والمشبعة بهذا الكرم والتفاخر والأصالة العربية.