الاستتباب الأمني مؤشر لصيف سياحي واعد في بعلبك؟
منذ مطلع النصف الثاني من السّنة الماضيّة 2022، واظبت قوات ووحدات الجيش اللبنانيّ وبالتعاون مع سائر الأجهزة الأمنيّة، على استكمال عملياتها “النوعيّة” في قرى وبلدات قضاء بعلبك، ذلك ضمن خطة أمنيّة كانت قد أطلقتها حينها، بغية الاطباق على الطفار والمطلوبين والمُشتبه بهم وردع المخالفين. في محاولة مستميتة لضبط الوضع الأمنيّ المأزوم في المساحة الجغرافية الممتدة على مقلبي الحدود اللبنانيّة – السّورية والخارجة عن القانون عقود.
هذه الخطة التّي تمكن فيها الجيش من إرساء واقع أمنيّ مستتب نسبيًا، كان لها الدور الحيويّ في الانفراجة النسبيّة التّي تشهدها المنطقة وتحديدًا مدينة بعلبك، وهذا ما كان يتوق له السّكان مع استفحال الوضع الأمنيّ في آخر سنوات الانهيار.
هذه الانفراجة التي لا تعدو كونها، انشراحة معنويّة أسهمت بدورها بتنشيط تدريجيّ لعجلة الاقتصاد المحلي، فضلاً عن تحسن في المؤشرات السّياحيّة، إذ وعلى خلاف العادة، نشطت حركة سياحيّة في المنطقة وتحديدًا في مدينة بعلبك، التي باتت تستقطب زوارًا وسياح من مختلف الجنسيات منذ مطلع العام الحالي. هذه الحركة التي تعثرت في آخر عشر سنوات مع احتدام الاقتتال في سوريا وما تبعه من تطورات أمنيّة في البقاع الشمالي وصولاً لتبعات الانهيار المطرد والمستمر منذ ما يقارب الثلاث سنوات ونيف.. ويتطلع السّكان لموسم سياحيّ واعد معطوف على عودة مدينتهم إلى خارطة المدن السّياحية في لبنان.
حركة سياحيّة
مع اقتراب موسم الصيف، تسعى السّلطات اللبنانيّة جاهدةً التّرويج المستمر للموسم السّياحي المرتقب واعتباره واعدًا ونشر الأرقام والعائدات التي غالبًا ما تكون مبالغ بها. لكن وبصرف النظر عن هذه المبالغات، فإن واقعًا سياحيًا مبشرًا قد بدأ يَشق طريقه في مدينة بعلبك التي استقطبت منذ مطلع العام الحالي آلاف الزوار، والمغتربين، والسّياح العرب، والأجانب. الذين أسهموا في انتعاشة اقتصادية تراكميّة تعيشها المؤسسات الخدماتيّة والسّياحيّة في المدينة، من الفنادق وصولاً للمطاعم، والمقاهي، ومحلات الألبسة، والحلويات.
وفيما يُعزى هذا الواقع لكون المدينة وعلى خلاف سائر المناطق اللبنانيّة وبالرغم من الأزمة الاقتصادية المستفحلة قد حافظت لحدٍّ ما على خصوصيتها السّياحيّة فضلاً عن الأسعار المقبولة (أكان بالدولار الفريش أم بالليرة اللبنانية). ما أثر إيجابًا على مدخول الأسر والأفراد العاملة في القطاعات الخدماتيّة والسّياحية.
وبعودة المهرجانات الدوليّة السنويّة التي تُقام في القلعة الرومانيّة، والتحضيرات التي تُرافقها، والترميم الجزئي للقلعة (وآخرها كان ترميم معبد جوبيتر وإعادة تأهيل موقع بعلبك الأثري، بتمويل من الحكومة الإيطالية، وبدعم من مجلس الإنماء والإعمار)، والتخفيضات على رسوم دخول القلعة (المقبولة مقارنةً بباقي المناطق) والتّي يستفيد منها السّكان المحليين واللبنانيين، كلها عوامل ساهمت في ترقيع وتجميل محيط القلعة وما يتفرع عنها من أسواق شعبيّة ومحال تجاريّة.
منذ مطلع العام الحالي استقطبت مدينة بعلبك آلاف الزوار، والمغتربين، والسّياح العرب، والأجانب. الذين أسهموا في انتعاشة اقتصادية تراكميّة تعيشها المؤسسات الخدماتيّة والسّياحيّة في المدينة
واللافت في هذه السنة كان استقطاب بعلبك للسياح العرب تحديدًا من مصر والأردن الذي يعمد رهط منهم للسفر إلى لبنان برًّا مرورًا بالداخل السّوري وعبر نقطة المصنع، وبذلك تكون بعلبك أولى المُدن السّياحيّة التّي يقصدونها في لبنان.
الأمر الذي بات ملحوظًا مع اعتماد الزوار والمقيمين على التسويق للمدينة عبر منصات التواصل الاجتماعي (انستغرام وتيك توك..)، ما استقطب زوارًا جُدد، بدافع الفضول لمشاهدة الآثار التّاريخيّة والمناطق الطبيعيّة وزيارة المؤسسات السّياحيّة من المطاعم والمقاهي ومحال الألبسة العتيقة والمحافظة على خصوصيتها من حيث الخدمات والسّلع فضلاً عن الأطعمة البعلبكية. ناهيك لكون الأسواق الشعبيّة (سوق الأربعاء وسوق السبت) وبأسعارها المقبولة وطابعها الشعبيّ ساهمت بجذب سكان مختلف المدن اللبنانية بغية التبضع والتسوق للتوفير. ما أسهم في تشجيع الرساميل واستقطابها وافتتاح المزيد من المحال التجارية والمطاعم والمقاهي.
هذا وناهيك بالفعاليات التّي تُقام دوريًا والتّي تستحضر الهوية المدينية والثقافية لبعلبك والتّي سُلبت منها بحكم فرض قوى الأمر الواقع هويتها الأحاديّة. ومن هذه الفعاليات سيُقام تباعًا أول الشهر المقبل (من 1 إلى 3 حزيران)، نشاطات ثقافية عدّة أولها في بعلبك وتحديدًا في أوتيل “بالميرا” بحيث سيتم افتتاح معرض صور لفريدريك ستوسين عنوانه “يا لبنان!” وبعدها طاولة مستديرة حول “الثقافة والفنون في البقاع: حاجات وأفاق”. وثاني الفعاليات سيقام ما بين مدينة بعلبك ومحلة بوداي تشمل عروض مسرحية لطلاب من مدارس المقاصد وراهبات القلبين الأقدسين والبشائر والوطنية المارونية في مجلس بعلبك الثقافي.
بعدها سيتم عرض فيلم “بلدنا البعيد” لكامي برونيل ومالك فليفل ومن ثم عرض راقص يُقدمه ألكسندر نبوسيه، وذلك في القرية الزراعية في بلدة بوداي البعلبكية. وأخيرًا عروض مسرحية لطلاب مدرسة عقول حرّة في قضاء الهرمل التّي تعتمد منهجًا جديدًا وحديثًا في مناهجها التربوية القائمة على التربية المدنية وتعزيز مبدأ المواطنة يتبعها العروض السينمائية والراقصة نفسها المزمع إقامتها في الثاني من حزيران المقبل.
الخطة الأمنيّة وتبعاتها
تشير المصادر الأمنيّة في المنطقة، أن الخطة الأمنيّة التي اُستهلت مطلع شهر حزيران من العام الماضي مستمرة حتّى اليوم، وهي بقيادة مديرية المخابرات في الجيش التّي كثفت عملياتها ومداهماتها على امتداد العام وفي مختلف البلدات والقرى في قضاء بعلبك، وخاصةً في حيّ الشراونة (حيّ الجعافرة)، ودهم منازل المطلوبين وتفكيك معامل تصنيع المخدرات وشبكات تهريب السّلاح. الأمر الذي أفضى في محصلته إلى تنظيف جزئي للمنطقة من المطلوبين بجرائم جنائية خطرة، منهم من اعتقل وآخرون قُتلوا أو تواروا عن الأنظار، لاجئين إلى الهرب نحو الداخل السّوري والحدود اللبنانية – السورية (الجرود).
دهم منازل المطلوبين وتفكيك معامل تصنيع المخدرات وشبكات تهريب السّلاح. أفضى في محصلته إلى تنظيف جزئي للمنطقة من المطلوبين بجرائم جنائية خطرة
والعمليات التي استقدم فيها الجيش تعزيزات أمنيّة واستعان فيها بالأسلحة الثقيلة، ونشر الحواجز ونقاط المراقبة، قد أسهمت في تضاؤل ملحوظ بمعدلات الجريمة. تلك العمليات قُوبلت بترحيب عام وغطاء شعبيّ من شطرٍ لا يُستهان به من البقاعيين والبعلبكيين، فيما يستهجن شطرٌ آخر هذه العمليات بوصفها متأخرة وكان على الدولة استباق وتدارك الوضع الأمني منذ عقود.
وعلى الضدّ من كل الأقاويل التّي تنطوي على مبالغة ومغالاة في تحسن الوضع الأمني بصورة تامة، مما لا شكّ فيه أن شوطًا كبيرًا يفصل السّلطات اللبنانيّة “الشرعيّة” عن إعادة إحكام قبضتها على هذه المنطقة المغتربة عن دولتها. وإذ لا نجزم أن الحركة السّياحية المستجدّة واللافتة على خلاف السنوات السّابقة مردها في المرتبة الأولى لهذه الخطة الأمنيّة إلا أنّه من الشطط إنكار أثر هذه العمليات على استتباب الأمن وما له من تبعات على مختلف الصُعد.
الالتفاتة الجدية هي غالبًا جلّ ما يتمناه سكان بعلبك- الهرمل من دولتهم، أن تراهم وتسمعهم، ولربما قد تلحظ خصائص منطقتهم وما تختزنه من منفعة لها ولهم، فتستغلها. وبين المناشدات والتمنيات، قليلةٌ هي المرات التّي ينبثق فيها بصيص أمل فعليّ لأهالي المنطقة المنكوبة، المتخبطين في اجتراح الحلول البديلة في ظلّ غياب الخطط التنموية. ويبقى على السّلطات اليوم أن تتحمل مسؤولياتها تجاه البقاعيين المتفائلين والمستبشرين خيرًا من استتباب الوضع الأمني وتحرك العجلتين الاقتصادية والسياحية وألا تخذل هؤلاء. كما يحتم على الوزارات المعنية التّي اعتادت بث الوعود أن تلتزم بها وأن تفعل آليات الرقابة وحماية المستهلكين.