الاستشفاء والطبابة في مخيمات اللجوء متاهات لا ترحم المرضى
منذ شهر أيّار (مايو) الماضي، تاريخ إعلان المفوّضيّة السامية للأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين UNHCR تخفيض ميزانيتها المخصّصة لتغطية استشفاء السوريّين في لبنان، بات العبء كبيرًا سواء على اللاجئ نفسه، أو على المستشفيات الحكوميّة تحديدًا، إذ وقَعَتْ بين نارين، إمّا استقبال جميع الحالات المرضيّة للمقيمين في لبنان، بالكلفة العلاجيّة نفسها وهذا ما لا تقدر عليه ميزانيّاتها، وإمّا رفضها استقبال حالات غير خطرة لغير اللبنانيّين وهذا ما يخالف رسالة الطبّ وشرعة حقوق الإنسان.
الدواء ونار الأسعار
يعاني مرضى السرطان وسائر الحالات المستعصية كُلّ يوم من آثار قرارات جائرة، لا رأي لهم فيها ولا قرار، بدءًا من الفرار من آلة الموت والدّمَار واللجوء إلى مخيّمات البؤس، وصولًا إلى قرارات المفوّضيّة التي تنزل عليهم كـ”فرمانات” غير قابلة للنقاش أو الاستفهام والمراجعة.
فطّوم عامر “أمّ لؤي” مرأة ستينيّة من منطقة القْصَيْر الحدوديّة، وأم لفتاة عشرينيّة من ذوي الإعاقة، تقيم في مخيّم “أبناء الشهداء” في بلدة عرسال البقاعيّة، تعاني من سرطان الثدي منذ سنوات، تروي لـ “مناطق نت” رحلة العذاب مع مرض لا يرحم فتقول: “خضعت لعمليّة استئصال الثدي منذ أربعة عشر عامًا، وذلك قبل خروجنا من سوريّا بأشهر قليلة، لم أكمل حينذاك كلّ جلسات العلاج الكيماويّ، ما أثّر في صحّتي كثيرًا، فتحمّلت أصعب الأوجاع، ورأيت الموت أكثر من مرّة”.
يعاني مرضى السرطان وسائر الحالات المستعصية كُلّ يوم من آثار قرارات جائرة، لا رأي لهم فيها ولا قرار، بدءًا من الفرار من آلة الموت والدّمَار واللجوء إلى مخيّمات البؤس، وصولًا إلى قرارات المفوّضيّة التي تنزل عليهم كـ”فرمانات”
وتضيف بحسرة وحزن “الحمد لله أكملت العلاج هنا وعايشت المرض رفقة الدواء، لكن بعد المشاكل في لبنان بدأت معاناة تأمين الدواء بسبب ارتفاع أسعاره، فلجأت مضطرّة إلى الدواء السوريّ علمًا أنّه لا يناسبني، لكن شو بعمل؟”.
تتابع أمّ لؤي:” لا أستطيع ترك خيمتي بسبب ابنتي وهي من ذوي الاحتياجات الخاصّة كي اقوم بأيّ عمل يساعدني. والدها تُوفِيَ في سوريّا، وأخوها بالكاد يكفي عائلته، وتأمين الدواء بات صعبًا جدًّا، كذلك التحاليل والصور الدوريّة، وهو ما توقّفت عن إجرائه بعد قرار المفوّضيّة الجائر”. وتضيف: “لا توجد جهات ومنظّمات تهتمّ بنا نحن مرضى السرطان، لأن معاناتنا دائمة “حتى ربنا ياخد أمانته”، أحيانًا أحصل على مساعدة خاصّة من أهل الخير، الله يجزيهم بالخير”.
عذابات وجراح
سمر راشد “أمّ أيهم” مشرفة مخيّم أبناء الشهداء، والتي رافقتنا في زيارة خيمة المريضة “أمّ لؤي” تقول لـ “مناطق نت”: “كنّا صغارًا نسمع ونقرأ عن التغريبة الفلسطينيّة، لكن لم نكن نعرف معناها، اليوم نعيشها بكلّ تفاصيلها، عذاباتها وجراحها، ندوبها ستبقى في الروح والذاكرة”.
تضيف أمّ أيهم “اليوم تشاهدون بأعينكم معاناة هذه السيّدة، وتوجد في المخيّم عدّة حالات أمراض مستعصية، من سرطان وفشل كلويّ وذوي احتياجات خاصّة، هم ضحايا بوجوه متعدّدة، ضحايا اللجوء والمرض والقرار الجائر للمفوّضيّة، حتّى قبل تخفيض ميزانيّة مساعدات الاستشفاء، كان المريض السوريّ اللاجئ يعاني الأمَرَّيْن في المستشفيات المتعاقدة مع المفوّضيّة، لناحية الفارق المادّيّ المساوي لأيِّ مستشفى آخر غير متعاقد معها”.
تتابع الشاويش “أمّ أيهم”: “اليوم نحن هنا، أمام مشكلة كبيرة تطال كُلّ اللاجئين، كلف الاستشفاء باهظة، وقرار المفوّضيّة وضع اللاجئ أمام فرصة “نصّ علاج” ما يشكّل خطرًا كبيرًا على حياته، هذا إن استطاع الوصول إلى المستشفى بسبب بعدها الجغرافيّ، لذلك أناشد مفوّضيّة اللاجئين العودة عن هذا القرار الخاطئ ودعم ميزانيّة الطبابة والاستشفاء وليس تخفيضها، كذلك دعم المستشفيات الحكوميّة لاستيعاب أكبر عدد من المرضى، رحمة بالناس إلى حين عودتها إلى ديارها”.
فشل الكلى والغسيل الممنوع
الفشل الكلوي مرض قاتل وسريع، خطورته تفوق مرض السرطان، أَيِّ مريض لا يقوم بالغسيل أو يتأخّر عليه، مُعَرّض لفقدان حياته، لذلك كان قرار إقفال مركز الهيئة الطبّيّة الصحّيّة في عرسال قبل أكثر من عام مستغربًا ومستهجنًا بِشدَّة، كَونَه كان المركز الوحيد الذي يَضُمّ قِسم غسيل كلى، ويُؤمّن عمليّة الغسيل لعشرات الحالات المرضيّة، فكيف يتمّ الإقدام على هكذا قرار من دون أيِّ اعتبار لضرره على حياة الناس، بالطبع هكذا أسئلة لا إجابات عليها.
مصطفى علي مشارقة “أبو ابراهيم” البالغ 61 عامًا، أصيب بفشل كلويّ منذ ستّة أعوام، ما ألزمه اللجوء إلى غسيل الكلى، وكان يَحْصُل عليه مَجّانًا في مركز الهيئة الطّبيّة الصحّيّة في عرسال قبل إقفاله، يقول في حديث لـ “مناطق نت”: ” قبل إقفال المركز كُنْت أخضع لثلاث جلسات غسيل أسبوعيًّا، بعد القرار خَفَّضْتُها مجبرًا إلى اثنتين على رغم المضار الصحّيّة عليَّ، لكن ماذا أفعل؟”.
“لا قدرة لي على تأمين البدل المادّيّ، أدفع شهريًّا ما مُعَّدله 200 دولار أميركيّ للغسيل، عدا عن الدواء وكلفة النقل المرتفعة أيضًا، والعمل ممنوع على السوريّ، ومفوّضيّة الأمم بدلًا من مساعدتها للناس قامت بخنقهم أكثر وأكثر، كلّ ما نريده ونتمنّاه الفَرًج مِن الله، العافية للجميع والعودة الآمنة إلى بلدنا قبل الموت” يقول أبو ابراهيم.
الفزعات الشعبيّة
في ظلّ تفاقم أوضاع اللاجئين السوريّين، تزداد قساوة الظروف المحيطة بهم، أبواب الحلول الفعليّة مقفلة، لا أمل يلوح في الأفق، غبار الحروب كثيفة تُعَّكْر الرؤية، لذلك تبقى المبادرة الخاصّة الحل البديل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، فكانت “الفزعات الشعبيّة”.
يقول منسّق مخيّمات اللاجئين السوريّين ولجنة المتابعة والتنسيق في عرسال سامر عامر لـ “مناطق نت”: “إنّ خفض المساعدات الصحّيّة من قِبَل المفوّضيّة بدأ فعليًّا منذ سنوات، ليس فقط من أيّار الماضي، عشرات الحالات المرضيّة لم تكن تغطّيها أصلًا، إضافة إلى عدم مراعاة المرضى من قِبَل المستشفيات المتعاقدة معها، وعندما يكون المريض في المستشفى هل نتركه يموت ونحن ننتظر ونتفرّج؟”.
يتابع عامر ساردا قصّة الفزعة: “قرّرنا إيجاد حلّ لهذه المشكلة، أطلقنا بعد التشاور عمليّة جمع تبرّعات “فزعة” (في ثقافة العشائر السوريّة، الفزعة _مصطلح يعبّر عن تقديم المساعدة والدعم_) تكون علنيّة عبر مجموعات الـ”واتس آبّ” لكلّ مخيّمات عرسال، نعرض اسم المريض، اسم المستشفى، نوع المرض وكلفة العلاج المطلوبة، ثمّ نقوم بعرض الأرقام المدفوعة من كلّ مُتَبرّع، إلّا من يطلب عدم عرض اسمه فنكتب “فاعل خير” وذلك بهدف الأمانة والشفافيّة والثقة، واستطعنا بفضل الله عبر هذه “الفزعات” معالجة عشرات الحالات”.
سامر عامر: إنّ خفض المساعدات الصحّيّة من قِبَل المفوّضيّة بدأ فعليًّا منذ سنوات، ليس فقط من أيّار الماضي، عشرات الحالات المرضيّة لم تكن تغطّيها أصلًا، إضافة إلى عدم مراعاة المرضى من قِبَل المستشفيات المتعاقدة معها
ويضيف: “أحيانًا يتبرّع شخص ما بمبلغ زهيد جدًّا، 20 أو 50 ألف ليرة لبنانيّة، شيء يُكَبِّر القلب فعلًا، كذلك ينضم إلينا أحيانًا كثيرة متبرّعون من أخوتنا أبناء عرسال مشكورين، هذا الحلّ على حساب لقمة الخبز لكن “ما باليدّ حيلة” المفوّضيّة تُجِيب دائمًا هذا المتاح سواء أعجبكم أم لم يعجبكم”.
لا تفريق بين المرضى
غير خفيّ على أحد أنّ بعض المستشفيات اللبنانيّة المتعاقدة مع مفوّضيّة اللاجئينUNHCR ، كُلَّ همها أعداد المرضى اللاجئين على أَسِرَّتِها، ليس علاجهم أو شفاءهم، حتّى إنّ بعض هذه المشافي قامت بمئات العمليّات الجراحيّة الوهميّة لأنّها تتقاضى البدل المادّيّ سريعًا و”بالفريش دولار”، لكن بقي هناك من يعمل بضميره وانسانيّته.
يؤكّد رئيس جهاز الطوارئ والإغاثة في عرسال الحاج علي الحجيري في حديث إلى “مناطق نت” “أنّنا منذ نشأة الجهاز العام 2011 لم نُمَيِّز يومًا بين مريضٍ ومريض، لا لبنانيّ ولا سوريّ ولا غيره، ولن نُمّيِز مستقبلًا بالتأكيد. نقلنا طوال هذه السنوات مئات الحالات، مرضى وجرحى ومصابين وجثامين مُتّوفِّين، حتّى في خلال الأزمة الماليّة عاملنا الجميع بالمعيار ذاته”.
ويضيف: “كنّا نخبر أيّ طالب خدمة إسعاف مريض بكلفة النقل مسبقًا، الكلفة كانت واحدة على الجميع. بعد انفراج الأزمة الحمد لله عدنا إلى النقل المجّانيّ للمرضى. أمّا من يقوم بالتبرّع للجهاز اختياريًّا نعطيه وصل تبرّع بعد شكره. حتّى بالعمل الوظيفيّ داخل مركزنا، مركز الإيمان الصحّيّ، لا نُمَيِّز بين المتقدّمين لطالبي الوظيفة، والشرط الأساس لقبول أيّ طلب وظيفيّ، طبيبًا أو ممرّضًا أو في المختبر، أن يكون حاملًا إذن مزاولة العمل من وزارة الصحّة اللبنانيّة، على رغم أنّ البعض لا يعجبهم ذلك، لكن هذه تعاليم ديننا وأخلاقنا ومبادئ عملنا في جهاز الطوارئ والإغاثة والمركز، وحتّى في جمعيّتنا، الجمعيّة الطبّيّة الإسلاميّة، المعيار ذاته”.
إنّ الاستشفاء والحصول على الخدمة الطبّيّة حقّ من الحقوق الطبيعيّة الكثيرة للإنسان، على أمل أن نصل يومًا ونرى فيه الأنظمة المختلفة تهتمّ بحياة المواطن وكرامته، وأقلّ ذلك ألّا يموت على أبواب المستشفيات أو بسبب جيوبه الخالية من ثمن الدواء والعلاج.