الاقتصاد البعلبكي في القرن السادس عشر: غرفة تجارة و7 أسواق برساميل عالية

كما كانت مصر هبة النيل، كذلك، كانت بَعْلَبَكّ هبة مياه مُغيراتها ونهرها، وعلى ضفتي هذا النهر نشأت أحياؤها السكنية وبُنيت قلعتها، وأُقيمت منصّات دواليب الحرير فيها، والمطاحن والمعامل الحرفية الصغيرة لدباغة الجلود وصباغتها، ولصناعة النبيذ والجبن الأبيض الفاخر الذي ضُرب به المثل لشدّة بياضه.

ومن صخرها أُستُخرِج الملح، ومن كروم بساتينها أُنتج العنب العاصمي والدبس الفاخر، وعلى ورق توت أراضيها نشطت تربية دود القز (الحرير). وفي مروجها ومراعيها، سرحت قطعان الماعز والغنم ونشطت تربية النحل، حتى أضحت قصبة بَعْلَبَكّ بذاتها، خلال القرن السادس عشر، خلية نحل تنبض بالحياة وتعجّ بالسكان المنتجين، العاملين على تقدّم وازدهار مدينتهم لتحتل بجدارة المركز الثاني في لواء الشام، بعد دمشق.

وبما أنّ إدارة السلطنة العثمانية كانت سلطة ريعية، تعتمد في موارد خزانتها على الرسوم والضرائب التي تجبيها من سكان مقاطعات ولاياتها وانتاجهم الزراعي والحرفي. لذا يمكن من خلال قراءة وثائق سجلات الطابو تحرير دفتري العثمانية للواء الشام خلال القرن السادس عشر، الدفاتر: رقم 430 (سنة 934 هـ / 1528 م)، و401 (سنة 942 هـ / 1535-1536 م)، و383 (959 هـ/ 1552م) و543 (981هـ/ 1573-1574م)، دراسة وتحليل التحصيلات العثمانية والوقوف على مدى تطوّر اقتصاد بَعْلَبَكّ ومرتكزاته، وتكاليف أهاليها من رسوم وعائدات ضريبية مالية نقدية وعينية وحصص أوقافهم الخاصة والعامة.

أولاً: في تحليل المعطيات المالية العامة

في العام 1528، بلغت تحصيلات الإدارة المالية العثمانية من بَعْلَبَكّ نحو 102750 أقجة  (الأقجة هي أصغر عملة عثمانية آنذاك كانت تساوي جزءًا من 120 جزءاً من القرش. أي كل بارة تساوي 3 أقجات باعتبار القرش = 40 بارة). وهذا المبلغ المتحصّل من أهالي بَعْلَبَكّ، عام 1528، كان بإمكانه أن يشتري 1027.5 غرارة من القمح، حيث كان سعر غرارة القمح في تلك السنة، 100 أقجة، أي حوالي 73980 مداً (الغرارة وحدة كيل أو حجم تساوي 72 مداً، والمد كوحدة كيل للحبوب وليس للوزن يقدّر بالقمح البقاعي البلدي تقريبا بـ 18 كلغ)، أي نحو 1331640 كلغ (1331.64 طنًا). وبذلك، يكون سعر مدّ القمح في العام 1528، حوالي 1.39 أقجة.

لذا، كانت القيمة المحصّلة من بَعْلَبَكّ آنذاك تؤمن التغذية بمادة القمح لنحو 7398 شخصاً في السنة، في حين كان مجموع عدد سكان بَعْلَبَكّ في تلك السنة، نحو 7505 أنفس (لمعرفة عدد السكان الإجمالي نضرب عدد الخانات بخمسة). وذلك لأن مقدار ما يستهلكه الشخص الواحد هو عشرة أمداد (180-200كلغ) من القمح كمادة أساسية للطحين والخبز والبرغل الناعم للتبولة اللبنانية والكبّة على أنواعها: باللحمة، كالكبّة اللبنية والمكبكبة والكبّة بالصينية، والفراكة، وكبّتي البطاطا واليقطين (القرع)؛ والبرغل الخشن للطبخ على أنواعه منفرداً أو مع مواد أخرى كالفاصوليا واللوبياء والحمص والفول والبازيلا وغيرها؛ بالإضافة إلى الفريكة والسميد (السميدة) وصناعة الكشك، والقمح المسلوق لنقولات السهرات الشتوية وللسنينية، والطحين للحلويات. فالقمح كان وما يزال مادة رئيسة وأساسية في غذائنا اليومي.

وإذا قارنا القيمة المالية لكمية القمح المشتراة بعائدات رسوم وضرائب أهالي بَعْلَبَكّ وأسواقها وبساتينها ومطاحنها ومعاملها، والبالغة، في العام 1528، 73980 مداً أو 1331.64 طنا، مع سعر طن القمح في وقتنا الحاضر والبالغ على الموسم في عمليات البيع بالجملة 300 دولار أميركي كمعدل وسطي، أو 30 مليون ليرة لبنانية على السعر الأعلى لصرف الدولار في السوق اللبنانية الموازية، فيتبين لنا بأننا نحتاج لشراء نفس الكمية إلى مبلغٍ مقداره 399492 دولارًا أميركيًا، أي ما يوازي   39949200000ل.ل. (تسعة وثلاثين مليار وتسعماية وتسعة وأربعين مليون ومائتي ألف ليرة لبنانية).

يمكن من خلال قراءة وثائق سجلات الطابو تحرير دفتري العثمانية للواء الشام خلال القرن السادس عشر، دراسة وتحليل التحصيلات العثمانية والوقوف على مدى تطوّر اقتصاد بَعْلَبَكّ ومرتكزاته، وتكاليف أهاليها من رسوم وعائدات ضريبية مالية نقدية وعينية وحصص أوقافهم الخاصة والعامة.

وهكذا بينما كان الفرد في العام 1528، يحتاج إلى حوالي 14 أقجة لشراء مؤونته من القمح في السنة (10 أمداد)، فهو اليوم يحتاج إلى 54 دولاراً أي ما يقارب 5400000 ل.ل.(خمسة ملايين وأربعماية ألف ليرة لبنانية). وبذلك تكون الأقجة كأصغر عملة عثمانية في العام 1528، بقيمتها الشرائية آنذاك توازي القدرة الشرائية لمبلغ 3.85 دولارات أميركية، أو لمبلغ 385000 ليرة لبنانية. فهل الشعوب تتأخر أم تتقدم؟ لتكون أصغر عملة عثمانية عندها قدرة شرائية فائقة في أيامنا الحاضرة، بعد انقضاء نحو 400 سنة تقريبًا؟

مع الإشارة إلى أن هناك ملاحظة هامة في علم الاقتصاد السياسي، ألا وهي، أنه لا يمكننا مقارنة عملة نقدية في بلدٍ ما بعملة بلد آخر إلاّ من خلال مقارنة القدرة الشرائية لكل من العملتين في كلا البلدين في آنٍ واحد في الحاجات الأساسية للغذاء، كالقمح والحليب والبيض، والدواء وفي الحدّ الأدنى للأجور وبنوع خاص لأجر ساعة العمل الفعليّة.

أمّا في سنة 1536، فبلغت تحصيلات مالية السلطنة العثمانية من مدينة بَعْلَبَكّ وحدها نحو 98260 اقجة أي ما يشتري نحو 756 غرارة قمح أو 54432 مداً (979776كلغ أو 979.776 طناً، في حين كان ثمن غرارة القمح في العام 1536 نحو 130 أقجة، وثمن المد الواحد 1.8 أقجة)، وهذه الكمية من القمح تكفي مؤونة 5443 شخصًا في السنة، في الوقت الذي كان فيه عدد سكان بَعْلَبَكّ أنذاك نحو 8195 نسمة. وهكذا كان الفرد الواحد من سكان بَعْلَبَكّ يحتاج في سنة 1536، إلى مقدار 18 إقجة لشراء مؤونة غذائه بالقمح لمدّة سنة، وبذلك تكون القيمة الشرائية للأقجة عام 1536، توازي القدرة الشرائية لمبلغ 3 دولارات أميركية، أو 300000 ليرة لبنانية، في وقتنا الحاضر، على حساب سوق الجملة وليس المفرّق.

وفي سنة 1552م، بلغت قيمة التحصيلات العثمانية من مقاطعات بَعْلَبَكّ نحو 185795 أقجة، حيث كانت هذه القيمة تشتري آنذاك نحو 1429.2 غرارة من القمح أو 102902 مدين اثنين (1852233كلغ أو 1852.2 طناً) (في سنة 1552 كان سعر غرارة الحنطة 130 أقجة، والمُدّ 1.8 أقجة). وهكذا كانت هذه المبالغ المجبيّة، آنذاك، تكفي لتقديم الغذاء بمادة القمح لنحو 10290 شخصاً، في الوقت الذي كان فيه عدد سكان بَعْلَبَكّ الإجمالي نحو 8555 نسمة. وبذلك كان الشخص الواحد من أهالي بَعْلَبَكّ يحتاج إلى مقدار 18 أقجة فقط لشراء كفايته الغذائية بالقمح لمدّة سنة، كما في العام 1536.

وأخيرا في العام 981 هـ/1573-1574م، بلغت قيمة ريع الرسوم والتحصيلات العثمانية من أهالي بَعْلَبَكّ نحو 245530 أقجة، أي ما يؤمّن شراء نحو 1753.8 غرارة من القمح، أي نحو 126273مدّاً، أو 2272914 كلغ، أي 2272.9 طناً. وذلك لأن ثمن غرارة القمح بلغ في تلك السنة نحو 140 أقجة، وثمن المُدّ 1.94 أقجة). أي ما يؤمن الغذاء السنوي بمادة القمح لحوالي12627 شخصاً (باعتبار الفرد يحتاج إلى 10 أمداد من القمح في السنة)، مع العلم أن عدد سكان بَعْلَبَكّ الاجمالي كان في العام 1574م حوالي 8660 نسمة. وهذه الكمية من القمح التي كانت تؤمن الغذاء السنوي لنحو 12627 نسمة، لو أردنا شراءها اليوم لدفعنا ثمنها 681870 دولارًا اميركيًا، أي ما يوازي 68187000000 ل.ل.( ثمانية وستين ملياراً ومئة وسبعة وثمانين مليون ليرة لبنانية). وهكذا كانت القدرة الشرائية لأقجة العام 1574م، توازي القدرة الشرائية لحوالي 2.78 دولار أمريكي، أو لنحو 278000 ليرة لبنانية.

ثانياً: في دراسة عائدات الرسوم على الإنتاج الزراعي والحرفي والمبادلات التجارة

إنّ تحليل المعطيات المالية في مدينة بَعْلَبَكّ في القرن السادس العشر الميلادي، يقودنا إلى إدراجها في أبواب اقتصادية عدّة هي:

محصول احتساب الأنفس التي تضمّنت العوارض خانة للمسلمين (الفردة)، والجزية على المسيحيين واليهود. فلقد كان احتساب عوارض خانة المسلمين في بعلبك تختلف من سنة لأخرى، بغض النظر عن عدد الخانات في كل سنة. ففي حين تم احتسابها عام 1528، بـ 2500 أقجة، بلغت سنة 1536، بـ 19400 أقجة، وسنة 1552، بـ 21760 ، وفي سنة 1574، بـ 21800 أقجة (تراوح عدد الخانات بين 1344 و1560خانة). أمّا جزية المسيحيين فكانت للسنوات الأربع على التوالي: 9680، و13200، و16400، و 18160 أقجة (عدد المكلّفين 127و227خانة)، وكانت جزية اليهود أيضًا على التوالي: 2400، 2800، و2320، و1760 أقجة (عدد المكلّفين 22-30 خانة). وهكذا في حين أجبيّت جزية المكلفين المسيحيين واليهود بمقدار 80 أقجة على كل منهم، لم تتعد عوارض الخانة للمكلفين المسلمين الـ 15 أقجة.

محصول الملح: بلغت عائدات رسوم استخراجه 800 أقجة سنوياً، وكانت تلك الرسوم تُقسم مناصفة بين وقف نور الدين شهيد، وتيمار بعلبك، أو خاص شاهي ومعنى ذلك للمأمور

محصول أهل الصناعة وأصحاب الحرف: لقد تضاعفت رسوم ضرائب الصناعة وأربابها، بين عامي 1528 و1574. فبعد تعثرها عام 1536، وانخفاضها من 21760 أقجة عام 1528، إلى 13540 أقجة، ثم إلى 20490 أقجة عام 1552، عادت وارتفعت بشكل كبير إلى 46800 أقجة عام 1573-1574، (أكثر من ضعفين)، وإلى 51060 أقجة أي بمقدار 3.7 أضعاف عن عام 1536.

ولقد شملت الحرف الصناعية أعمال الدباغين والطباخين (طابخي الألوان)، وأصحاب الدخان وإنتاج المغالق، والمعامل الحرفية كالميخانة (الخمّارة) والدبّاغة والبوياخانه (مركز تركيب الألوان ومزجها وصُنع الصباغ)، والمستخانه، أي معمل صناعة الجوارب الطويلة من الجلد الأصفر، لتُلبس فوق الجوارب المعتادة، ولصناعة الأحذية الجلدية الخفيفة والليّنة الطويلة الساق. كما يمكن للمستخانه أن تقوم بصناعة الصواري، أي أشرعة السفن، بالإضافة إلى المعاصر لصناعة الدبس والزيت، ودواليب الحرير اليدوية التقليدية التي أُقيمت بعد أن انتشرت زراعة أشجار التوت بكثافة مع دخول العثمانيين إلى بلاد بعلبك بعد عام 1516.

وفي حين كانت الطواحين (المطاحن) تكاد تستأثر بالرسوم الصناعية لعام 1528، حيث بلغت قيمتها مقدار 15960 أقجة من مجموع الرسوم الصناعية البالغة آنذاك 21760 أقجة (73.35%)، تراجعت عام 1536، إلى 2820 أقجة من أصل 13540 أقجة (20.8%)، ثمّ إلى 2640 أقجة عام 1552 (12.88%)، لتستقر عام 1574، على مقدار 2820 أقجة، أي بنسبة 5.5 % فقط من مجموع الرسوم الصناعية لهذا العام؛ حافظ انتاج الخمّاره (الميخانه) عل رسومه البالغة 3600 أقجة في السنوات 1528 و1536 و1552، لترتفع إلى 14000 أقجة (388.88%) عام 1574.

كما ارتفعت عائدات الدباغة من 1600 أقجة إلى 5000 أقجة، ثمّ إلى 6000 أقجة، وإلى 8000 أقجة عام 1574، (500%)؛ وعائدات البوياخانه من 600 أقجة عام 1528 إلى 10000 أقجة عام 1574 (166.66%)، ورسوم الدباغين وطبّاخي البويا وأصحاب الدخان من 480 أقجة عام 1536، إلى 800 أقجة عام 1574، (166.66%)؛ وارتفعت رسوم المستخانه من 200 أقجة عام 1536، إلى 14000 أقجة عام 1574، (7000%).

ويظهر أن نمو الصناعة وازدهارها في بعلبك، جاء على حساب خراب المطاحن التي كان عددها عام 1528، 13 مطحنة تعمل على 300 حجر (يتراوح رسم الحجر من 40 إلى 60 أقجة)؛ هي طواحين: الصاعد، والعبيد أو العروس، والخطيب والشيخ، والمغراق، والحمام، والجوزة، والحراس، والشريف، والشيخ والصفصافة، والدلبه، والزعلي، والزاب. فتراجع هذا العدد إلى ثلاث مطاحن هي: طاحون الحمام والمغراق والجوزة، ومجموعة طواحين صغيرة دون ذكر اسمائها، بلغ عدد أحجارها جميعاً 30-40 حجراً بعد ان كانت 300 حجرٍ عام 1528م.

شملت الحرف الصناعية أعمال الدباغين والطباخين (طابخي الألوان)، وأصحاب الدخان وإنتاج المغالق، والمعامل الحرفية كالميخانة (الخمّارة) والدبّاغة والبوياخانه (مركز تركيب الألوان ومزجها وصُنع الصباغ)، والمستخانه، بالإضافة إلى المعاصر لصناعة الدبس والزيت، ودواليب الحرير اليدوية التقليدية التي أُقيمت بعد أن انتشرت زراعة أشجار التوت بكثافة مع دخول العثمانيين إلى بلاد بعلبك بعد عام 1516.

محاصيل الأسواق التجارية على اختلافها: لقد كان في بعلبك 7 أسواق تتنوع تخصصاتها التجارية، وهي:
1- سوق (بازار) الدواب (أسب).
2- سوق الدبس.
3- سوق الغلّة (تشمل كل أنواع الحبوب والفاكهة والخضار المتنوّعة).
4- سوق القماش.
5- سوق القطن (بنبه).
6- سوق اللبن (ماست)
7- سوق الجلود.
وكان يشرف على هذه الأسواق وعلى تنظيم عمليات البيع والشراء ومراقبة المكاييل والأوزان وضبطها دار الوكالة (غرفة تجارة المدينة) التابع مباشرة لدائرة بعلبك الرسمية، والدلالين المختصّين بكل سوق. كما كان يتبع دائرة المدينة حرّاس (عسس، عسسان) مولجين بحفظ الأمن والتجوّل في الأسواق والطرقات للمحافظة على سلامة الزبائن والتجّار وحراسة المحلاّت التجارية والسهر على أمن السجون والمساجين، واعتقال كل من يقوم بعمل شائن وسيّىء.

ولقد بلغت عائدات الرسوم السنويّة على بضائع وغلال الأسواق التجارية في بعلبك كالآتي: عام 1528، 10300 أقجة؛ وعام 1536، 23120 أقجة؛ وفي سنة 1553، 44232 أقجة؛ وعام 1574، 78150 أقجة (758.74% عن عام 1528). ومن خلال قراءة هذه الأرقام يتبين أن بعض الرسوم تضاعفت كثيراً من سنة إلى أخرى، حيث ارتفعت رسوم بازار الغلّة من 1500 أقجة عام 1528، إلى 22200 أقجة (1480%) عام 1574؛ ومحصول دار الوكالة من 2400 أقجة إلى 10000 أقجة عام 1553، ثمّ إلى 20000 أقجة (833%) عام 1574؛ ومحصول رسوم الذبائح لدى القصّابين (اللحّامين)، من 3000 أقجة عام 1528، إلى 7000 أقجة (234%) عام 1574.

وهذا ما استتبعه ارتفاع رسوم سوق الغنم من 1000 أقجة عام 1528، إلى 5000 أقجة (500%) عام 1553، وإلى 4000 أقجة (400%) عام 1574؛ ودلالية سوق الجلود من 300 أقجة إلى 800 أقجة (267%). كما ارتفع محصول دلالية القماش من 5880 أقجة إلى 6150 أقجة (104.5%)، وعائدات رسوم القطن وقباّنه من 1600 أقجة عام 1528، إلى 8000 أقجة (500%) عام 1574؛ وعائدات رسوم قربا (ظروف تصنع من الجلد) الزيت من 200 إلى 750 أقجة (375%)؛ وسوق اللبن من 1000 إلى 3000 أقجة (300%)؛ والدبس من 500 إلى 4000 أقجة (800%).

إن هذا الارتفاع بعائدات رسوم أسواق بعلبك آنذاك، خير دليل على ازدهار ونمو اقتصاد المدينة ورفاهية شعبها وغناهم المادي زراعياً وحرفياً. حيث أدّى ازدهار المدينة الاقتصادي ونمو حركة التجارة المطرد فيها إلى ارتفاع محصول رئيس حراسها (سر عسسان) من 500 أقجة عام 1536، إلى 2000 أقجة (400 %) عام 1574، وكان هذا الرسم يُؤخذ عن كل محل تجاري مقفل في أثناء دوام العمل الرسمي أو مفتوح خارجه أقجة واحدة، ومن كل سجين فُكَّ أسره ثلاث أقجات.

وهكذا كانت الأسواق التجارية في بعلبك في القرن السادس عشر منظّمة ونظيفة وتستقبل الروّاد والتجار من قرى ومزارع ناحية بعلبك، أو من حمص والشام وحلب وحماه. ونتيحة لأهمية القبّان في الحياة التجارية البعلبكية خصّته دائرة بعلبك العثمانية قبان باب حمص وقبّان القلعة بحصص من عائدات رسوم بعض البساتين والمطاحن كوقف دائم عليهما، وكراتب سنوي للكيالة العاملين فيهما.

كان يشرف على هذه الأسواق وعلى تنظيم عمليات البيع والشراء ومراقبة المكاييل والأوزان وضبطها دار الوكالة (غرفة تجارة المدينة) التابع مباشرة لدائرة بعلبك الرسمية، والدلالين المختصّين بكل سوق. كما كان يتبع دائرة المدينة حرّاس (عسس، عسسان) مولجين بحفظ الأمن والتجوّل في الأسواق والطرقات للمحافظة على سلامة الزبائن والتجّار وحراسة المحلاّت التجارية والسهر على أمن السجون والمساجين، واعتقال كل من يقوم بعمل شائن وسيّىء.

محصول البساتين الخراجية المشجّرة بكروم العنب والتوت والزيتون والمشمش والخروب، وكل أنواع الغلّة الصيفية والشتوية من خضار وفاكهة.

مع استقرار الحكم العثماني في بر الشام، ازدهرت الزراعة ودخلت بساتين جديدة في طور الإنتاج، وفي حين كانت قيمة رسوم الخراج والعشر المجبية من بساتين بعلبك العام 1528، 14910 أقجة، انخفضت عام 1536، إلى 1440 أقجة، ثمّ ارتفعت عام 1552 إلى 66444 أقجة (445.6%)، وإلى 70000 أقجة (469.5%). ولعل أهم البساتين كانت حقول ملك ووقف دار دائرة بعلبك، وبستان الخشخاش (شقائق النعمان الذي يُستخرج منه مادة منوّمة ومخدّرة تشبه مركبات الأفيون، كانت تُستعمل في العلاجات الطبّية)، وبساتين مقنة ولبوة والقاعه (القاع)، بالإضافة إلى مجموعة من البساتين الصغيرة التي كانت كلها ملك خاص أو وقف ذري أو عام.

وفي مجال الحديث عن الإنتاج الزراعي في بعلبك، لا تحمل التسجيلات العثمانية المدروسة أي إشارة إلى زراعة الحنطة والشعير في حقول بعلبك، واقتصار الأراضي السليخ فيها على الرعي فقط.

تربية النحل والمواشي. كانت الرسوم التي تدفع عادةً على الماعز والأغنام شبه مستقرة طيلة السنوات التي تناولها الإحصاء، حيث بلغت عائداتها 1000 أقجة سنوياً، أي بمعدل أقجة واحدة على كل راسين غنم أو ماعز، وبذلك يكون عدد القطيع المختلط نحو 2000 رأس. أمّا إحصاء خلايا النحل فلم تظهر إلاّ منذ سنة 1552، وبقيت مستقرة في عددها حتى العام 1574، على 500 خلية (قفير)، حيث كان رسم الخلية أقجة واحدة.

البادهوا أو الضرائب والرسوم العامة التي لم تدخل في الحسابات الضريبية العثمانية المباشرة، إمّا لعدم جبايتها، أو لعدم إحصاء بعض الأنفس لغيابهم عن المدينة عندما جاء المحرر المالي إلى بعلبك. وشملت هذه العائدات: رسوم الجرائم والجنايات ومال الغائب ومال المفقودين والجواري، ومال الوقف وبقايا بيت المال من سنة إلى أخرى، ومال المواشي الضائعة. وهذا ما يؤكد على التكافل والتضامن الريفي آنذاك حيث كان المنتجون والمكلّفون العاملون مضطّرين لدفع ضرائب ورسوم الغائبين والمفقودين في محلّتهم أو قريتهم.

إن الارتفاع بعائدات رسوم أسواق بعلبك آنذاك، خير دليل على ازدهار ونمو اقتصاد المدينة ورفاهية شعبها وغناهم المادي زراعياً وحرفياً. حيث أدّى ازدهار المدينة الاقتصادي ونمو حركة التجارة المطرد فيها إلى ارتفاع محصول رئيس حراسها (سر عسسان) من 500 أقجة عام 1536، إلى 2000 أقجة (400 %) عام 1574، وكان هذا الرسم يُؤخذ عن كل محل تجاري مقفل في أثناء دوام العمل الرسمي أو مفتوح خارجه أقجة واحدة، ومن كل سجين فُكَّ أسره ثلاث أقجات.

وفي الإحصاء الأول الذي اعتمدناه لعام 1528م، يتبين من المبالغ المَجبيّة كرسوم بادهوا أنّ الإدارة العثمانية في المدينة لم تكن بعد قد نظّمت جباياتها المالية بشكل دقيق. فلذلك بلغت قيمة تلك الرسوم مقدار 40400 أقجة، وشملت رسوم سنوية معتادة على تربية الأغنام والماعز والنحل، بما في ذلك رسوم سوق الغنم، والمعاصر والمصابن ومال الغائبين والمفقودين وبقايا بيت المال المدوّرة من سنةٍ إلى سنة. أما إحصاء سنة 1363 (دفتر 401)، فبلغت قيمة البادهوا نحو 10000 أقجة، بعد تخصيص بند خاص لرسوم الماعز والأغنام والمعاصر. وفي سنة 1552، ارتفعت تلك الضريبة، إلى 10105 أقجة بعد أن أضيفت إليها ضريبة رسم العروس، حيث كان يُؤخذ 60 إقجة على البنت البكر، و40 أقجة على البنت الثيب، ثمّ إلى 12000 أقجة العام 1574.

رسم دار الحشيش: بما أنه كان في بعلبك بستانٌ لزراعة الخشخاش، واستخراج المواد المخدّرة والمنوّمة منها، راجت في المدينة حالة تعاطي هذه المواد في بعض المنازل، مما استوجب إقامة دار خاصة بالحشيش بلغت عائدات رسومها 200 أقجة عام 1552، و300 أقجة عام 1574.

رسم دار القمار (المقمرة): من الملفت لمتصفح سجلات طابو تحرير دفتري (دفنر 543) تخصيص بند للرسوم على لعب القمار فبلغ عام 1574، نحو 4000 أقجةً، وهو رسم مرتفع يوازي رسوم سوقَي الدبس والأغنام، ويفوق رسوم سوق اللبن بألف أقجة.

بعض الاستنتاجات العامة

يتبيّن من خلال استعراض الرسوم والضرائب في مدينة بعلبك خلال القرن السادس عشر أن النظام الاقتصادي الذي كان سائداً في المدينة، آنذاك، لم يكن نظاماً إقطاعيا، بل اقتصاداً يعتمد نظام السوق المتعارف عليه في وقتنا الحاضر، أي نظام العرض والطلب، وحريّة التبادل التجاري، إلى جانب الحرية المُطلقة في الملكية العقارية، وفي اختيار أشجار البساتين الخراجية المملوكة ملكيةً تامّة من قبل أصحابها، أو من قبل ورثتهم، بالرغم من أن بعض هذه البساتين والمطاحن تحوّل إلى أوقاف ذرية على جَرْي عادة معظم المالكين في القرنين السادس والسابع عشر خوفًا من تبديد الورثة تلك الملكيات التي استحوذت على جهد وكدح أصحابها الأوائل المُضني.

وهكذا كان اقتصاد السوق البعلبكي آنذاك، يشبه تقريباً أو كلياً اقتصاد المدن الريفيّة الرأسمالية في وقتنا الحاضر، ولا سيما في الدول التي تعتمد الريع الضريبي، فقط لملء وتغذية خزانتها المالية، وتغطية نفقات موازناتها السنويّة، وتسديد رواتب موظفيها.

ولقد كانت الإدارة العثمانية في بعلبك تخصص بعض البساتين والمطاحن، وجزءاً من عائدات رسومها كأوقاف لدار دائرة بعلبك ودار الوكالة وبيت المأمور ولمراكز القبان وللمدرسة الأشرقية والجامع الأموي وجامع رأس العين ومسجد الصاعد وزاوية الدعاة ولوقف الحرمين الشرفين كي يستمروا في نشاطهم وأعمالهم بدون الحاجة إلى تغذيتهم من قبل السلطة المركزية في الشام أو في الأستانة. كما خصصّت حصصاّ من بعض تلك الرسوم كوقف عام لفقراء ومساكين المدينة بدون حاجتهم لممارسة عادة الإستعطاء (الشحاذة) أو التسكّع على أبواب المساجد. ولكن من المرجّح أن تلك الأوقاف اندثرت أو تخرّبت بفعل الإهمال والمصادرة وتبدّل الإدارات على مر الأزمان، من العهد العثماني إلى اليوم..

وهكذا لم يعرف أهالي مدينة بَعْلَبَكّ نظام الحكم المقاطعجي، كما عرفه جبل لبنان المملوكي، على ذمّة بعض المؤرخين والكتبة. بل كان الحكم فيها يقوم على نظام الوظيفة العامة لوجود دار دائرة بَعْلَبَكّ وحراسها الليليين، ودار الوكالة، ودلالية أسواق القماش والجلود والغنم والدبس واللبن والزيت والقطن…ألخ.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. مقال مميز و ومرجعي اساسيدلمعرفةونوع من النشاط الاقتصادي البعلبكي في القرن العشر الهجري

    شكراً. د. عبدالله سعيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى