الترويدة الفلسطينيّة بحناجر نسائها.. حفظًا للذاكرة وتحفيزًا للتراث
في كتابته للقصص يحفظ الأوروغوايي إدواردو غاليانو ذاكرة أميركا اللاتينيّة، موثّقًا تاريخ شعبه وكفاحه ضدّ الاحتلال وجرائم الحكومات الأميركيّة. فتحكي إحدى قصصه أنّه: “في أحد السجون العسكريّة في الأورغواي، حظروا على المساجين الرسم أو تلقّي رسومًا لفراشاتٍ أو طيور. أحد السجناء، اسمه ديداثكو بيري، كان قد اعتقل، لأنّ “لديه أفكارا أيديولوجيّة خطيرة”، تلقّى، ذات يوم زيارة من ابنته ميلاي، البالغة خمس سنوات، التي أحضرت معها لوحة رسمتها له، لكن رسمها تعرّض للمنع، لاحتوائه على عصافير، وقامت رقابة السجن بتمزيق لوحتها.
في يوم آخر، أحضرت ميلاي رسما لا يحتوي إلّا على أشجار، وبما أنّ الأشجار لم تكن محظورة، سمح الحرس بدخول الرسم إلى السجن. وعندما رآه الأب سأل ابنته: أيّة فاكهة هذه الثمار الملوّنة الموجودة على الشجر؟ حاولت ابنته اسكاته، وبعد أن تلفتت حولها، قالت له: ألا ترى يا بابا أنّها عيون؟ إنّها عيون الطيور التي أحضرتها لك، مختبئة بين الأشجار”.
من الأوروغواي، إلى فلسطين تعدّدت أشكال النضال الذي مارسته الشعوب دفاعًا عن حقّها في الوجود. إلّا أنّ الرقابة وعنف السياسات الاستعماريّة المتعاقبة تاريخيًّا، مثّلت حاجة أمام الشعوب لاختراع أدوات مقاومتها، أدوات يمكنها الإفلات من قبضتهم، لشقّ مسارات مختلفة. فكان الصوت، بحباله الرقيقة ونغمه، أرشيفًا لعنف الواقع، لا يمكن اختراق تموّجاته.
الغناء والمقاومة
يقول الشاعر قاسم حدّاد: “لكلّ حنجرة طقوس/ بعضها من فرح، وبعضها من حزن/ وبعضها من شموخ وبعضها من انكسار/ مَنْ مات قبل الطّقوس له جنّةٌ/ ومن لم يمُتْ/ لا يموت..
لم تكن الحناجر وطقوسها إلّا أصوات الوجود، سلاحًا ضدّ البؤس والعدم. وبما أنّ الغناء طقس من طقوس الحنجرة، ما كان له إلّا أن يمثّل سردًا لتاريخ السكّان الأصليّين في جميع أنحاء العالم، وشكلًا من أشكال الاحتجاج، ضدّ الاحتلال والإبادة الجماعيّة لهم، حتّى إذا تمّ استبعادهم من كتب التاريخ، تظلّ نغمات أصواتهم تحكي قصصهم للعالم، وتؤكّد وجودهم الإنسانيّ وتاريخهم الثقافيّ.
لم تكن الحناجر وطقوسها إلّا أصوات الوجود، سلاحًا ضدّ البؤس والعدم. وبما أنّ الغناء طقس من طقوس الحنجرة، ما كان له إلّا أن يمثّل سردًا لتاريخ السكّان الأصليّين في جميع أنحاء العالم، وشكلًا من أشكال الاحتجاج، ضدّ الاحتلال والإبادة الجماعيّة لهم.
وإذا تلمّسنا ملامح القضيّة الفلسطينيّة، نكشف عن تاريخيّة العلاقة التفاعليّة الحيّة، ما بين المراحل والسياقات الأنثروبّولوجيّة والسياسيّة لهذه البلاد، والإنتاج الغنائيّ المرافق لها. حيث الفنّي ليس تعبيرًا عن ذائقة جماليّة فحسب، بل أرشيف يوثّق الصوت والواقع المعاش، علّه يصل إلى الآذان محرّكًا الحسّ الإنسانيّ الجامع لأحرار العالم تجاه المآسي، ومحفّزًا الذاكرة الجمعيّة على ضرورة الثورة، ومقاومة السياسات الاستيطانيّة.
وقد بدأت الأغنية الشعبيّة الفلسطينيّة بمختلف أنواعها، وظروفها (الميجانا، الدلعونا، الترويدة، السامر، الملالاة، المهاهاة، الدحريجة، وغيرها) مرتجلة بواسطة الشعب ملبّية حاجاتهم في لحظاتهم الراهنة، أيّ عند الحدث. معبّرة عن الروح الجماعيّة لمالكيها، صاغتها الأصوات والمعتقدات المشتركة. فهي أشبه بالسجلّ الجماعيّ الذي تدوّن فيه المواقف، والأحداث، باستخدام التراث الكلاميّ، واللحن، لخلق أغنية ممتدّة وخاصّة، وتراث يتناقل جيلاً بعد جيل، محمّلًّا برسائل الانعتاق والتحرّر، الذي عمد المحتلّ إلى طمسه، ومَحْوَه من الذاكرة.
حارسات الذاكرة
مجهولات، عبر حبالهنّ الصوتيّة رويدًا رويدًا، غنّين تاريخهنّ، حبّهن للأرض والكروم. حرسن أغنياتهنّ، من العنف الممارس على الذاكرة، ضدّ النسيان. وقد شكّلت أغنياتهنّ الشعبيّة أصدق تعبير، أمّهات وجدّات فلسطينيّات، حافظن عليها كتراث يؤكّد وجودهنّ الثقافيّ والتاريخيّ، أمام كلّ تحدّيات الإمحاء الممنهج.
ولم يمرّ أيّ حدث اجتماعيّ أو سياسيّ على النساء الفلسطينيّات، إلّا وروينه بأغانيهنّ الشعبيّة، من زواج إلى حصاد حقل وزراعة، بدءًا من فترة الحكم العثمانيّ، مرورًا بالاستعمار البريطانيّ حتّى الاستيطان الصهيونيّ. فلم تكن أغاني النساء الشعبيّة مجرّد مرآة للتاريخ والمجتمع، بل بلورة للأهداف السياسيّة، سواء في المجال العام أو في مجالهنّ الخاص.
غنّين “الشعليّات” موثّقات الـ”سفر برلك”، وحزنهن في وداع أزواجهنّ وأولادهنّ الملتحقين بالحرب: “هي يمّا ودّعيني قبل ما أمشي… ما تدري بعثراتي وأنا أمشي”. كما غنّين “الفراريّة”، حين حاول الكثير من الرجال التهرّب من التجنيد الإلزاميّ. في الأغنية الشعبيّة “عالأوف مشعل”، سردت النساء قصّة الشابّ الفلسطينيّ “مشعل” الّذي فرّ من قانون التجنيد وقصّة القبض عليه.
وتعدّدت صنوف الغناء النسائيّ، فكانت “الترويدة”، بمثابة “السامر” للرجال في الأعراس والذي يعرف في منطقة بلاد الشام. وهو لون غنائي عربيّ قديم، وينتشر بين العشائر البدويّة في فلسطين أكثر من انتشارها في المدينة والريف، وتقوم النساء عادة بغناء الترويدة احتفالّا بالنصر أو الزفـاف، وتتكوّن من مقطعين ينظّـما علـى بحـر الـرّجز ولا تلتزم القصيدة بقافية موحدّة.
تعدّدت صنوف الغناء النسائيّ، فكانت “الترويدة”، بمثابة “السامر” للرجال في الأعراس والذي يعرف في منطقة بلاد الشام. وهو لون غنائي عربيّ قديم، وينتشر بين العشائر البدويّة في فلسطين أكثر من انتشارها في المدينة والريف.
وأصل الترويدة من روّد أيّ ردّد لحنًا وكرّره مرّات عديدة متتالية، وإذا تفحّصنا أغاني وألحان النساء في فلسطين نجد أنّ لها خاصّيّة موحدّة وهي ترديد اللحن وتكراره بالرغم من تبدّل الكلمات أو الموضوع في داخل الأغنية نفسها، أيّ أنّ الأغنية تبدأ وتنتهي بالجملة الموسيقيّة الرتيبة المتكرّرة ذاتها، ومن دون آلاتٍ موسيقيّة أو إيقاع.
التشفير النسويّ، بين المقاومة والحبّ
ومن الترويدة ينبثّ نوع من الغناء يعرف باسم “الملالاة”، اصطلاح ليس له جذر، اشتقّ من زيادة حرف اللّام لبعض الكلمات فيه. وهو غناء شعبيّ نسويّ يقع بضربين اثنين، الجمعيّ: نوع من الشعر يؤدّى بطريقة جماعيّة بالتناوب بين فريقين، يقوم على الاصطفاف بصفّين متقابلين، يتحرّك فيه الصفّان برشاقة وخفّة، فيقتربان من بعضهما البعض ويبتعدان بخطوات قصيرة سريعة متتالية، والفرديّ: ضرب من الغناء تؤدّيه النسوة للتسلية والتسرية عن النفس في أوقات العمل أو الفراغ، وفي المناسبات، يقوم على مطمطة الصوت. أمّا ما يميّز الملالاة، كونه نوعًا من الغناء المشفّر، حوّلته النساء إلى وسيلة لإيصال الرسائل السرّيّة إلى ذويهنّ في سجون الاستعمار البريطانيّ، أو لإخفاء رسائل الحبّ.
وإضافة حرف اللّام الزائدة للمقاطع المغنّاة في الملالاة، هي لغة ابتدعتها النساء حينها لتصعيب الفهم، والمساهمة في تعقيد نقل المعنى، حتّى لا يستطيع المستعمر البريطانيّ، الذي يفهم بعضًا من اللغة العربيّة، فهمها. وخصوصًا عندما يتعلّق الأمر بتمرير رسائل خاصّة بين المعتقلين وأهلهم، كما استمرّ التواصل بتلك اللغة المشفرّة وفهمها حتّى بعد النكبة.
ومن أشهر الترويدات التي عرفت في ثورة 1936 ضدّ المشروع الإنجليزيّ الصهيونيّ، ترويدة “يا طالعين الجبل” التي استخدمتها النساء كواسطة للتواصل ما بين الأسرى والثوّار، حاملات إليهم نبأ تحريرهم، عند تلقّي الإشارة.
وكما كنّ يشفّرن أغانيهنّ في رسائل للمقاومة، كانت تُشفّر كذلك أغاني الحبّ والشوق، حتّى يتسنّى لهنّ التعبير عن مشاعرهنّ بشكلٍ مموّه خوفًا من افتضاح أمرهنّ سواء أمام الحرّاس أو مجتمعهنّ. وتشفير رسائل الحبّ هذه ليس حصرًا بالنساء الفلسطينيّات، فهي أداة استخدمتها النساء بطرق مختلفة للتنصّل من الرقابة على حياتهنّ، ما يبيّن طبقتين من نضالهنّ، ضدّ المستعمر لأرضهنّ، والأبويّة التي تسيطر على أجسادهنّ وعواطفهنّ.
ولعلّ أشهر ترويدة من تلك الفترة هي “ترويدة الشمالي”. كذلك من أغنيات الحبّ أغنية “يا حلولبنا” أو “ترويدة الخليل”، التي أعادت سناء موسى، الدكتورة والباحثة في علم الدماغ، والباحثة في التراث والغناء، عن القصّة وراء كلّ أغنية، تقديمها في برنامج سمّي “ترويدة”، وهي ترتدي الثوب التقليديّ الفلسطينيّ. ولا يزال أرشيف التراث الفلسطينيّ، يحوي الكثير من الأغنيات التي لم يُتح له الإفصاح عنها بعد.