التعليم في بعلبك الهرمل قاب قوسين أو أدنى من الانهيار .. هل من مُغيث؟

في خضم الانهيار المؤسساتي المُزمن، تهمل السّلطة اللبنانيّة اجتراح حلول حقيقيّة وجذريّة لتخفيف حدّة السقوط الحرّ الذي يشهده قطاع التعليم بشقيه العام والخاص وبمراحله كافة، وسط تخبط موظفي هذا القطاع فضلاً عن المستفيدين منه من الطلاب وأولياء الأمور، في دوامة مفرغة من الوعود غير المحققة والتّمنيات والمخاوف. وعلى سيرتها الدائمة، تحتدم هذه الأزمة وتتفاقم وبل يتخذ الانهيار وتيرةً أشدّ وعورةً وانحدارًا في محافظة بعلبك –الهرمل.

فالجيل البعلبكي الشاب، مُهدد جديًّا بفقدان آخر ما تبقى له من فرص النجاة وتحقيق الذات، المُتمثلة بالتعليم. ولا يُمكن إنكار أن هذا الواقع يتحمل جريرته مبدأ الإنماء غير المتوازن، الذي جعل منطقة بأكملها ترزح تحت وطأة الانهيار الدراماتيكي منذ عقود.

لعلّه من النافل، الحديث عن أهميّة التعليم، كمدماك أوليّ ومؤثر في إيجاد السُبل لأي نهضة مُحتملة، ولما كان هذا الحقّ اللصيق بالإنسان المُجرّد، مُنتهكًا وفاقدًا للمعنى والجدوى أسوةً بسائر الحقوق المسلوبة عنوةً في لبنان، يبدو أن شوطًا طويلاً يفصل المجتمع اللبنانيّ المنكوب عن التفكير الجديّ حتّى بمخرج لأزمته الحاليّة. نسبةً لما يشهده هذا الملف الحيويّ من أزمات متناسلة بحيث بات التعليم الكفوء والجديّ على وجه التحديد، حاجة كمالية وامتيازًا، اضطر للتخلي عنه قدرٌ لا يُستهان به من الطلاب، بعد أن كان نمط عيش واستثمار يودع فيه اللبنانيون أملهم بصعود السّلم الاجتماعي والترقيّ الإقتصادي والتمايز الثقافي.

طلاب في إحدى المدارس الرسمية في الهرمل (الصورة مأخوذة من موقع النهار)
التعليم الرسمي في لبنان

قبيل الأزمة، كان القطاع الرسمي في لبنان يشكل عصب الجذب لآلاف المواطنين من حمَلة الشهادات الرسميّة، بحيث كان يطمح العديد من الأفراد للإستفادة من فرص التفرغ الوظيفيّ التّي يقدمها هذا القطاع، الذي كان يعتبر ملاذًا آمنًا يوفر رواتب مجزيّة تتراوح ما بين 1000 و2800 دولار أميركي بعد سنوات من الخبرة، وكان يتمتع الموظفون بضمانات صحيّة واجتماعيّة إضافةً إلى تعويض نهاية الخدمة. ما جعل موظفو هذا القطاع من الطبقة الوسطى، وعلى قدر من الإنتعاش الاقتصادي، والطموح في التقدم بالمهنة.

مع تقلب الأحوال وتدهور قيمة العملة الوطنيّة وما صاحبها من إفلاس رسميّ، انقلبت هذه المعطيات رأسًا على عقب، حيث دفعت الأوضاع الصعبة الموظفين في القطاع الرسميّ إلى مواجهة تحديات جديدة. ذلك بعد تراجع رواتبهم حدّ فقدانها أي قيمة فعليّة، وتحوّلت الآمال في التفرغ الوظيفيّ إلى خيبة أمل، حيث وصلت معدلات الرواتب إلى حوالي 100 دولار شهريًا وما دون.

هذه التحولات المُباغتة جعلت موظفي القطاع الرسمي ينحدرون في الدرجات الإجتماعية، بحيث انخفضت مكانتهم من الطبقة الوسطى إلى طبقة المفقرين. الأمر الذي كان له الإسهام المباشر في التوقف القسريّ الذي طرأ على التعليم الرسميّ، ومع الإضرابات المستمرة منذ 2019 وتحديات التّعليم عن بُعد التّي واكبت تفشي جائحة كوفيد – 19. لم يتبق للطلاب سوى حلّين لا ثالث لهما، إما التّأقلم مع واقع التعليم الرسميّ المتدهور أو النزوح نحو التّعليم الخاص وما شكل صعوبة بالغة لجهة الأقساط المدولرة في أوج أزمة الدولار (جدير بالذكر أن نحو 55 ألف طالب خلال سنوات الانهيار الأخير نزحوا من التعليم الخاص إلى الرسميّ، بعد أن كان حوالي 70 بالمئة من الأسر اللبنانيّة تعتمد التعليم الخاص).[1]

التحولات المُباغتة جعلت موظفي القطاع الرسمي ينحدرون في الدرجات الإجتماعية، بحيث انخفضت مكانتهم من الطبقة الوسطى إلى طبقة المفقرين. الأمر الذي كان له الإسهام المباشر في التوقف القسريّ الذي طرأ على التعليم الرسميّ

بالإضافة لهذا الواقع المستفحل في كل المناطق اللبنانيّة، كان لبعلبك – الهرمل حصّة مُضافة للأزمة، فبعد أن كان التعليم الرسمي دائمًا الخيار الأول للعديد من الأسر في المنطقة والذين يعانون من ضيق الحالة المادية بغالبيتهم، واجهت تلك الأسر صعوبات في تحمّل تكاليف تسجيل أطفالها في المدارس الرسميّة لأسباب متعددة. وتتصدر لائحة الأسباب تكاليف الكتب والقرطاسية التي ترتفع باستمرار، بالإضافة إلى بُعد المدارس الرسمية عن مساكن هذه الأسر، مما يجعل الوصول إليها أمرًا صعبًا. فعلى سبيل المثال، في قضاء بعلبك، تكمن التحديات في أن “المجمع الثانوي” في دورس هو الثانوية الرسمية الوحيدة المتاحة، والتي تبعد مسافة تزيد عن 25 كيلومترًا عن معظم الطلاب الراغبين في التسجيل فيها.

في هذا السّياق يشير أحمد الطفيلي أحد الآباء لـ”مناطق نت” إلى اضطراره لنقل أولاده الأربعة من المدارس والثانويات الخاصة في بعلبك إلى تلك الرسميّة الموجودة في قريته بعدما “تدولرت” أقساط السّنة الماضيّة بغالبيتها، وتضاعف بدل النقل من المليونين ليرة على الطالب الواحد إلى الـ 50 دولارًا أمريكيًا، أي سيضطر إلى جانب الأقساط الخياليّة، إلى دفع 200 دولار شهريًا بدل أجرة النقل. وقد باغته واقع المدرسة الرسميّة في بلدته البعيدة نسبيًّا عن بعلبك، والتّي تشكو من ضعف في الهيئة التّعليميّة والمناهج، إلى جانب الإضرابات المستمرة. إضافةً إلى تمركز  الثانويّة الرسميّة الوحيدة والقريبة في مدينة بعلبك، فوجد نفسه في مأزق ماليّ كبير، دفع أطفاله لإيجاد مهن خارج دوامهم لاستكمال تعليمهم.

المسافات البعيدة بين المدرسة والمنزل وكلفة الانتقال الباهظة ترهق كاهل أهالي الطلاب وتشكل مشكلة أساسية
تدهور التعليم الرسميّ

وفيما بات خيار التعليم الخاص مستبعدًا في بعلبك – الهرمل، بيد أن معظم المدارس والثانويات تتمركز في المدن كبعلبك ومدينة الهرمل (كالبعثات الفرنسيّة والرهبانيّة والمؤسسات الإسلاميّة)، وتنحصر وجود غالبيتها في القرى الكبرى القريبة من المدينتين. استمر التعليم الرسميّ ليكون خيار الأسر الوحيد، وبرز بالإضافة إلى العوائق المادية التّي يعاني منها السّكان، التدهور التراكمي للمدارس والثانويات الرسميّة المنتشرة لمامًا بين القرى والبلدات بحيث اضطرت الصروح التعليميّة إلى الإحجام عن استقبال المزيد من الطلاب الوافدين والسّماح لهم بالتسجيل والدراسة.

ويعود ذلك إلى عوامل عدّة أبرزها التمويل المُجحف بحيث تواجه مؤسسات التعليم في المنطقة نقصًا في التمويل الحكومي، مما يؤثر سلبًا على جودة التعليم المقدم ويحدّ من إمكانية توفير الموارد الضرورية للطلاب والمعلمين. ما تجلى بالإضرابات المستمرة للمعلمين، المطالبين ببدل نقل وتأمين التدفئة في فصل الشتاء، وخاصةً في المناطق الجبليّة، كالقرى والبلدات الهرمليّة بمناخها شبه الصحراويّ.

إضافة إلى ذلك، تواجه العديد من المدارس في المنطقة صعوبات نتيجة ضعف البنية التحتية وقلّة المرافق الحديثة، ما يؤثر على بيئة التعليم ويحدّ من فرص تطوير برامج تعليمية متقدمة، أو إمكانيّة استقطاب المزيد من الطلاب، أو توسيع نطاق المدارس الجغرافي وتوزيعها بصورة عادلة بين القرى والبلدات. ولا شكّ أنّ النقص في الكوادر التعليمية المؤهلة والمدربة بشكل جيّد لعب دورًا في زيادة حدة الأزمة، مما أثّر على مستوى التعليم المقدم وحدّ من تحقيق الأهداف التعليمية المطلوبة، مثل التوظيفات العشوائيّة القائمة على المحسوبيات والصلات العشائريّة والحزبيّة.

لا شكّ أنّ النقص في الكوادر التعليمية المؤهلة والمدربة بشكل جيّد لعب دورًا في زيادة حدة الأزمة، مما أثّر على مستوى التعليم المقدم وحدّ من تحقيق الأهداف التعليمية المطلوبة، مثل التوظيفات العشوائيّة القائمة على المحسوبيات والصلات العشائريّة والحزبيّة

يواجه التعليم في بعض المناطق النائية والأطراف البقاعيّة تحديات اجتماعية وثقافية، مثل ارتفاع معدلات التسرب المدرسي وتأثير التحيزات الثقافية على التعليم. هذه التحديات تعوق تحقيق التقدم المطلوب في مجال التعليم في تلك المناطق. مثل جعل تعليم الفتيات حاجة كماليّة أو تعليم الذكور من دون جدوى في حين يُقدر له العمل بمصلحة أبيه.

هذا كلّه من دون التطرق لكون التعليم العالي لا يزال عصيًّا وبعيدًا عن السّكان، فالجامعة اللبنانيّة لديها فرع واحد في أكبر محافظة في لبنان، وتضمّ فقط كليّة العلوم حتّى سنوات ما قبل الإجازة، وإن كانت ظاهرة “التسرب الجامعي” إذا صحّ التعبير، هي ظاهرة قديمة العهد، برزت في الحقبة الممتدة بين سبعينيات وتسعينيات القرن الماضي في بعلبك – الهرمل على وجه الخصوص، بحيث اضطر فيها الشباب لترك مقاعد التعليم وامتشاق أسلحتهم، للمشاركة في الاقتتال الأهلي، وما سبقها من فترات كان فيها التعليم الجامعي المتمركز، حكرًا على سكان مدن السّاحل إجمالاً (وعاود هذا العامل الظهور مجددًا مع ارتفاع تكاليف المواصلات لطلاب الأرياف والأطراف اللبنانية). تتجدد هذه الظاهرة اليوم، وتجدد معها العوامل والأسباب والحلول الظرفيّة فضلاً عن الارتدادات.

في حديثٍ لـ “مناطق نت” مع إحدى الناظرات في ثانويّة بعلبك الرسميّة والتّي بدروها عطفت أسباب تدهور البنيّة التعليميّة في بعلبك – الهرمل لكون السّطات المعنيّة تُهمل الخصوصيّة التّي تتمتع بها المنطقة، فمثلاً لا يُمكن تمويل ميزانيّة للمحروقات بالقيمة نفسها لمدرسة في بعلبك وأخرى في بيروت. أو أن تكون في المدينة ثانويّة واحدة بينما يقصدها الآلاف من قرى مُتباعدة جغرافيًّا. مُشيرةً لحجم التحديات التّي تخوضها هي شخصيًا لاستمرارية عملها كمشرفة تربويّة، أهمها بُعد منزلها عن الثانويّة واضطرارها إلى دفع مبالغ طائلة مقابل أجرة النقل، ما أجبرها لاحقًا على الإستدانة. وتابعت: “وعليه شاركت بالإضرابات المتعددة، ليس كوني لا أحب التعليم، بل لأنني كما زملائي كافةً استُنزفنا ونشعر بالقلق على مصير هذا الجيل الذي لم يتعلم أبدًا”.

الاضرابات والتعطيل هما السمة العامة لقطاع التعليم الرسمي
التعليم كحقّ لصيق

إذا كان القانون الدولي لحقوق الإنسان قد اعترف منذ عقود بأهمية التعليم كحقّ أساسي للإنسان، ملزمًا الدول الأعضاء اتخاذ جميع الإجراءات اللازمة لضمان التعليم الشامل والمتكافئ والمجاني للجميع، بمعزل عن العوائق التّي تحول دون ذلك، قد يبدو من المثالي اليوم الحديث بهذا الطرح في منطقة تُركت منذ عقود على هامش الإنماء بينما كان لبنان بأكمله ينمو على الصعد كافة. وفيما تتجلى هذه الفوارق عادةً بين منطقتي البقاع الشمالي والجنوب اللبنانيّ بحيث تمكن غالبيّة السّكان من الوصول إلى حقّ التعليم في القرى والبلدات، على خلاف مناطق البقاع الشمالي.

وإن كان التفاوت الطبقيّ المستفحل منذ بداية الأزمة اللبنانيّة قد أفرز نوعًا مستجدًا من الاحتكار للفرص التعليميّة فإن منطقة بعلبك- الهرمل نموذجًا حيًّا لهذا الشرخ الاجتماعي والهوة العميقة للفقر. وهم بحاجة ماسة اليوم إلى خطط إنقاذية عاجلة، خاصة وأنهم يواجهون تحديات إجتماعية وثقافية جديدة ومتغيرة، وهذه التحديات لها تأثيرات حتمية على المستقبل القريب والبعيد.

[1] المصدر: مرصد الأزمة في الجامعة الأميركية، الذي أشار في دراسة سابقة عام 2021 إلى هذه الأرقام، فيما أرجع المرصد هذا الانتقال إلى واقع الأزمة الاقتصادية المستفحلة وتدهور الأوضاع الاجتماعية، حيث فقدت معظم الأسر مدخراتها ومداخيلها بعد أزمة المصارف

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى