الجنوب.. طفرة في المقاهي وندرة في الرواد!!
المقاهي مصحوبة دائمًا في ذاكرتي بفلسفة الممنوع المرغوب. عندما بدأت الكتابة نمت عندي الحاجة إلى المقهى، حيث لم أكن أفرّق بعد بين هويّة الكاتب الحقيقيّة وبين الطّقوس أو “الكتالوغ” الّذي وضعوه لحياة الكاتب كطقس شرب القهوة وارتياد المقاهي. ولكنّني ككل الفتيات اللّواتي عشنَ في الجنوب لم يكن مسموحًا الذّهاب إلى المقهى. الفكرة التي كانت موجودة قديمًا وازدادت نموًا مع نموّ المقاهي وتطورها عبر الزمن وتكاثرها وتغيّر هوية الناس الذين يرتادونها.
لم تكن المقاهي سابقًا بهذه الطفرة التي هي عليها الآن، كان عددها في كل منطقة لا يتجاوز الثلاثة وهذا ما يسرده لنا آباؤنا من المشاهد التي علقت في ذاكرتهم، وما تذكره معظم النصوص التي أرخت لذاكرة المقاهي في المناطق كافة. تجمع هذه الذاكرات “خبرية” واحدة وهي وجود مقهى معروف دائمًا في كل منطقة وهو الذي يرتاده الجميع كبارًا وصغارًا ومع الوقت كانوا يستدلّون على الأماكن الموجودة في هذه المنطقة من خلال هذا المقهى الذي لا بد أن يعرفه الجميع.
هناك خلفيّات واضحة وأحداث أدّت إلى هذه الطفرة الحديثة في وجود المقاهي في الجنوب. من خلال حديثنا لبعض أصحاب المقاهي في منطقة بنت جبيل الجنوبيّة، بدا الإرتباك واضحًا في حديثهم عن المقاهي وتاريخها أو حتى في خبراتهم التي حازوها ليصبحوا أصحاب مقهى. يستند هؤلاء على العمال الذين وجدوا خبرتهم من خلال أعمالهم السابقة في المقاهي، واللّافت بالأمر أنّ غالبيتهم افتتح “الكافيه” الخاص به منذ فترةٍ لا تقلّ عن أربعة أشهر، نتيجة الأزمة التي تمرّ على لبنان وتجبر أهله على الإستثمار في أية مهنة ما دامت “دارجة” أو سهلة.
يبدو الجنوب اليوم سوق مقاهٍ واسع جدًا، سوق شعبي بامتياز. في السابق كنا نتذمر من العمران العشوائي وطفرة الأبنية السكنية الغالبة على وجه المناطق. اليوم، تخيّم المقاهي على هذه الواجهة، تبدو متراصّة، واحدة تنطح الأخرى. هي ليست الظاهرة الوحيدة التي انتشرت بعد أحداث الثّورة في 2019، وربما قبلها بقليل. حيث ازداد عدد الدكاكين والأفران ومحلات الملابس في كل شارع. لكن الذي يميز المقهى عن مختلف المهن الاستثمارية الأخرى، أن المنافسة بين المقاهي ليست عددية، فلا ضير من إنشاء مقهى بين عشرة مقاهٍ أخرى. لأن اجتذاب الزبائن في المقاهي يرتبط بمفهوم الـ “.concept” أو الهويّة.
سقطت الجريدة وحل “نفس النرجيلة” مكانها
قديمًا لم تكن المقاهي تعير اهتمامها لهذا المفهوم، بحيث لم يكن بمقدورك التمييز بين المقهى والآخر. الشيء الوحيد الذي كان يميّزها هو طبيعة الزبائن. لم يكن الإهتمام بهوية المكان أمرًا ضروريًا، ما كان يشغل كلا الطرفين، صاحب المقهى والزبون، هو القهوة أو المشروب الذي يقدَّم والجلسة الأنيسة التي كانت تمتد أحيانًا من الصباح حتى المساء. كان يمرّ الوقت وهمًا بين الأحاديث المستمرة وانتقال الأخبار الإقليمية والدولية دون الحاجة إلى تلفاز، يكفي أن “يفتي” رجل واحد بفكرة ما حتى تصدح المناقشة في الأرجاء. وبين الجرائد و”دق الطرنيب” كان يحل المساء سريعًا. بينما اليوم لا يمكن أن نرتاد المقهى لأكثر من ساعتين، فتنتهي الجلسة مع احتراق “رأس الأرجيلة” أو الإنتهاء من الأحاديث المتقطعة التي حل مكانها الهاتف.
مع طفرة المقاهي في الجنوب بدأت “حمى النرجيلة”، مع التباين الواضح في سعرها بين المقهى والآخر. تُعد النرجيلة اليوم من مصادر الدخل الأساسية لميزانية المقهى، حتى صار مفهوم المقهى مرتبطًا بها بالدرجة الأولى. الأشخاص الذين يستخدمون النرجيلة ذريعة لارتياد المقهى لساعات هم ذاتهم الذين ارتادوا المقاهي ذاتها في الماضي بدون الإلتفات إلى هذا الطقس الذي صار طاغيًا على واجهة المكان. كذلك الشخص الذي كان يحمل جريدته متمتّعًا بفنجان القهوة، صار يحمل “نبريش” النرجيلة متمتّعًا بفنجان القهوة. سقطت الجرائد وحلّ “نفس النرجيلة” مكانها.
مع طفرة المقاهي في الجنوب بدأت “حمى النرجيلة”، مع التباين الواضح في سعرها بين المقهى والآخر. تُعد النرجيلة اليوم من مصادر الدخل الأساسية لميزانية المقهى، حتى صار مفهوم المقهى مرتبطًا بها بالدرجة الأولى.
هذه المشاهد الظاهرة في المقاهي اليوم تزداد حتمًا في موسم المونديال. يتّكئ أصحاب المقاهي على الأرباح التي تنتج عن هذه الفترة الزمنيّة، ومن الأمور اللافتة أنّ عددًا لابأس به من الناس افتتحوا مقاهٍ جديدة في الجنوب معوّلين على هذا الشهر الذي يستقطب عددًا هائلًا من محبّي الفوتبول، وأغلقوا بعد انتهاء المدّة ليجدوا أن المكان صار خاليًا تمامًا وأنّ لا شيء يجذب هذه الشريحة التي تضم الشباب غالبًا إلا الشاشة التي أغوتهم. ومع انتهاء الحدث الكبير، تنتهي الجلبة الكبيرة.
حمّى الشّباب الموسميّة في المقهى
اللافت في المقاهي الجنوبية القديمة رغم قلّتها، أنّ معظمها لم يكن يحمل اسمًا. لذلك تغيب الأسماء من ذاكرة أجدادنا الذين يحاولون سرد قصصهم في المقهى. يشير “أبو علي” الرجل الثمانيني إلى مقهى عرفه في فترة شبابه في منطقة “كفررمان” الجنوبية ويقول بالحرف: “هو مقهى بلا “يافطة” كنت أقرأ الجريدة هناك أنا وحاتم وعلي النصّار وعلي رمضان. كان الزبائن أكثر من عدد الطاولات لذلك كان يحضر البعض كراسيهم معهم أو “الحصيرة”. كانت “أهليّة بمحليّة” حتى لو كان الزبون جديدًا في المكان. لم نكن نرجع إلى البيت حتى موعد صلاة العشاء، كنا نصلّي الظهر والعصر في المقهى”. رغم التجمعات الكبيرة في الماضي كان الناس في المقهى يشكّلون كتلةً واحدة، اليوم ورغم كثافة المقاهي بدأت تصير التجمّعات فردية. كلهم غرباء، تخرج مجموعة وتدخل مجموعة أخرى وهكذا..
يقول صاحب “كافيه” في بنت جبيل أنه لا يملك أي ذاكرة حول المقاهي قديمًا، لأنّ المقاهي سابقًا كانت حصرًا لجيل والده. قلّة هم الشّباب الذين ارتادوا المقاهي في تلك الفترة الزمنيّة لأنها كانت لصاحب الكلمة وللأحاديث السياسية والثقافية وقد خرجت لنا روايات خالدة من رحمها. كان جيل الشباب لاهيًا بين العلم والعمل، واليوم في ظلّ غيابهما تشير الإحصائيات وشهادات أصحاب المقاهي الجديدة أنّ الفئة الأكثر تواجدًا في المقهى هي فئة الشّباب، رجالًا ونساءً.
هروبًا من الأوضاع الراهنة في البلاد، ومن البطالة السائدة في المجتمع لجأ الشباب إلى المقاهي أكثر. ومع تواجد “الإنترنت” المجاني في المقهى توفرت العوامل كافة لتتمكّن من جذب هؤلاء واهتماماتهم. وبدأ يزداد عدد المدخّنين سرًا، خصوصًا محبّي “النرجيلة” ومحبي التجربة والمغامرة. من المعروف أنّ فئة الشباب رجالًا ونساءً هي الفئة التي يمكن أن تستقطبها المقاهي بأبسط الأمور. وهذا العامل الأساسي الذي شكل هاجسًا لدى الأهالي الذين يحاولون حماية أبنائهم من هذه المغامرات والتجارب التي قد تؤدّي إلى فتح الشهيّة على المزيد من التجارب الأخرى. لعبت الأزمة الراهنة في القطاع التعليمي وقطاع العمل دورًا أساسيًا في عمليّة بعث الشباب إلى المقاهي أكثر، بالتالي ازداد عدد المقاهي بالتدريج في محاولة لاحتضان هذه الفئة بأكثر الطرق التي تغويهم وترجع على المقهى بالفائدة. ولكن لا شك أن هذه الفائدة متباينة وموسمية، فالأشياء التي تغوي الناس اليوم كموسم المونديال والنرجيلة قد تتبدّل غدًا مع انتهاء الموسم. هذا ما يؤدي إلى إفلاس مفاجئ في معظم إستثمارات المقاهي، ليقف أصحابها حائرين يحاولون معرفة “ماذا حصل؟”.
صارت المقاهي كثيرة، صار الناس أقل
أتذكر أول مرّة ذهبت فيها أنا وصديقة قديمة إلى مقهى في النبطية سرًا. كان المكان وحيدًا في الشّارع وكان خاليًا تمامًا، شربنا القهوة لأنّنا لم نكن نعرف بكل بساطة أنّ المقاهي يمكن أن تقدّم مشروبات أخرى. تلذّذنا بالقهوة رغم مرارتها الشديدة ورغم آثار الشفاه التي كانت مطبوعة على طرف الفنجان. لم نتذمّر، لم نخبر النّادل بذلك، شربناها وخرجنا من المكان ونحن نتحلّى بشعور الأنس العظيم.
هروبًا من الأوضاع الراهنة في البلاد، ومن البطالة السائدة في المجتمع لجأ الشباب إلى المقاهي أكثر. ومع تواجد “الإنترنت” المجاني في المقهى توفرت العوامل كافة لتتمكّن من جذب هؤلاء واهتماماتهم
عندما كبرنا أكثر صار ارتياد المقهى مسموحًا، التقينا الكثير من الأصدقاء في مقاهي الجنوب، أحببنا هناك، وانفصلنا وانكسرنا وغضبنا وضحكنا، وأغلق المكان بعد أن ظلّ خاليًا لفترة طويلة في فترة أحداث الثّورة عام 2019، ولم نعد نرتاد المقاهي. والآن بينما نكبر، لا نملك أيّة ذاكرة واضحة وأنيسة عن المقهى لكي نخبرها للجيل القادم. الشّباب الذين يرتادون المقاهي اليوم، هل بإمكانهم سرد شيء ما من هذه الذاكرة للذين بعدهم؟ ماذا سيخبرونهم بينما حلّ الإنترنت مكان الرغبة في الإستمتاع باللحظة والأشياء؟ هل حفظوا شيئًا من الأماكن؟ كانت المقاهي قليلة وكان النّاس كثيرين. صارت المقاهي كثيرة، وصار الناس أقلّ.
يومًا ما سنصير نحن الأقدم، أفلامنا ستكون بقيمة أفلام الأبيض والأسود، أغانينا ستساوي الأغاني التي أطربتنا من الزمن الجميل، مسارحنا سيحضرها المسرحيون فقط، شعرنا سيقرأه الشعراء والمبدعين، سيرتدون فساتيننا والجينزات مجددًا إذا لم يتخلّوا عن اللباس بالمطلق، والرسومات سيرسمها الجميع وتُباع بالمجان، بكل الأحوال سيحلّ مكانها الفن المعاصر مجدّدًا. هذه المعادلة هي الأكثر إهانة لنا، نحن الأقدم بالنسبة للقادمين، فماذا راكمنا للذين بعدنا؟ يومًا ما سنسمّى “الزمن القديم” لا “الزمن الجميل”!