الحركة العمّالية في النبطية.. قادَتَها احزاب وبدّدتها أحزاب

بعد قدومه إلى النبطية، أطلق حسين مزرعاني (1938- 2017) أوّل تجمع لعمّال الأفران في النبطيّة، ووحّدهم في نقابة، كان ذلك في العام 1968، ارتبطت نقابته لاحقاً بإتحاد نقابات عمال المخابز في بيروت. قبلها أو حتى بعدها، لم تنشأ أيّ نقابة مستقلّة في النبطيّة التي تعتبر عاصمة جبل عامل، بل كان العمال ينتسبون إلى نقابات قائمة في عاصمة الجنوب صيدا، إلى أن استحضر مزرعاني في العام 1972 فرعاً لإتحاد نقابات العمّال والمستخدمين في الجنوب (فرع النبطية) أُقفل في الثمانينيات مع سيطرة قوى السلطة اللبنانية، ومنها حركة أمل على النقابات العمّاليّة في الجنوب. وأقام الإتحاد أوّل مهرجان له في سينما ريفولي في النبطية سنة 1973، وكان مزرعاني أحد خطبائه.

كانت الأحزاب الوطنية، وفي طليعتها الحزب الشيوعي اللبناني وحزب البعث (العراقي) تشكّل بتحركاتها وسياساتها صوت العمّال في مختلف مناطق الجنوب، وتحديداً في منطقة النبطية، وكانت تمدّها بالرعاية والدعم و”الأفكار”، وهذا ما برز جليّاً في انتفاضة مزارعي التبغ التي تمّ التحضير إليها حزبياً في العام 1968، حينما دعا الشيوعيّون المزارعين إلى التجمّع في حسينيّة مدينة النبطيّة، فاستقدمت السلطة حينها أكثر من مائتي عسكري طوّقت بهم النادي الحسيني من مختلف جهاته، ما جعل الاجتماع ينسحب إلى جامع حي السراي في المدينة حيث انعقد أول مؤتمر لمزارعي التبغ في الجنوب.

النقابي حسين مزرعاني يتحدث في أول مهرجان عمالي

استمر بعدها التحضير للتحرك الكبير الذي انطلق أواخر العام 1972 بمشاركة العديد ممّا كانت تسمّى “الأحزاب الوطنية” والقوى السياسية المحسوبة عليها أو الدائرة في فلكها، وتجلّى في الرابع والعشرين من كانون الثاني 1973 بأضخم تظاهرة “عمّاليّة” شهدها جنوب لبنان في تاريخه، شارك فيها عشرات الآلاف من المزارعين وعمّال المهن الحرّة، انطلقت من وسط مدينة النبطية إلى مبنى الريجي عند دوّار كفررمان، ما أدّى في حينه إلى صدامات وسقوط العاملين نعيم درويش من حبوش وحسن حايك من كفرتبنيت، فضلاً عن عشرات الجرحى.

كان العمال في منطقة النبطيّة والعديد من المناطق الجنوبيّة، يجدون في القوى الحزبيّة ملاذهم وحمايتهم، فينتسبون إليها بدلاً من الانتساب إلى نقابات توحّد صفوفهم، فكانت تدعوهم إلى الانتساب إلى نقابات مركزيّة إمّا في صيدا أو في بيروت، لذلك كانت نقابة عمّال الأفران في النبطية بقيادة “أبو علي” حسين مزرعاني يتيمة لم تقم قبلها نقابة أو تنشأ بعدها نقابة، أمّا ما استمر من نقابات في الجنوب، فقد أضعفتها الحرب الأهلية اللبنانية من جهة، والعدوان الإسرائيلي المتكرّر على الجنوب منذ مطلع السبعينيات، ما جعلها لاحقاً لقمة سائغة في فم قوى السلطة المدعومة بالنفوذ السوري ففرّخت نقابات بديلة أو قسّمت نقابات أخرى ثم وضعت اليد عليها وطوّعتها، ثم لاحقاً على الاتحاد العمالي العام وقيادته، حتى بات العمّال لا حول ولا قوة لهم، ولا صوت، إلاّ من ينتسب إلى حزب “سلطوي”، يقرّر قيادته العمّاليّة وتحرّك النقابات، هذا إن تحرّكت.

كانت نقابة عمّال الأفران في النبطية بقيادة “أبو علي” حسين مزرعاني يتيمة لم تقم قبلها نقابة أو تنشأ بعدها نقابة، أمّا ما استمر من نقابات في الجنوب، فقد أضعفتها الحرب الأهلية اللبنانية من جهة، والعدوان الإسرائيلي المتكرّر على الجنوب منذ مطلع السبعينيات

اليوم، تغيب النقابات العمّالية ليس عن مدينة النبطيّة فحسب، بل عن صيدا وصور وبنت جبيل وعن مختلف المناطق اللبنانيّة، وما نشأ بعدها من نقابات لا حصر لها، فقد فرّخت تحت عباءات حزبية “سلطويّة” لتجلب إليها المحازبين أو الدائرين في فلكها، ولا تخضع إلاّ إلى سلطتها الحزبيّة، وتعيّن قياداتها وفق اختيارات حزبيّة صرفة، ولا تقوم هذه النقابات بأيّ نشاط، حتى في عيد العمال، في الأول من أيار من كلّ عام.

الأول من أيار.. احتفالات رمزية

يواظب الشيوعيون في كفررمان (النبطية) بالتعاون مع فوج كشاف التربية الوطنيّة في البلدة و”نادي التحرر كفررمان” ولجنة حقوق المرأة اللبنانيّة، على تنظيم مسيرة رمزيّة في الأوّل من أيار من كلّ سنة، تحيّة للعمّال في عيدهم، تنطلق في شوارع البلدة وتضمّ مجسّمات وأزياء تجسد المهن العمّاليّة والعمّال. هذه المسيرة التي انقطعت لسنوات طويلة بسبب ما كانت تتعرّض له البلدة من قصف واعتداءات إسرائيليّة متكرّرة، بيد أنها عادت لتنتظم منذ العام 2000، بعد تحرّر الجنوب، وهي تشكّل ارتداداً لمسيرات مماثلة كان ينظّمها الشيوعيّون بالتعاون مع النقابات العمّاليّة، في كفرّرمان منذ مطلع السبعينيات من القرن المنصرم.

بقيت انتفاضة الريجي في النبطية الانتفاضة العمّاليّة الأقوى واليتيمة كذلك، وما يحصل حالياً من تحرّكات للأساتذة في القطاع الرسمي مثلاً، فهو يخضع لسياسة نقابيّة باتت منقسمة بين ولاءاتها أو مرجعيّاتها. أمّا التحركات العمّاليّة الأخرى، فهي تأتي في إطار ضيّق كانتفاضة على طرد جماعي أو تأخير في دفع الرواتب، سرعان ما تتبدّد أو تضعف فتتلاشى.

لم يكن عمال التبغ يطالبون الدّولة بالمستحيل في السبعينيات، لو أنّ الدولة ومعها شركة “الريجي” أرادتا إنهاء تظاهراتهم المستمرة سلميّاً. هي أصلاً لم تفاوضهم حول المطالب وتتعامل معها وفق الأولويات، مع العلم أنّ المزارعين كانوا يكدّون 14 شهراً متواصلاً، فيدخل الموسم في الموسم، وكانت الريجي بدلاً من أن تعطيهم حق تعبهم، كانت تتّبع معهم سياسة “التشليح” فيبقى المزارع جائعًا مديونًا.

من اعتصام مزارعي التبغ في الريجي العام 1973

كثيرة هي العناوين التي دفعت بمزارعي التبغ وعائلاتهم، ومعهم القوى الحزبية اليساريّة التي تبنت قضيتهم، وحال الإجحاف والذل التي كانت تواجه بها السلطة هذه الشريحة الواسعة الساعية إلى عيش كريم، إلى الاحتجاج والانتفاض الذي بلغ أوجه مطلع العام 1973، بوجه سياسة احتكار الريجي في درجة أولى، لتعب المزارعين ولقمة عيشهم التي لم تكن أصلاً إلا “مُرّة” بطعم نيكوتين التبغ العالق بسواده على أيديهم والملتحم بثيابهم، وسيطرة كبار المزارعين من العائلات “التقليديّة والإقطاعيّة”، وأزلامها حتى من المزارعين في بعض الأحيان، على مفاتيح الزراعة “الرُّخص”، فضلاً عن استحداث “الغرفة العازلة”، وهيمنة المراقبين والمخمّنين، وغير ذلك مما جعل المزارع في حال عوز مستمرة، استنفذت طاقته وعمره، وتعب أسرته من كبيرها حتى صغيرها، ورهنت حياته للمرابين ليقع تحت دين مستديم، وللسياسيين المقرّبين من السلطة، فتحكّموا برقبته وصوته الانتخابي، والاحتجاجي.

نقطة تحوّل

وإذا كانت انتفاضة الريجي منذ نصف قرن، قد شكّلت نقطة تحوّل في أسلوب تعامل السلطة مع المزارعين، وفي طليعتهم مزارعو التبغ، الذين عادت إليهم حرية اختيار نقابتهم، ورفض ما يلحقهم من إجحاف متعمّد، غير أنهم لم يهنأوا طويلاً في ما تحقّق من امتيازات، إذ جاءت الحرب اللبنانيّة من جهة، وتنامي العدوان الإسرائيلي، ثم احتلالاته المباشرة لمعظم القرى الجنوبيّة والحدوديّة من جهة ثانية، لتضرب هذه الزراعة في الصميم، وتقضي شيئاً فشيئاً على مساحات التبغ، ليتحوّل بعدها المزراعون الجنوبيّون نحو زراعات بديلة أو رديفة، كانت لهم حرية امتلاك مواسم زرعها أو بيعها أو اختيارها، ومن دون تراخيص مسبقة.

المشهد الحاضر أبدًا في أذهان المزارعين الجنوبيين وفي ذاكرتهم، مع ما حمله من صور مؤلمة، تمثّل إحداها لحظة سقوط المزارع حسن حايك، متخبّطًا بدمائه ووجعه، وهامته العملاقة، وهذا يلخص ما جرى منذ خمسين عامًا، بين مزارعي التبغ الذين كوتهم سياسة احتكار الريجي، وجنود السلطة الذين أوكلت إليهم بقرار رسمي، قمع هذا التحرك المناوئ لسياستها “العوجاء”.

لحظة إصابة المزارع حسن حايك من بلدة كفرتبنيت واستشهاده في العام 1973

لقد سبقت السلطات هذه المواجهة الدامية مع المزارعين، باحتجاز العشرات منهم، حينما اعتصموا قبل أيام في خطوة لتحقيق المطالب. وبعد اعتقاله مع رفاق له بينما كان يحاول إيصال الطعام لزملائه المعتصمين وتمكّنه من الإفلات، وبعد تهديدهم وإهانتهم والعبث بمشاعرهم على أثر نقاش مع بعض العناصر الأمنية، قرّر نعيم درويش أن يكون في مقدمة التظاهرة في اليوم التالي، ولم يثنه خوف أو تهديد عن فتح بوابة الريجي أمام المتظاهرين والمعتصمين في داخلها.

حايك ودرويش.. شهداء

في يوم التظاهرة وجه درويش نداءً عبر مئذنة مسجد حبوش حثّ فيه المزارعين على النضال والتصدي لعبثية الرموز السياسية. وقبل إطلاقهم الرصاص عليه، تأكدوا من إسمه وشخصه فخرّ شهيداً برصاصتين، واحدة في وسط جبهته، والثانية في صدره من ناحية القلب، ومعه سقط الشهيد حسن حايك، ثم بدأت محاولة رموز السلطة لتعليب قضيتهم في سياق الأيديولوجيات ونشاطها، ليتهموا في جرم يتلاءم مع ما تقتضيه جاهلية السلطة في حينه.

أكثر من ستة جرحى في صفوف مزارعي بلدة كفررمان أصيبوا بالرصاص المباشر أو من خلال الضرب بالهراوات وأكعاب البنادق، هم: نعيم محمد قانصو وشقيقته خضرا وزوجته صباح، وحسن أبو زيد وحسن حسين أبو زيد وجواد ظاهر وغيرهم، كانت إصابة نعيم بليغة استوجبت بقاءه في المستشفى شهراً ونصف الشهر.

دفع المزارعون من دمهم، وباعوا أراضيهم وحقولهم ليشتروا بثمنها “رخصة” تبغ كان ثمنها أبلغ من ثمن دونم الأرض، تلفت الرخص الورقيّة، ولم يحقق العمال أدنى حقوقهم التي ضاعت بين “حانا ومانا” مثلما ضاعت النقابات و”تلفت”.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى