الرسّام نبيل قدوح امبراطوريّة الكاريكاتور بلا أرشيف
بين الخندق الغميق والبسطا، كانت طفولة نبيل قدوح، رسّام لم يعرف والده، إذ رحل قبل ان يبلغ طفله عامين، وتنتقل جميع أعباء العائلة ومسؤوليتها إلى كاهل الأمّ التي عاركت وصارعت لتحمي عائلتها في أزمنة متعرّجة الخطوط البيانيّة، تربويًّا واقتصاديًّا وأمنيًّا.
“كنتُ تلميذًا كسولًا”، يقول قدوح، الذي التقيناه في مقهى “برزخ” في شارع الحمرا، حيث الكنبات القديمة والطاولات المنهكة، التي تكاد بتوزيعها وديكورها تحاكي الزمن الذي سنغوص فيه، مع ابن بلدة تبنين الجنوبيّة، التي لم يزرها إلّا عندما بلغ سنّ المراهقة، إذ إنّ شظف العيش لم يكن يسمح له بترف زيارة الضيعة التي لا يملكون فيها بيتًا، ولا مرقد عنزة.
الخيال السينمائي
في العام 1942 أبصر نبيل قدوح النور، ليعيش الحياة البيروتيّة بنكهتها البكر، حينما كانت تتبلور هويتها كعاصمة للبلد الهجين.
كانت اليوميّات الواقعيّة في البيت والشارع والمدرسة، عندما كان ينزل صوب ساحة الشهداء، والأسواق المتفرّعة منها، ليشاهد العالم المتخيّل في صالات السينما، وقد أكثر من زيارتها لمشاهدة الافلام الأسطوريّة، وتلك المبنيّة على الحركة، بيد أنّه كان ينحاز إلى الأفلام التاريخيّة، على نحو “هرقل”، إذ كان التاريخ شغفه، وقد لازمه في ما بعد أكثر من أيّ شيء آخر في المجالات التي خاضها، فنبيل قدوح يمتلك شخصيّة انطباعيّة حدسيّة، يستشفّ ويستشرف حتّى لو لم يكن مثقّفًا بالمعنى الرسميّ للعبارة، ومعارفه وليدة الاحتكاكات المباشرة والتواصل اليوميّ مع الناس والصحف ونشرات الأخبار.
بورتريه وصحن فول
“كنتُ في السابعة عشر من عمري، عندما كنت في المنزل أرسم بورتريه لسياسيّ لبنانيّ، لم أعد أذكره، فدخل صديق لي وانبهر بالرسم، طالبًا إليّ أن أرافقه إلى جريدة “النضال” التي يعمل بها كعامل بسيط، بغية عرض الرسم على رئيس تحريرها، لربما يشتريها منك، فنذهب إلى المطعم ونتناول فولًا بثمنها”. يقول قدوح لـ”مناطق نت”.
ثمّ يتابع سرديّته، ليخبرنا أنّ “النضال” لم تأخذ الرسم منّي، بسبب وجود الفنّان ملحم عماد ضمن فريقها”. لكنّ رئيس التحرير فريد الطيّارة (شغل منصب نقيب المحرّرين لدورتين)، وضع قدوح على أوّل سكّة الاحتراف، حيث أراد خدمة هذا الشاب المتحمّس، فاتّصل بصديقه جودت الهاشم في جريدة “الهدف”، وكان اللقاء “في مكاتب الجريدة القريبة من منزلنا في الخندق الغميق، فاشتروا الرسم منّي بربع ليرة لبنانية، لتكون فرحة خاصة بأول مبلغ أتقاضاه على رسم، بينما كانت الفرحة التالية بمشاهدة رسمي مطبوعًا على صفحات الجريدة في اليوم التالي، وكانت “الهدف” تصدر بعد الظهر”، وكانت أطول مدّة بالنسبة لنبيل الذي جال على المكتبات بانتظار الصدور.
نبيل قدوح: كنتُ في السابعة عشر من عمري، عندما كنت في المنزل أرسم بورتريه لسياسيّ لبنانيّ، لم أعد أذكره، فدخل صديق لي وانبهر بالرسم، طالبًا إليّ أن أرافقه إلى جريدة “النضال” التي يعمل بها كعامل بسيط
عجميان وبابه الموصد
في “الهدف” تقاضى قدوح 60 ليرة شهريًّا، وراح يكتشف أخطاءه في الرسم ويصحّحها، بمساعدة من عصام أبو درويش وهو من فريق الصحيفة، ولتطوير أسلوبه بشكل أسرع قصد مبنى جريدة “الجريدة” بغية التعرّف على رسّامها ديران عجميان، على أمل أن يسمح له بالتتلمذ على يديه، وكان عجميان من أوائل الكاريكاتوريّين في الصحف اللبنانيّة.
لم يكن ردّ عجميان إيجابيًّا، فاقترح نبيل بأن يساعده في مكتبه تنسيقًا وترتيبًا أو حتّى تنظيفًا، فاضطرّ الفنّان الأرمنيّ القادم من حلب، للرضوخ إلى إلحاح قدوح الذي راح يفعل أيّ شيء ليرضي عجميان، لكنّ الأخير كان يغلق باب مكتبه حينما يشرع بالرسم مانعًا قدوح من مشاهدته! في هذا الوقت كان قدوح قد أصبح الرسّام المعتمد في جريدة “نداء الوطن”، وبدأ اسمه بالانتشار ضمن الأوساط الصحفيّة.
مجد من باب واسع
بعد مدّة، تلقّى قدوح اتّصالًا من جريدة “الجريدة”، آملين منه المجيء للتفاوض على إمكانية عمله معهم. قصد ابن تبنين محلّة باب ادريس، حيث مكاتب الصحيفة، فاستفسر عن جدّية العرض طالما أنّهم يعتمدون رسّامًا شهيرًا مثل ديران عجميان، فكانت الإجابة بأنّ ديران يرسم بطريقة معيّنة ويريدون رسّامًا ثانيًا له طريقة مختلفة، مثل رسوم قدوح. في تلك الأثناء فكّر برفض العرض لكنّه تدارك مستذكرًا موقفه مع عجميان، فوجدها فرصة ليدخل إلى “الجريدة” من بابها الواسع، كزميل لعجميان وليس تلميذًا لأستاذ رفض أن يكون أستاذًا.
هكذا صارت رسومات قدوح في جريدتين يوميّتين، ولم يكن الأمر محلّ استهجان آنذاك، بل تلقّى بعد مدّة عرضًا للرسم في جريدة “اليوم”، فوافق، ليحقّق رقمًا قياسيًّا لرسّام واحد متواجد في ثلاث صحف يوميّة، يتقاضى من كلّ واحدة 300 ليرة شهريًّا.
بركات المرحوم العويني
في أروقة جريدة “الجريدة” أقام قدوح معرضه الأوّل، وكان عبارة عن وجوه كاريكاتوريّة لمعظم الشخصيّات السياسية، من كميل شمعون إلى تقي الدين الصلح والحاج حسين العويني وكمال جنبلاط والمير مجيد أرسلان وأحمد الأسعد. “أحبّ الصلح أن يقتني رسمه، وهذا ما كان، غير إنّه لم يدفع ثمن الرسم على عكس العويني الذي دفع مئة ليرة لقاء احتفاظه بالرسم الذي يمثّله” يقول.
بعد وفاة الحاج حسين العويني، اتّصل صهره (زوج ابنته)، وكان سعوديًّا، بنبيل قدوح، طالبًا رسمًا كاريكاتوريًّا لحميّه، معلّلًا الأمر بأنّ زوجته تبكي كلّما شاهدت صورة والدها في الصالون، فربّما يتحسّن حالها حينما تراه برسم طريف، فيه حياة، وهذا ما حصل، وتلقّى عن ذلك الرسم مبلغ وقدره 500 ليرة.
في “السفير”
مع إرهاصات تأسيس جريدة “السفير” في بيروت سنة 1974، كانت رسومات قدوح حاضرة على صفحاتها، آخذة الأسلوب اللبنانيّ في ترصّد الأحداث اليوميّة، والتعليق عليها. ثمّ جرى التعاون من قبل الصحيفة مع ناجي العلي (1937- 29 آب/ أغسطس 1987)، ليكون مهتمًّا بالشأن العربيّ والعالميّ، فصار الرسّامان في غرفة واحدة.
“في معظم الأوقات، كان ناجي يفضّل الجلوس على الأرض متخلّيًا عن كرسيّه خلف الطاولة المخصّصة للرسم. كان قليل الكلام، وحادًّا في أفكاره، لكنّه كان طيّبًا في الوقت ذاته”، يحكي قدوح عن زميل غرفته، الذي ستقوده الأقدار نحو لندن فيتمّ اغتياله برصاصات من سلاح كاتم للصوت.
رسّام الحركة الوطنيّة
انتقلت العائلة للسكن في الشيّاح، تحديدًا في بناية “الدرزي” التي صارت محورًا بعد سنوات. لذلك كانت نصيحة وإلحاح من خالته التي تعيش في الكويت، بضرورة ترك نبيل لبنان والانتقال إلى الكويت، بسبب تفاقم الحرب الأهليّة، فشاءت الصدف هناك، بأن يكون ضمن مشروع تأسيس يوميّة “الأنباء” الكويتيّة، ووقّع عقد عمل مدته سنتان، بمبلغ 800 دينار شهريًّا، إلى أن قرّر الرجوع، ليصبح الرسّام “الرسميّ” للحركة الوطنيّة التي كانت بزعامة كمال جنبلاط.
في حينه كان يرسم في جميع مطبوعات الحركة الوطنيّة، اليوميّ منها والأسبوعيّ: “الوطن”، “الأنباء”، “صباح الخير”، و”المرابط”. يقول: “حاولَت جميع الأحزاب استمالتي حتى تكون رسوماتي قريبة من وجهات نظرها، بينما كنت أرسم ما اراه مناسبًا”. ويؤكّد أنّه لم ينتمِ إلى أيّ من تلك الأحزاب، أو غيرها.
نبيل قدوح: حاولَت جميع الأحزاب استمالتي حتى تكون رسوماتي قريبة من وجهات نظرها، بينما كنت أرسم ما اراه مناسبًا
جرّب نبيل قدوح الهجرة للمرّة الثانية، “فقصدت لندن برفقة عائلتي، ووجدت عملًا في مجلّة “العالم” الصادرة هناك، لكنّني ما لبتث أن بدّلت رأيي وعدت إلى لبنان، محافظًا على التعاون مع المجلّة بالمراسلة”.
الملصق و”أمل”
بدأت علاقة قدوح بحركة أمل، “من خلال رزنامة كانوا يحضّرون لإنجازها، فطلبوا منّي رسمًا لكلّ شهر، وكانت جميعها حول الجنوب، برموزه المرتبطة بالأرض، مثل شتلة التبغ وسنبلة القمح وسكّة الفلاحة، في مواجهة الطائرات الاسرائيلية” بحسب قدوح.
هكذا أصبح رسّام “أمل”، وراح يقدّم ملصقات المناسبات والشهداء بشكل تعبيريّ محبّب، فكان بذاته كوزارة إعلام للحركة. “من هنا نظّمت لي الحركة جولة عالميّة لأعرض ملصقاتي، بغية التعريف بمظلوميّة الجنوبيّين في مقابل جنازير دبّابات الإحتلال، فكانت محطة في أميركا، ثمّ إيطاليا وأسبانيا وغيرها من البلدان”.
أضحت تلك البوسترات علامات فارقة، حتى إنّ الصحافيين الأجانب كانوا يدرسونها ويكتبون عنها، بينما كانت أعماله تلك حاضرة في كتاب “ملامح النزاع، الملصق السياسي في الحرب الأهليّة اللبنانيّة” الذي كتبته زينة معاصري وقدّم له فواز طرابلسي، الصادر عن “الفرات” للنشر والتوزيع سنة 2010.
رسوم للأطفال
منذ منتصف الثمانينيّات، وسّع قدوح من دائرة اهتماماته، فصار يرسم للأطفال، للمكتبة العصرية، ودار المسيرة، وغالبيتها كتب مدرسيّة، كذلك صار يصمّم أغلفة الكتب، ويرسم الشرائط المصوّرة للعديد من المجلّات المتخصّصة بعالم الطفل. مع ذلك لم يتوقّف عن الرسم للمطبوعات السياسيّة، وبقي على تنوّعه هذا حتّى اليوم.
لكن مشكلة قدوح الرئيسة تكمن في عدم احتفاظه بنماذج عن أعماله، ولم يصدر ألبومات تؤرّخ مراحله الفنّيّة، لذلك لا نعرف له سوى ألبوم يتيم، أصدره وتابعه الباحث علي مزرعاني الذي يهتمّ بالتأريخ.
دمعتان
إن جميع المصادفات التي كانت لصالح نبيل قدوح الفنّان، لم تكن كذلك لناحية نبيل قدوح الأبّ، فقد أنجب خمسة أولاد، توفيت منهم ابنة قبيل إتمامها عامها الثالث بسبب مشكلة في الأنزيمات، لتولد له ابنة ثانية، وتعيش حتّى السابعة وتموت بالمرض عينه. يحكي لنا نبيل عن تلك الأيام الصعبة، بينما يبرق الدمع في عينيه. هو حزن على عائلة طفلتيه، كما على ذلك البيت القديم في البسطا التحتا، الذي زاره منذ مدّة، فوجده متداعيًا سيّئ الحال، بينما اكتشف أنّ مقرّ جريدة “الهدف” أصبح شققًا مفروشة للإيجار.