“الزامبو” في مدينة الميناء طقوس احتفالية وبقعة فرح
بأجسادهم الملوّنة، وملابسهم الغريبة التي تذكّر بتقاليد السكّان الأصليّين لأمريكا الجنوبيّة وبعض القبائل الإفريقيّة، نزل أبناء الميناء إلى أحياء المدينة القديمة. تنافس هؤلاء في جرأة ارتداء ملابس المحاربين القدامى، والجلود المزدانة بالريش والحلي. أحيا هؤلاء تقليدًا شعبيًّا، بدأ به الأجداد، وحافظ عليه الأبناء، في نهار الأحد الذي يسبق “الصوم الأربعينيّ” لدى طائفة الروم الأرثوذكس.
مسار طويل من الفرح
منذ أسابيع، بدأ شباب الميناء التحضير لاحتفال “الزامبو” السنويّ. وفي الطريق إلى النهار المنتظر، بحث المنظّمون في أدقّ التفاصيل من أجل الحصول على أفضل أنواع الطلاء والألوان، وتصميم الملابس التنكّريّة الفريدة والمبهجة.
صباح الأحد، احتشد سكّان الميناء في الطرقات، وعلى الشرفات لاستقبال مواكب “الزامبو”، التي انطلقت في فترة قبل الظهر، وكان لافتًا الحضور الكبير للزوّار والسيّاح القادمين من خارج المدينة البحريّة الأعرق، الواقعة على البحر الأبيض المتوسّط.
أعطت صرخات “المحاربين” إشارة انطلاق المهرجان الكبير. بدأت مسيرة الفرح من قبالة “بيت الشيخوخة”. ضاقت الطريق بالحاضرين ممّن غنّوا ورقصوا جنبًا إلى جنب مع المحاربين، قبل التوجّه نحو شارع مينو السياحيّ، ومن ثمّ إلى تفرّعات شارع مار إلياس الداخليّة. بعد الاستدارة حول دوّار الغروبّي، جال الحاضرون أمام معالم الميناء، وعبر سينما فيكتوريا، قصدت المسيرة شارع البلديّة، وصولًا إلى شاطىء البحر قرابة الساعة الواحدة والنصف بعد الظهر. وأنهى المشاركون طقوسهم في البحر، حيث قفز الشبّان في المياه للاستحمام وغسل أجسادهم من الطلاء الملوّن.
كيف وصل الزامبو؟
قبل مئة عام، دخل تقليد “الزامبو” الثقافيّ إلى مدينة الميناء المتعدّدة الانتماءات الدينيّة والفكريّة في شمال لبنان. ومع الزمن، تحوّلت هذه الاحتفاليّة الغريبة إلى طقس احتفاليّ يتكرّر في موعده السنويّ، فهو يسبق موسم الصوم الشرقيّ، ويقوم بصورة أساسيّة على تنكّر الشبّان، الذين ينزلون إلى الشارع لنشر الفرح من خلال الرقص والعزف، حاملين علبًا لجمع التبرّعات بغية مساعدة المحتاجين.
تؤكّد العائلات المحافظة ألّا علاقة لهذا المهرجان بالطقوس الكنسيّة، واستقبال الصوم الأربعينيّ. وتتعدّد الروايات حول الجذور الأولى لدخول هذه الممارسة إلى وجدان أبناء الميناء. يُرجع الرأي السائد بدء المهرجان في الميناء إلى مهاجرين لبنانيّين عائدين من الريو دي جينيرو في البرازيل، التي تصخب بالطقوس والاحتفالات المليئة بالألوان.
قبل مئة عام، دخل تقليد “الزامبو” الثقافيّ إلى مدينة الميناء المتعدّدة الانتماءات الدينيّة والفكريّة في شمال لبنان. ومع الزمن، تحوّلت هذه الاحتفاليّة الغريبة إلى طقس احتفاليّ يتكرّر في موعده السنويّ.
في المقابل، يعتقد البعض أنّ “الفضل في قدوم الزامبو يعود إلى عهد الانتداب الفرنسيّ على يد الجنود السنغاليّين في إبّان الحرب العالمية”، وبين هذه وتلك، تتحدّث مجموعة من أبناء الميناء عن “أصول يونانيّة لهذه الاحتفالات”، إذ إنّ العشرات من العائلات في الميناء، تنحدر إلى اليونان.
ذاكرة الميناء الحيّة
يشارك أبناء الميناء من مختلف الانتماءات الدينيّة في مهرجان “الزامبو”. يتحدّث نقولا يعقوب الطبليّة، الرجل الستّينيّ عن رسوخ الزامبو لدى أبناء الميناء، “حيث يجتمع الشبّان للاحتفال في الأسبوع الأخير الذي يسبق بدء الصوم، وكان يتولّى الموهوبون عزف الأركورديون والدربكّة (الطبلة) والطبل، في خلال جولة تنكّريّة في المدينة؛ ينشدون، وينشرون أجواء البهجة والفرح بين الأحياء وفي الأسواق، ويتبعهم الناس”.
ويضيف لـ”مناطق نت”: “توقفت هذه الطقوس مدّة ثلاثة أعوام خلال الحرب الأهليّة اللبنانيّة، ومن ثمّ قرّرت مجموعة من الشبان إعادة إحياء هذه الاحتفالات، وتقديم استعراضات تمثيليّة لأجواء القبيلة التي تحاكي إشعال النيران والرقص حولها، يتوزعون الأدوار بين رئيس القبيلة، وأتباعه، إذ يجلس في الوسط ويعطي الأوامر”.
يكمل نقولا روايته فيقول: “كان الشبّان يحملون كيلة (وعاء) لجمع التبرّعات، وفي نهاية النهار والجولة، ينزلون إلى ماء البحر للسباحة”. ويتحدّث عن واقعة مثيرة للضحك، أنّه “في إحدى المرّات، نزل المحاربون في نهاية الزامبو للسباحة، ولكن المفاجأة، أن الصباغ ظل عالقًا على الجسد، ولم تغادر الألوان رغم الفرك الشديد. واكتشف هؤلاء وجود زيت في الطلاء، الأمر الذي أدى إلى ثبات الألوان. فما كان منهم إلّا أن قصدوا حمّام السوق، من أجل إزالتها”.
يعود نقولا الطبليّة في الذاكرة إلى ما قبل ستّين عامًا: “كان الكرنفال يستمرّ مدّة أسبوع، قبل بداية الصوم الأربعينيّ لدى الطوائف الشرقيّة. يشرف على تنظيمه مجموعة من الشباب الناشطين والمثقّفين والعاملين الاجتماعيّين. لكن بعد الحرب الأهليّة (1975)، أصبح المهرجان يقام ليوم واحد فقط، تشارك فيه مجموعة من الشبّان ممّن تجمعهم روح الدعابة والفكاهة، وقد امتاز هؤلاء بالقدرة على الإبداع، وتقديم عروض فنّيّة، وتمثيليّة بصورة عفويّة وجميلة”.
فرحة للجميع
أدخل كرنفال الزامبو الفرح إلى نفوس الحاضرين والزائرين. تعبّر الشابة مايا، إحدى الحاضرات، عن سعادتها لزيارة الميناء، ومشاهدة هذه الطقوس الغريبة، وتشير إلى “أثر إيجابيّ لهذه الأنشطة في نفوس الأطفال، وتؤدّي إلى التفاعل الاجتماعيّ، لأنها تقام داخل الأحياء الشعبيّة التي لا يقصدها في العادة السيّاح”، مؤكدةً أنّها “ستنتظر العام المقبل للمشاركة في هذا المهرجان نظرًا للبهجة التي تثيرها العروض في نفوس الحاضرين”.
أعاد الكرنفال أجواء الفرح إلى الميناء، ووضعها ولو ليوم واحد على الأقل، ضمن قائمة السياحة الداخليّة والأجنبيّة. حيث تزاحم هؤلاء على التقاط الصور، والمشاهد التي أثارت حشريّتهم. كذلك شكّلت فرصة لإحياء الذاكرة الجماعيّة للعائلة، فقد حمل الآباء أطفالهم، ومشوا وراء “المحاربين”، أمّا الجدّات، فقد أمسكن بأيدي أحفادهنّ، وأخبروهم عن تجارب الماضي وحكاياته الجميلة.