الزراعة في البقاع الشمالي: هذه مخاطرها وأزماتها، وأبرز عناوين المعالجة

يُعدّ سهل البقاع سلة لبنان الغذائية والزّراعيّة، حيث تُعتبر أراضيه الزراعية الأكبر من حيث المساحات المزروعة، سواء من القمح أو الأشجار المثمرة كالتفاحيات واللوزيات والزيتون والخضار. لكن تلك الميزة لم تستطع أن ترفع عنه الإهمال والتهميش بالرّغم من حاجة الإقتصاد اللبناني لهذا القطاع الذي يُعدّ الثالث من حيث الأهمية بعد قِطاعيّ الخدمات والصناعة.

في ظِلّ غياب دور الدولة وغياب مشاريعها في إعادة تأْهيل مدارسها الفنّية والمهنيّة الزراعية وشَلل المشاريع المدعومة لهذا القطاع، ما زال سهل البقاع الدّاعم الأساسي للإقتصاد اللبناني من حيث رفع مستوى الدَّخل والحدّ من الفقر وتحسين الأمن الغذائي لدى أغلبيّة السُّكان الذين يعيشون في الأرياف، إضافة إلى أنّه يلعب دورًا في تحقيق الإكتفاء الذّاتي الذي يسعى إليه لبنان.

بالرُّغم من كلّ هذا تبقى الزّراعة مُعرَّضة للكثير من الصُّعوبات والتحدّيات لجهة غياب عامل الثّقافة الزراعيّة لدى المزارع، بسبب ضعف الإرشاد الزراعي لقلّة مراكز الأبحاث الزراعية المعنيّة بإرشاد وتوجيه وتدريب المزارعين. فنادراً ما نجد دورات وندوات يَخضع لها المزارع لتحسين قدراته ومهاراته في تطوير أراضيه وإدارة مشاريعه الزراعية بطريقة صحيّة سليمة ومدروسة، خصوصاً في ما يتعلّق بتطوير الآليات وكيفيّة إدارة الآفات الزراعية التي تتطلب الوعي التام في استخدام المبيدات والأسمدة، التي لا تقلّ خطورة عن دور الإرشاد وبثِّ الوعيّ لدى المزارعين.

أثناء قطاف المشمش في البقاع الشمالي
الآفات الزّراعيّة

يحصل الإنسان على غذائه من زراعته المتنوعة، ويتطلّب الحصول على إنتاج عالي من المحاصيل، وقدرة على التنافس مع الآفات الزراعية. تشمل هذه الآفات الحشرات والأمراض النباتية والأعشاب وغيرها، ويوجد حوالي عشرة آلاف آفة حشريّة تُهاجم المحاصيل الزراعية والحيوانات وتنقل الأمراض للإنسان والحيوان والنبات. ويوجد حوالي 150 نوعًا من الفطر يسبب أمراض نباتية، و600 نوع من الأعشاب الضَّارة. تُحدِثُ كثير من الآفات الضارة تدميراً كاملاً للمحصول التي تتطلّب استخدام المبيدات لتجنّبها.

مع إزدياد الطلب عليها وسوء استخدام هذه المبيدات جرَّاء غياب الوعيّْ والثقافة الزراعيّة، تزداد احتمالات تلوث البيئة من خلال الرَّمي العشوائي لمخلّفات المَزارع والمَسالخ خاصة في التربة، من خلال استخدام مبيدات الآفات والتسميد غير المُلائم، والماء حيث تلوث المياه السطحية، والهواء الذي يحمل حُبَيبات المبيد من مكان إلى آخر، وحتى الغذاء الذي يدخل في جسم الإنسان ويتخزّن بالأنسجة الدُّهنية لفترات طويلة ينتج عنها أمراض متعددة خاصة السّرطانية منها.

لا يمكن الاكتفاء بهذا العامل الأساسي من المعوّقات التي تقف في طريق المزارع، فهناك العديد من المشاكل التي تواجه هذا القطاع، وتقف حائلًا في وجه نموّه، كغياب الاستراتيجيّات الحديثة لإدارة القطاع الزراعي من قبل الدولة، الأمر الذي يُضعف إمكانيّة تحسين الإنتاج الزراعي، كذلك ضعف التّمويل بسبب النمو غير المتوازن، وبعد تفاقم مشاكل القطاع المصرفي بفعل الأزمة المالية الحالية.

جانب من الأراضي الزراعية الشاسعة في البقاع الشمالي
تعاونيات زراعية وهمية

كذلك إتّباع المزارع أساليب زراعية تقليدية تفتقر للتكنولوجبا الحديثة مما أدى الى تراجع الانتاج المحلي الزراعي. هذا عدا عن التّلكُؤ في المشاريع المدعومة، منها المشاريع طويلة الأمد من قبل الجهات المعنية، ومن الوجود الوهميّ للتعاونيات الزراعية، فإن وُجدت هذه الأخيرة فهي مشلولة، وعاجزة عن مساعدة المزارعين ومدِّهم بالمستلزمات الزراعية، إضافة إلى غيابها عن مساعدتهم في فترة تصريف محصولهم الزراعي.

فالمزارع اللبناني كان ولا يزل يتكبّد خسائر فادحة جرّاء الكثير من المشاكل الّتي يواجهها، أهمّها تغير المناخ والعوامل الطقسية كالرياح القوية التي تتسبب في قلع وتمزيق الخيم البلاستيكية. أو جراء الفياضانات والسيول الجارفة للتربة التي تؤدي إلى تلف المحاصيل. هذا إن سلِم المحصول فهو أيضا لا يسلم من مواجهة مشاكل كبيرة أبرزها غياب أسواق تصريف الإنتاج الذي يُصعَب تصريفه في السوق المحلّي في أغلب الأحيان، وغالبا ما يبقى دون تصريف، وفي أحيانٍ أخرى يتحوّل إلى مصدر لعلف الأبقار كما حصل في السنوات الثلاث الأخيرة.

إضافة لذلك، فإن البُعد عن أسواق التصريف يُعد من المشاكل أيضًا، الأمر الذي يؤدي إلى رفع تكاليف النقل والشحن التي هي في الأساس مرتفعة جدًّا وازدادت غلاءً في ظلّ الوضع الإقتصادي الصعب وغلاء المحروقات. عدا عن ذلك فإن أسواق الجملة في كثير من الأحيان غير مضمونة وغير شفافة في تحديد أسعار المنتجات.

إتّباع المزارع أساليب زراعية تقليدية تفتقر للتكنولوجبا الحديثة أدى الى تراجع الانتاج المحلي الزراعي، وأيضًا الوجود الوهمي للتعاونيات الزراعية، والتي إن وُجدت فهي مشلولة، وعاجزة عن مساعدة المزارعين ومدِّهم بالمستلزمات الزراعية

ومن المشاكل الكبرى التي واجت المزارعين مشكلة إغلاق الأسواق الإقليمية أمام المنتجات اللبنانية، الأمر الذي أدى إلى إغراق الأسواق المحلية بكميات كبيرة من المنتجات متخطّيًا قدرته الاستيعابيّة لصرف هذه الكميات فأدى بالمزارع اللبناني إلى تلفها، وهو الذي لا ضمانات له، ولا تعويضات للخسائر التي يتكبّدها في المحصول. إضافة إلى الأزمة التي لم ترحم المزارعين الذين يتكبّدون كلفة تبريد المنتجات المكلفة التي اعتمدت على نظام الطاقة الشمسية جراء انقطاع التيار الكهربائي.

موسم المشمش

من هنا لا بد من وجود سياسات من المفترض إتباعها من قبل الحكومة اللبنانية لمعالجة مشاكل هذا القطاع ومنها تأمين المساعدة التّقنية والماليّة للمزارعين، إستصلاح الأراضي المهجورة أو أراضي البور، إدارة مخاطر الفيضانات والمياه المعيشية، معالجة المبيدات وتطبيقها بشكل مدروس وآمن، تعزيز الزراعة العضوية عن طريق إدخال وتحسين المنتجات العضوية المصنّفة والموثقة في الأسواق المحلية والأجنبية، إعتماد سياسة التشجيع على التصدير من خلال إقامة حملات دعائية للإنتاج المحلّي الزراعي والتأمين على الصادرات لضمان حقوق المزارعين المصدِّرين وإلغاء الرسوم الجمركية عن السلع الزراعية المصدرة، إيجاد أسواق بديلة لتصريف الإنتاج، وضع إستراتيجية حقيقية وسياسة زراعية تتبنَّاها الدولة وتكون إدارية هادفة لحماية المزارع وتعويض خسارة محصوله، فتح أسواق الخليج العربي أمام السوق اللبناني، وإبعاد العلاقات الإقتصادية عن العلاقات السياسية أمام الإنتاج اللبناني.

كل هذه الحلول يمكن أن تساهم في إعادة تفعيل القطاع الزراعي لأن لبنان اليوم بحاجة الى تطوير إنتاجه المحلي من أجل وضع البلد على السكة الصحيحة في المجال الاقتصادي عبر خلق إقتصاد متين وقويّ. فنحن وُلدنا هنا متشرّبين حبّ الأرض والوطن الذي هو شجرة طيّبة لا تنمو إلاّ في تربة التضحيات، لذلك علينا دعم هذه الأرض وسواعِدها فنكون عوناً للمزارعين ومصدراً لوعيهم ورزقهم.

* عبير محمود نون، مهندسة زراعية

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى