الشاعر جوزف حرب عشر سنوات على انسكاب المحبرة
“ضلّيت اكره البحر حتّى عرفت أنّو هوّي اللّي بيعمل الغيم”، يقول جوزف حرب، المولود في أقرب نقطة من ذلك الأزرق الكبير، في بلدة الناقورة الجنوبيّة، في العام 1944. حيث كان والده يخدم في سلك الدرك، في الزمن الذي يُنقَل فيه الدركي بين مخافر عدّة، وهي نعمة على الأبناء الذين يعيشون أكثر من طفولة في أكثر من مكان، فكان قدر العائلة ان تتنقلّ بين صور، والبترون، وجبيل، تحديداً بلدة طرزيّا التي أدرك فيها مساحات طفولته، علماً أنّ جوزف حرب من بلدة المعمريّة، قضاء الزهراني في جنوب لبنان.
في “دير راهبات القلبين الأقدسين” في جبيل، درس ابن الدركيّ، لسنوات أربع في القسم الداخلي، وكان يخدم القدّاس، بينما يقرأ الرسائل في الشهر المريميّ، وشهر قلب يسوع. اشتغل كاهن الدير لتحويله راهباً، أو خورياً، فكانت الوالدة حائط الصدّ، لأنها أرادت شيئاً آخر لابنها.
في تلك المدرسة كسر جوزف زجاجة القنديل، فهدّدته الراهبة بأنّ الشيطان سوف يظهر عليه. لم يخلف، بل قال في خلده “انا بحبّ الشيطان”، ولذلك كسّر باقي القناديل، الواحد تلو الآخر، وكم كانت خيبته عظيمة حين لم يظهر له الشيطان.
“والدي كان مؤمناً ملتزماً حدّ التزمّت، بينما صلاة أمي بالسُّبحة، بعد الغروب، وبشكل سرّي، كانت أكثر صدقاً”. كل هذا لم يمنع الفتى من التعرّف على الماركسية في بيروت، ليعتنقها حتى وفاته، ليقول عن ذلك: “أنا ما انتميت للحزب الشيوعي، وصداقاتي قليلة بقادة الحزب. التقيت جورج حاوي مرّة، لكن أنا ماركسي”. ليضيف من بعدها: “بالجرد كان صعب لاقي طريقة أتعرف عالماركسية، بينما المدينة سمحتلي بهالشي”.
رماد وملح
تخرّج جوزف حرب من كلّية الحقوق، من دون أن يعمل في المحاماة لوقت طويل، بينما عمل سنوات طويلة في مجال التدريس، حيث تمّ طرده من ثماني مدارس، كما ذكر مرّة في حوار العمر مع الإعلامية الراحلة جيزيل خوري.
أمّا الإذاعة فقد أعطاها الكثير من عمره، كاتباً ومقدّماً للعديد من برامجها، انطلاقاً من العام 1966، بينما كتب “مع الصباح”، البرنامج الشهير الذي كانت تقدّمه ناهدة فضل الدجّاني، في الاذاعة اللبنانيّة. كذلك أعدّ برامج لشاشة تلفزيون لبنان، قبل أن يؤلّف العديد من المسلسلات، وأبرزها “أوراق الزمن المرّ” وكان من بطولة المطربة جوليا بطرس، رفقة نجوم كبار، مثل أنطوان كرباج، ومنى واصف، وعمّار شلق، وكان الاخراج للسوري نجدة اسماعيل أنزور.
أمّا المخرج هيثم حقّي فقد أخرج لجوزف حرب، مسلسل “رماد وملح”، من بطولة انطوان كرباج، وجوزف نانو، والممثّلة المسرحيّة نضال الاشقر، التي قالت عن هذا العمل: “لم أقرأ منذ سنوات نصّاً دراميًّا في هذا المستوى. جوزف تناول خلفية الحرب، وقدّم عرضاً لها جرى بين 1975 و1984 في لبنان، وفي المهجر من خلال قرية لبنانيّة، ومن خلال سيّدة لبنانيّة تدعى سارة تقيم في أميركا”.
أمّا الإذاعة فقد أعطاها الكثير من عمره، كاتباً ومقدّماً للعديد من برامجها، انطلاقاً من العام 1966، بينما كتب “مع الصباح”، البرنامج الشهير الذي كانت تقدّمه ناهدة فضل الدجّاني.
صنعَت الكتابة الدراميّة لجوزف حرب أماناً ماليّاً، واستقلاليّة مكانيّة، بحيث يشتغل في بيته، في الحمرا، في ذلك المبنى الذي يحتلّ منه الطبقة الخامسة، بينما كان زياد الرحباني يقطن الطابق الرابع. هناك تعرّف حرب على الاخوين رحباني، حينما كانا يزوران زياد في منزله.
مسار القصيدة
بالمحكيّة اللبنانيّة كتب ابن المعمريّة، ديوانه الأوّل، وقد عرضه على الشاعر سعيد عقل، الذي احتفى بالشاعر الغرّ، وكتب له مقدّمة، وكانت الأمور تجري بشكل انسيابيّ، حتّى أصرّ عقل على تحويل الكتاب للحرف اللاتينيّ، وأوكل إلى شخص من آل نفّاع انجاز ذلك، ما أثار اعتراض حرب، الذي لم يستسغ الفكرة، التي ستأخذ مشروع الديوان إلى قلب السجال العربيّ/اللبنانيّ، ومن ضمنه محورا اليمين واليسار، فلَم يبصر الكتاب النور.
لكن جوزف حرب، عاد وأصدر ديواناً آخر في عمر 17 عاماً، وبدا أنّه لم يكن راضياً على منتجه هذا، في ما بعد، ولم يدرجه ضمن لائحة اصداراته الكثيرة، وبعضها تجاوزت صفحاته الألف، مثل “المحبرة”، وهناك “شجرة الأكاسيا”، و”مملكة الخبز والورد”، و”الخصر والمزمار”، و”زرتك قصب فلّيت ناي”، و”أجمل ما في الأرض أن أبقى عليها”، و”السيدة البيضاء في شهوتها الكحليّة”؛ غزارة بين الفصحى، والمحكيّة، وكأنّه لم يفعل شيء في حياته سوى الكتابة الشعريّة، بينما صدرت له كتب نثرية، عدا عن دوره في كواليس المشروع الفيروزيّ، حيث كان مستشاراً للسيدة فيروز، وكاتباً للعديد من مقابلاتها الصحفيّة، حيث يجيب هو على الاسئلة المكتوبة، كما روى زياد الرحباني في أكثر من مناسبة.
خليك بالبيت
بالمعنى الدقيق، لم يكتب حرب الأغاني إلّا للسيّدة فيروز، التي صدحت بكلماته في أجمل أغانيها: “اسوارة العروس”، “لبيروت”، “زعلي طوّل”، “خليك بالبيت”، “أسامينا”، “فيكن تنسوا”، “ورقو الأصفر”، “رح نبقى سوا”، “حبيتك تَـ نسيت النوم”، “بليل وشتي”، “البواب”.
بالمعنى الدقيق، لم يكتب حرب الأغاني إلّا للسيّدة فيروز، التي صدحت بكلماته في أجمل أغانيها: “اسوارة العروس”، “لبيروت”، “زعلي طوّل”، “خليك بالبيت”، “أسامينا”، “فيكن تنسوا”..
وغيرها الكثير، منها ما لحّنه الرياض السنباطيّ وغنّته فيروز، ولم يُفرج عن تلك الاغنيات حتّى يومنا هذا، بقرار من فيروز. أمّا عن الكلمات التي غنّاها له مرسيل خليفة، فلم يكن جوزف حرب راضياً، ليس لناحية الألحان والأداء، إنما لطريقة خليفة في عمليّة الاختيار، من دون أخذ الإذن المسبق منه. لذلك قلّما حكى عن “غنّي قليلاً يا عصافير”، و”انهض وناضل”، ليقول إنّه كتب الأغاني لفيروز فقط.
وإلى المعمريّة يعود
ترأّس حرب “اتّحاد الكتّاب اللبنانيّين”، بين عاميّ 1998، و2002، محاولاً ضخّ دم مختلف في جسم الاتّحاد، والسعي لنيل الحقوق، وقد كانت هناك هواجس وتحفّظات حينذاك، من عدّة أسماء كبيرة، مثل أنسي الحاج وشوقي أبي شقرا، على هذا الطاقم من أعضاء الاتّحاد، وليس حرب على وجه التحديد، فأنجز ما يستطيعه، وليس ما يريده.
من ناحية التكريم، كان كثيراً، بين لبنان والعالم العربيّ، ومن الجوائز نال “جائزة الإبداع الأدبيّ” من مؤسّسة الفكر العربي، والجائزة الأولى للأدب اللبنانيّ من “مجلس العمل اللبناني” في دولة الإمارات العربية
توفّي الشاعر جوزف حرب مساء 9 شباط/فبراير 2014، في بلدته المعمريّة، التي سكنها بشكل دائم في سنواته الأخيرة، ليكون المكان مرآة لقصائده الناضحة بالورد والصخر، والتلال والفلوات.