الشاعر يوسف الخال ثورة في مجلّة

منذ أكثر من عشرين عامًا، زرتُ منزل الشاعر يوسف الخال، في غزير (المتن)، بغية إجراء حوار مع أرملته الشاعرة والرسّامة مهى بيرقدار. لم أحتاج لإشارة كي أتنبّه إلى أنّني في حضرة التاريخ، خصوصًا حينما أخذتني العزيزة مهى بجولة في المكان، ووقفتُ كثيرًا أمام تلك الغرفة التي عُقِدَ فيها “خميس مجلّة شعر” بعد أن كانت تعقد سابقًا في صالة اوتيل بلازا، في منطقة الحمرا.

هنا كان يجلس الخال، وهناك أدونيس، وأنسي الحاج، وشوقي أبي شقرا، ومحمّد الماغوط، وكثر من الضيوف الذين كانوا يتبدّلون من شهر لآخر. على جانبي الأدراج فوق العشب، ثمّة منحوتات تجريديّة صغيرة، من الحديد والصخر.

وقتذاك مرّت علينا الابنة ورد، ألقت التحيّة وغادرت إلى النادي؛ كانت في حينه، في أوج انطلاقتها بشخصيّة غوى ربّاط في مسلسل “العاصفة تهبّ مرّتين”، كذلك كان يوسف الخال الابن يتلمّس خطاه في دنيا التمثيل. حكت لنا بيرقدار كثيرًا عن يوميّاتها مع يوسف الزوج الذي يكبرها بواحد وثلاثين عامًا، إذ كانت الزوجة الثانية بعد زواج أوّل من الرسّامة هيلين الخال (مواليد بنسلفانيا 1923 لأبوين لبنانيّين من طرابلس)، وله منها طارق وجواد.

المفارقة أنّني عدتُ والتقيت هيلين بعدها بسنوات، على هامش أحد المعارض التشكيليّة، فتناقشنا بأسلوبها التجريديّ المتقشّف، ثم جرّبتُ أن آخذ الحديث نحو يوسف الخال وذكرياتها معه، فبدت متكتّمة أمام هذا الفضوليّ الغريب.

الرسّامة مهى بيرقدار وولديها ورد ويوسف الخال
بين سعادة ومالك

اختار يوسف الخال أن يكون لبنانيًّا، بل قارب مرحلة التنظير للفكرة اللبنانيّة، متأثّرًا بأستاذه في الجامعة الأميركية شارل مالك، الذي أصبح مساعدًا له في ما بعد. في الحرب، التقى الخال ببشير الجميّل، رفقة مثقّفين آخرين، ليشرع الخال من بعدها بالعمل في اذاعة لبنان الحرّ، مشرفًا على النصوص.

ومن البصمات اللبنانيّة في شخصيّة الخال، سعيه إلى تحويل الإنجيل إلى المحكيّة اللبنانيّة، مشروع بدأ به ولم يكمله، ربّما لأنّ الوقت لم يسعفه. غير أنّ المفارقة تكمن بتأثّر الخال بشخصيّة أنطون سعادة، ومبادئ الحزب القوميّ السوريّ الاجتماعيّ، الذي انتمى اليه في سنّ مبكرة، لينفصل عنه في العام 1947، بينما تقول مصادر “القوميّ” أنّه طرد من الحزب. لكن في المجمل، بقي الخال يتحرّك بطيفيّ سعادة ومالك، بينما كان الشاعر الأميركيّ عزرا باوند ملهمًا له في مشروعه الشعريّ.

انزياحات الهويّة

في قرية عمار الحصن- سورية، ولد يوسف عبد الله الخال  بتاريخ 05\05\1916، في أوج الحرب العالميّة الأولى. كانت العائلة أرثوذكسيّة قبل أن يحدث الوالد عبدالله تحوّلًا نحو الإنجيليّة، الكنيسة المشيخيّة على وجه التحديد، وكان قسّيسًا، خدم الكنيسة في أماكن عدّة، آخرها في طرابلس، حيث توفّي هناك سنة 1963.

في قرية عمار الحصن- سورية، ولد يوسف عبد الله الخال، في أوج الحرب العالميّة الأولى. كانت العائلة أرثوذكسيّة قبل أن يحدث الوالد عبدالله تحوّلًا نحو الإنجيليّة، الكنيسة المشيخيّة على وجه التحديد، وكان قسّيسًا

والدته رحمة سليم المن، وله شقيقان، وأربع شقيقات. أمّا دراسة يوسف الابتدائيّة فقد انطلقت في بلدته، لتستكمل في المدرسة الأميركيّة في طرابلس (منطقة القبّة) وكان في القسم الداخليّ، وبقي كذلك حتّى سنة تخرّجه 1934. أمّا دراسته الجامعيّة فكانت في الجامعة الأميركيّة (الإنجيليّة) في بيروت.

كان انتماؤه إلى الحزب السوريّ القوميّ في العام 1934، وعلى ما يبدو أنّ عقيدة الحزب التي تعتبر سوريا ولبنان أرضًا واحدة، سهّلت على يوسف عمليّة الانزياح بالهوية من هناك إلى هنا، ولا ننسى تلك التنقّلات التي حصلت بطبيعة عمل الأب، من عمار الحصن، إلى حماه فطرابلس، كما أنّ يوسف نفسه درس سنتين في جامعة حلب الأميركيّة، ثمّ اشتغل معلّما لمدّة قبيل دراسته الجامعيّة، في بوابة الجنوب صيدا.

رصاصة قرب القلب

في أثناء المرحلة الطرابلسيّة، دخل الخال عالم الصحافة، مشتغلًا في جريدتيّ “الليل”، و”الأخبار”، المحلّيتين، وكان صديقًا لرئيس تحريرهما ياسر الأدهمي، الذي كان يسهر معه في ملهىً ليليّ، ذات يوم من أيام 1935، حيث حصلت مشادّة بينهما على استمالة امرأة يونانيّة تدعى فاسوس، ليتطوّر الأمر إلى عراك، وما لبث الأدهمي بأن استلّ مسدّسه وأطلق رصاصة نحو قلب يوسف الخال، الذي نقل إلى المستشفى، ليتعافى بعد مدّة.

الشعراء أدونيس، شوقي أبي شقرا، أنسي الحاج ويوسف الخال
مجلة الأمم المتحدة

ترأّس الخال إلى وقت قصير تحرير “صوت المرأة” التابعة لجمعيّة نساء لبنان، ثمّ سافر في العام نفسه (1947) إلى أميركا، ليعمل في هيئة تحرير مجلّة الأمم المتّحدة، التابعة للأمانة العامّة في نيويورك، فتبلورت خبراته الصحافيّة، وفق المواصفات العالميّة، وبقي في مهمّته تلك حتّى العام 1952، تخلّلها انتدابه كملحق صحفيّ في البعثة التي أنشأتها الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة، لتهيئة ليبيا إلى مرحلة الاستقلال، التي سوف تتمّ بعد سنتين.

في تلك الأثناء ألقى الخال قصيدة مديح بحقّ ادريس السنوسي، بمناسبة تتويجه ملكًا. كانت ليبيا فرصة لاستكمال الكتابة في “هيروديا” المسرحيّة التي بدأ كتابتها في لبنان، وعاد وأنهاها في أميركا، فتُنشَر هناك سنة 1955، على مطابع جريدة الهدى، التي ترأّس تحريرها، فكانت المرحلة الأميركيّة غنيّة بكلّ تفاصيلها، بما تضمّنته كذلك من اطّلاعه على أعمال الرابطة القلميّة، قبل أن يقرّر العودة إلى لبنان، ليترأّس تحرير “الصيّاد” لأشهر ثلاثة، ويعمل كأستاذ للأدب العربيّ في الجامعة الأميركيّة.

ثورة “شعر”

في شتاء العام 1957، صدر العدد الأوّل من مجلة “شعر” التي أسّسها الخال مع أدونيس ومجموعة من الشعراء الذين شكّلوا كتيبة تحرير الشعر العربيّ من شكله العموديّ، والتنظير لمفهوم شعريّ جديد، بتأثّر في حركات مشابهة في أميركا، وقبلها فرنسا، فكانت معركة مشوبة بالتحدّيات، خاضها مع الخال وأدونيس: أنسي الحاج، شوقي أبي شقرا، فؤاد رفقة، محمد الماغوط، يمنى العيد، جورج غانم، وآخرون. تضمّنت مجلّة “شعر” بعض القصائد، ومقالات نقديّة وترجمات ومسرحيّات، وتعريف القارئ العربيّ على أسماء أدبيّة عالميّة.

يوسف الخال متوسّطًا مجموعة من فريق مجلّة شعر وأصدقاؤها

وعن دار المجلّة، صدرت مجموعات شعريّة عديدة، كانت النموذج المتجسّد للمشروع التغييريّ.
قلنا معركة، لأنّ سهام النقد والتشكيك كانت تستهدفهم من كلّ حدب وصوب، حتّى عاب بعض الأدباء من مصر على الخال أنه يستعمل مصطلحات مثل: الصليب والجلجلة والرسالة، بينما خاضت مجلّة “الآداب” حربا ضروس على “شعر”. كذلك كان يتسرّب بعض الأسماء من فريق المجلّة، فيستهدفون الخال بأنّه صاحب رأي متفرّد، كما هو حال جورج غانم، الذي رفع عليه الخال دعوى قضائيّة، ألزمت غانم بالاعتذار.

مشروع مستمر..

استمرّت “شعر” حتّى العام 1964، ثم عادت بنفَس جديد بعد ثلاث سنوات، لتستكمل مشروعها الذي انتهى في العام 1970. كانت المرحلة الثانية بسعي وتحفيز من غسّان تويني ورياض الريّس وآخرين، بينما لم يكن أنسي الحاج راضيًا على فكرة العودة، وهكذا بلغت أعداد المجلّة الرقم أربعة وأربعين، ليبقى صداها حتّى يومنا هذا، كفعل تأثير وتغيير ونقاش، علمًا أنّ كتّاب “شعر” كانوا يدركون الدور التاريخيّ الذي يقومون به، فحجز كلّ منهم مكانًا ومكانة لاسمه في تاريخ الأدب الحديث، بعد اصطدام الشعر بجدار اللغة، كما وصفوه، فجرى التجديد في الشكل والكلمة والموضوع والمخيلة والجرأة…

لكن يبقى ليوسف الخال خصوصيّته كمحرّك أوّل لحجر الدومينو، فكان قائدًا، أو “بطريرك شعر” كما وصفه صديقه رياض الريّس، الذي كرّمه بإطلاق اسمه على جائزة سنويّة نالها شعراء لبنانيّون وعرب.

ذهاب بلا إياب

في 09\03\1987، توفّي يوسف الخال ودفن في غزير، تاركًا لنا مجموعة أعمال هي: “الحرّيّة” (1953)، “هيروديا” (1954)، “البئر المهجورة” (1958)، “قصائد في الأربعين” (1961)، “قصائد مختارة” (1963)، و”يوميّات كلب” (1987) الذي مرّر فيه تلك الشذرة: “والحياة جورة بالأرض، كلّ ما حفرتها بتصير عميقة. وفيك كمان تقول إنها طريق ما اله نهاية، ويللي بيوصل لآخرها ما بيعود يقدر يرجع لأولها”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى