الشيخ الصيداوي يوسف الأسير.. الأزهري الذي كتب الترانيم المسيحية

لا نعرف لماذا تأخرت منى عثمان حجازي 34 عاماَ، حتى تصدر كتابها عن شيخ نهضوي لم ينل حقه من كتَّاب السيرة، والمؤرّخين، مثل أبناء جيله، محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني؟

في العام 1989، أنهت الطالبة حجازي مشروعها البحثي، عن حياة وفكر ودور الشيخ الصيداوي يوسف الأسير (1815 ـ 1889) الذي يحمل سيرة ثوريّة، ريادية، فيها من الدهشات ما يكفي ليكون موضوعاً لمؤلفات، وبحوث، ومؤتمرات. كيف لا، وهو الأزهري الذي تحوّلت دروسه محجّة لعليّة القوم في العاصمة العثمانية الآستانة، كما تولّى قضاء عكا، ودقّق في مشروع نقل الإنجيل المقدّس إلى العربية، كما كتب الترانيم التي تُغنّى حتى يومنا هذا في جميع الكنائس الإنجيلية العربية.

عن دار نلسون (بيروت ـ السويد) صدر كتاب منى عثمان حجازي، الموسوم بـ “الشيخ يوسف الأسير الأزهري والنهضوي ـ حياته وآثاره”. وهو يقع في 200 صفحة من القطع الوسط.

ذو الجيوب المثقوبة

كان الشيخ الصيداوي، يوسف الأسير، خفيف الروح، حاضر النكتة، “يستطرف مجلسه ويستظرف”، كما وصفه مارون عبود. بينما يقول عنه يوسف اليان سركيس: “كان على جانب عظيم من الرقة، والدعة، وحسن المعاشرة، زاهداً في الدنيا”، وقد بلغ من كرمه، بأن أولاده كانو ينعتونه بـ “ذي الجيوب المثقوبة”.

من ناحية الشكل والصفات، كان الشيخ يوسف رَبِع القامة، معتدل الجسم، أسمر البشرة، داكن الشعر، كثّ اللحية، كما كان متواضعاً، أنيساً، سخياً، لم يبخل على أحد طيلة حياته، ولم يرد أحد عن بابه خائباً.

سطوع نجمه

درس الشيخ يوسف القرآن، على الشيخ ابراهيم عارفي، بينما درس التجويد عند الشيخ علي الديربي، في حين تشرّب مبادئ العربية من دروس الشيخ محمد الشرنبالي، وفي العام 1832، شدّ الرحال إلى دمشق طلباً للعلم، ولم يكن قد أنهى عامه السابع عشر، حيث أقام في المدرسة المراديّة، ولم تطل إقامته هناك، حيث قطعها بلوغه نعي والده، فعاد إلى صيدا، لتحمل مسؤوليات والدته واخوته، وإدارة مخزن والده.

يقول عنه يوسف اليان سركيس: “كان على جانب عظيم من الرقة، والدعة، وحسن المعاشرة، زاهداً في الدنيا”، وقد بلغ من كرمه، بأن أولاده كانو ينعتونه بـ “ذو الجيوب المثقوبة”.

بعد أن اطمئن لسير الأمور على ما يرام، قصد القاهرة طلباً للعلم في العام 1834، مجاوراً في الأزهر الشريف، في الفترة التي شهدت تحولات فكرية، وطروحات نهضوية.

بعد ما يقارب السنوات السبعة، برز الأسير من بين طلاب العلم، بطروحاته، ومجادلاته، وتفوّقه في الشروحات والتفسير، فحجز له مكاناً، ومكانة، بين أقرانه من رجال الدين. ويقول إدوار غانديك بأن الشيخ الأسير أصبح إماماً في علومه، يُرجع إليه، ويُعوّل عليه.

في العام 1841، أصيب الشيخ الصيداوي بوباء في الكبد، فعاد إلى لبنان، بعد أن أصبح من كبار المدرّسين في الأزهر، وكانت حلقته الدراسية محط إهتمام وشغل الكثيرين، بمن فيهم محمد علي باشا شخصياً.

بين العميق وصفات الديك

في صيدا، راح الشيخ يلقي دروسه في جامع “الكيخيا”، ولم يدم ذلك سوى لأشهر معدودة، حيث لاحظ الأسير تضاؤل عدد المستمعين إلى شروحاته المعمّقة، فتقصّى أسباب ذلك، ليتبيّن له بأنّ أكثر هؤلاء، يفضلون أخذ الدروس عند شيخ آخر، يحدّث عن صفات الديك وأنواعه ومنافعه! وهي لحظة يصفها عبد الرحمن حجازي في كتابه “دليل معالم صيدا الاسلامية”، قائلاً: “عندها، هرول الشيخ يوسف إلى منزله مُسرعاً، وطلب من زوجته أن تحزم حقائبها استعداداً للسفر، قائلاً: “مدينة كهذه لا يُطلب العلم فيها”.

الواقفون؛ سعيد شقير، إبراهيم الباحوط، سعد الله البستاني، عبد الله البستاني، شاهين سركيس، الشيخ خطار الدحداح، سليم البستاني. الجالسون؛ خليل ربيز، عبد الله شبلي، فضل الله غرزوزي، الشيخ يوسف الأسير، بطرس البستاني.

هذه المرّة، كانت طرابلس مقصد الشيخ، حيث لاقى ترحاباً وتجاوباً، بل رأوا فيه شيخاً جليلاً رغم حداثة سنّه. بقي هناك لفترة، ثم يمّم شطر بيروت، حيث هرعت إليه جموع المريدين، إذ كان صيته قد سبقه.

في العام 1868، قصد الأسير الأستانة، عاصمة الدولة العثمانية، فجرى تعيينه عضواً في مجلس شورى الدولة، ورئيساً للمصححين في ديوان نظارة المعارف، أي وزارة المعارف بحسب مقاييس اليوم. بعدها عيّن رئيس ديوان المحكمة الشرعية، وما أن عزم على العودة إلى بيروت، حتى عُرِضَت عليه مناصب رفيعة، بغية إبقائه في تلك البلاد، غير أن قراره كان حاسماً، فاستقر في بيروت، متفرغاً للتأليف، والبحث، وطرح الجديد.

الكبار الذين تتلمذوا على يديه

فترة وجوده في بيروت، عمل الشيخ يوسف مدرّساً في “الكلية السورية الانجيلية”، وفي مدرسة “الثلاثة أقمار”، للروم الأرثوذكس، كما علّم في المدرسة الأميركية في عبيه، المدرسة التي أنشأها المرسلون الأميركيون، ومنهم صديقه كرنيلوس فانديك، سنة 1846. وكذلك علّم العربية والمنطق في “المدرسة الوطنية” التي أسسها المعلّم بطرس البستاني.

في العام 1868، قصد الأسير الأستانة، عاصمة الدولة العثمانية، فجرى تعيينه عضواً في مجلس شورى الدولة، ورئيساً للمصححين في ديوان نظارة المعارف، بعدها عيّن رئيس ديوان المحكمة الشرعية

من تلامذة الشيخ الأسير فترة تواجده في الأستانة، نذكر: صفوت باشا (وزير الداخلية)، ورشيد باشا شرواني (الصدر الأعظم)، وأحمد جودت باشا (وزير المعارف)، والمسيو بورة (السفير الفرنسي في البلاط العثماني). أما من طلابه في بيروت، فنذكر منهم: غريغوروس الرابع الذي أصبح بطريرك أنطاكيا للروم الارثوذكس، ويوحنا الحاج، بطريرك الموارنة، وأنطوان بك عمّون، الذي تولّى رئاسة مجلس إدارة جبل لبنان في عهد متصرفها رستم باشا.

من معاصري الشيخ يوسف الأسير، نذكر: جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، والشيخ إبراهيم الأحدب، وأحمد فارس الشدياق، والشيخ ناصيف اليازجي، والمعلم بطرس البستاني.

الباحث الشاعر الصحافي

للشيخ يوسف مؤلفات عدّة، متفاوتة المواضيع والأحجام، بين اللغة، والفكر، والشعر، والرسائل التي كان يردّ من خلالها على كتب وطروحات إشكالية في زمانه.

في سياق وصفه لمقدّراته العلمية، قال الشيخ إنّ باستطاعته التأليف في سبعة عشر علماً، ومن هذه العلوم، الجبر، والحساب، والهندسة.

كتب الشيخ يوسف الأسير مقالات كثيرة، ذات مضامين فكرية، نهضوية، نشرها في جريدة “الجوائب”، وجريدة “لبنان” الرسمية، التي كان قد أنشأها داوود باشا، وجريدة ” ثمرات الفنون”، وجريدة “لسان الحال”.

كاتب الترانيم

من المفارقات التي تحمل ما تحمله من دلالات، مساهمة الشيخ الأسير في ضبط الصياغة العربية لنسخة الكتاب المقدّس، بطلب من الدكتور كرنيليوس فانديك، وهي مهمة كانت موكلة لناصيف اليازجي. فكان بذلك أول أزهري، تعهد إليه جمعية مسيحية، بضبط وصياغة ترجمة النسخة العربية من الكتاب المقدس. لم يقف الأمر عند هذا الحدّ، إذ نظم الشيخ الكثير من الترانيم المسيحية، المستمدة مواضيعها من المزامير والإنجيل، وجميعها تم طبعه، وترنيمه في الكنائس الإنجيلية.

قضاء وإفتاء

كانت ثقافة الشيخ القانونية، ورجاحة عقله، سبباً لتبوءه مناصب مهمة كالقضاء، والإدعاء العام، والإفتاء، في مختلف مدن بلاد الشام، بل تولّى القضاء في بكفيا سنة 1858، وكانت مركز قائمقامية النصارى، ثم انتقل مفتياً للواء عكا. وفي العام 1861، استدعاه متصرف جبل لبنان، ليعينه مدعياً عاماً في لبنان.

خلال توليه القضاء، عالج أموراً شرعية كثيرة، وحلّ مشاكل شرعية دينية عدّة، وكثير منها كان يُنشر على صفحات الجرائد، وقيل إنها لو جُمعت في كتاب لكانت مجلداً ضخماً.

مراسم الغياب

في بيروت، توفّي الشيخ النهضوي، في العام 1889، عن عمر يناهز السبعة والسبعين عاماً.

يقول الخبر: شُيّع الشيخ يوسف إلى مقرّه الأخير، إذ بعد الصلاة عليه في الجامع العمري الكبير في بيروت، سار موكب جنازته بالترتيب التالي:

تلامذة المدارس الابتدائية، فحراس البلدية والشرطة، وعناصر الدرك (الجندرما)، وثلّة من الجند، مشاةً وفرساناً، ويليهم حفظة القرآن، ومشايخ الطرق الصوفية، بأعلامهم، وأخيراً جموع الناس، من أهله وأصدقائه ومحبيه.

وكان نعش الفقيد محمولاً على أكفّ طلبة العلم، يحيطون بالنعش، وبين جموع المشيعين، حاكم بيروت التركي، والمفتي، ووجهاء وأعيان من الطوائف كافة، حتى واروه الثرى في جبانة الباشورة.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى