الصندوق البلديّ المستقل: بلديّات بلا تمويل تتسوّل لسدّ الاحتياجات

على رغم الأزمات الماليّة الخانقة التي تعصف بالبلديّات، والتي وصلت في بعض الحالات إلى حدّ عدم تجاوز مدخول البلديّة السنويّ من الصندوق البلديّ المستقلّ– المخصّص من الدولة – ألف دولار فقط، إلّا أنّ ذلك لم يمنع من الإقبال على الترشّح والمشاركة في المعارك الانتخابيّة.
يعاني الصندوق البلديّ المستقلّ من ضعف في التمويل وتأخّر في الدفع، إذ تتقاضى البلديّات مستحقّاتها بعد عامين على الأقلّ من رصدها، وبمبالغ زهيدة لا تفي بأبسط الحاجات التشغيليّة. هذا الواقع دفع بعض رؤساء البلديّات، بحسب ما أفادوا في مقابلات خاصّة مع “مناطق نت” إلى وصف الوضع بـ “التسوّل من أصحاب الأيادي البيضاء”، بينما اضطرّ آخرون إلى الاعتماد على المنح الخارجيّة لتسيير الشؤون العامّة، ما حوّل العمل البلديّ في لبنان إلى إدارة مرتبطة بالإغاثة لا بالتنمية.
نصف البلديّات “تحت خطّ الفقر”
كشف تقرير صادر عن “الدوليّة للمعلومات” أنّ 529 بلديّة في لبنان– أيّ ما يعادل نصف عدد البلديّات– تتلقّى أقلّ من 250 مليون ليرة لبنانيّة سنويًّا من عائدات الصندوق البلديّ المستقلّ، وهو مبلغ لا يكفي لتغطية مصروف عائلة متوسّطة الحال مدّة شهرين، فكيف ببلديّة تتحمّل مسؤوليّات تشمل صيانة الطرق، وإصلاح شبكات الصرف الصحّيّ والمياه، فضلًا عن إدارة مختلف شؤون الخدمات المحلّيّة؟
529 بلديّة في لبنان تتلقّى أقلّ من 250 مليون ليرة سنويًّا من عائدات الصندوق البلديّ المستقلّ، وهو مبلغ لا يكفي لتغطية مصروف عائلة متوسّطة الحال لشهرين
في هذا الإطار يشير الباحث في “الدوليّة للمعلومات” محمّد شمس الدين إلى أنّ “البلديّات تعاني من تأخير مزمن في استلام مستحقّاتها من الدولة اللبنانيّة، إذ يُدفع لها بمتوسّط تأخير يراوح بين سنتين وثلاث سنوات”. ويتابع لـ “مناطق نت”: “إنّ الدولة تجبي الضرائب على أساس سعر صرف يبلغ 89 ألف ليرة للدولار الواحد، بينما تُحاسب البلديّات على أساس السعر الرسميّ القديم البالغ 1500 ليرة، ما يفاقم من الاختلال الماليّ ويزيد من عجز البلديّات”.
أمّا على مستوى التوزيع، يوضح شمس الدين أنّ “البلديّات الكبرى تستحوذ على الحصّة الأكبر من عائدات الصندوق، وذلك بموجب المرسوم رقم 14492 الصادر في 18 كانون الأوّل 2024، والذي ينصّ على آليّة توزيع العائدات عن العام 2022 وفق الآتي: 78 في المئة من العائدات توزّع نسبيًّا بحسب عدد السكّان المسجّلين في سجلّات الأحوال الشخصيّة لكلّ بلديّة، و22 في المئة توزّع بناءً على الحاصل الفعليّ للرسوم المباشرة التي جُبيت خلال السنتين السابقتين لسنة التوزيع. بينما يُوزّع 10 في المئة بالتساوي على البلديّات التي لا يتجاوز عدد سكّانها 4000 نسمة، ولم تتجاوز قيمة رسومها المباشرة مليار ليرة في السنتين السابقتين”.
ويرى شمس الدين أنّ “غياب العدالة في توزيع عائدات الصندوق البلديّ المستقل، أدّى إلى تصنيف نحو 58 في المئة من البلديّات اللبنانيّة كبلديّات فقيرة، إذ لا تتجاوز إيراداتها السنويّة 250 مليون ليرة، ما يجعلها عاجزة عن تلبية الحدّ الأدنى من الأعباء الملقاة على عاتقها”.
البلديّات والقانون
ويشير شمس الدين إلى أنّ “قانون البلديّات يمنح المجالس البلديّة صلاحيّات واسعة تشمل كلّ ما يتعلّق بالمنفعة العامّة، كإدارة المدارس والمياه والكهرباء ورعاية المسنّين والحضانات وغيرها، ممّا يجعل البلديّة بمثابة “حكومة محلّيّة” من دون أيّ تمويل فعليّ، وهو ما يفسّر حالات الفشل المتكرّرة في أداء هذه المؤسّسات”.

انطلاقًا من هذا الواقع، يشدّد شمس الدين على “ضرورة إعادة النظر في آليّة توزيع عائدات الصندوق البلديّ المستقلّ، إذ إنّ البلديّات الكبرى التي تتمتّع بقدرات ماليّة وإيرادات ذاتيّة كافية تحصل على الحصّة الأكبر، فيما تُترك البلديّات الصغيرة التي لا تملك مصادر دخل ولا حتّى عقارات أو مصالح لتجبى منها الضرائب، إلى مصيرها المجهول”.
ويعتبر شمس الدين أنّ “هذا الخلل يدفع إلى التساؤل حول جدوى وجود هذا العدد الكبير من البلديّات، إذ يبلغ عددها حاليًا 1,064 بلديّة، نحو 42 في المئة منها تصنّف كبلديّات صغيرة. ومن هنا تأتي الدعوات المتكرّرة إلى دمج هذه البلديّات مع بلديّات مجاورة، بما يتيح لها تكوين كيان أكبر وأكثر قدرة على تحصيل الموارد وتحقيق الفعاليّة الماليّة والإداريّة”.
توزيع العائدات
وفي ما يخصّ توزيع العائدات التي صرفت أواخر العام 2024 عن مخصّصات العام 2022، يوضح شمس الدين أنّ “مجموع الأموال المخصّصة بلغ 855 مليار ليرة لبنانيّة. من هذا المبلغ، خُصّصت 12 في المئة لاتّحادات البلديّات، فيما بلغت حصّة البلديّات نحو 80 مليار ليرة، وإذا ما حُسم منها خمسة في المئة مخصّصة للدفاع المدنيّ، يتبقّى 715 مليار ليرة”.
يتابع شمس الدين “عند اقتطاع 10 في المئة لتوزيعها على البلديّات الصغيرة، يتبقى 643 مليار ليرة، حصلت بلديّة بيروت وحدها على أكثر من 10 في المئة منها، في حين تُظهر أرقام أقضية مثل بعبدا، التي تضمّ 49 بلديّة، أنّ تسع بلديّات فقط استحوذت على الحصّة الأكبر”. ويختم مؤكّدًا أنّ “هذه التوزيعات غير عادلة، إذ تصبّ في مصلحة البلديّات الكبرى على حساب الصغرى، ما يعمّق الفجوة في التنمية المحلّيّة”.
مسؤوليّات تتّسع والموارد تتقلّص
من ناحيته يروي رئيس بلديّة الزلّوطيّة في قضاء صور عماد الدياب، كيف أثّرت الأزمة الاقتصاديّة على قدرة البلديّات في تأدية مهامها. ويتابع في حديث لـ “مناطق نت”، إلى أنّ “بلديّة بحجم بلدتي كانت قبل الانهيار الماليّ تعتمد على مصدرين أساسيّين للعائدات، الأوّل هو تحويلات وزارة الداخليّة التي كانت تراوح بين 60 و80 مليون ليرة، والثاني من عائدات الصندوق البلديّ المستقلّ، والتي لم تكن تتجاوز الـ 20 مليون ليرة. وكان هذا المبلغ الإجماليّ (نحو 100 مليون ليرة) كافيًا لإدارة شؤون قرية لا يتعدّى عدد ناخبيها 350 ناخبًا”.
ويضيف الدياب “مع تدهور قيمة الليرة، تقلّصت العائدات وباتت البلديّات تعتمد فقط على الصندوق البلديّ المستقلّ، الذي بقيت مخصّصاته على حالها، وفي حالة الزلّوطيّة، أصبح المبلغ المخصّص للبلديّة وهو 20 مليون ليرة، يعادل 200 دولار أميركيّ فقط، ما حوّل عمل أعضاء البلديّة إلى جهد تطوّعي بالكامل”.
وبسخرية لاذعة، يعلن الدياب رفضه الترشّح مجدّدًا إلى الانتخابات القادمة، واصفًا موقع رئيس البلديّة بأنه “مسؤوليّة بلا مقوّمات دعم”، بخاصّة بعد الحرب الأخيرة التي دمّرت القرية بالكامل.
ويشرح الدياب أنّ الأعمال الإداريّة اليوميّة يجريها من خلال حاسوبه الشخصيّ، بينما تصرف مخصّصات البلديّة على أعمال الصيانة الضروريّة فقط.
حصلت بلديّة طرابلس على نحو 60.2 مليار ليرة، أيّ ما يعادل نحو 60 ألف دولار أميركيّ، وهو مبلغ زهيد مقارنة بحجم المدينة واحتياجاتها
طرابلس مدينة بإمكانات متواضعة
في المقابل، وبالنظر إلى البلديّات الكبرى، فقد حصلت بلديّة طرابلس على نحو 60.2 مليار ليرة، أيّ ما يعادل نحو 60 ألف دولار أميركيّ، وهو مبلغ زهيد مقارنة بحجم المدينة واحتياجاتها. ورفض مسؤولو البلديّة التعليق على الموضوع، لكنّ مصادر محلّيّة أكدّت لـ “مناطق نت” أنّ ضعف الجباية سببه مراعاة الأوضاع الاقتصاديّة للتجّار وأصحاب المحال، ما دفع البلديّة إلى الاعتماد على تمويل خارجيّ، عبر منح من جهات محلّيّة ودوليّة، ومنظّمات غير حكوميّة، في ظلّ شحّ التحويلات الحكوميّة.
بلديّة الرجمة: “أشرف لو لم تُرسل الأموال”
بدوره، يقول رئيس بلديّة الرجمة في قضاء عاليه، مارون شلهوب إنّ “البلديّة تسلّمت من الصندوق البلديّ المستقلّ مخصّصات عن العام 2022 لا تتجاوز ألف دولار”. تابع ساخرًا لـ “مناطق نت”: “لو لم تُرسل هذه الأموال لكان أشرفَ لهم”. موضحًا أنّ “البلديّة تحتاج إلى ما لا يقلّ عن ثلاثة مليارات ليرة لتغطية نفقاتها، في حين أنّ الإنفاق يتمّ على أساس سعر صرف السوق، بينما تحسب الدولة مستحقّات البلديّات على أساس 1500 ليرة للدولار”.
ويؤكّد شلهوب أنّ البلديّة اعتمدت على دعم أصدقاء ومموّلين من القطاع الخاص، مضيفًا: “نعيش على الشحادة”، في إشارة إلى العجز شبه الكامل في التمويل. ويلفت إلى أنّ “الضرائب العقاريّة التي كانت تُجبى سابقًا بمعدّل 50 دولارًا سنويًّا، انخفضت حاليًّا إلى نحو 720 ألف ليرة، أيّ 8 دولارات فقط، ممّا أدّى إلى انهيار أحد أبرز مصادر التمويل المحلّيّ، في حين تتركّز الجباية اليوم من الإعلانات ورخص البناء، لكن المعضلة تبقى في أنّ كلّ الضرائب تُجبى بالليرة، في حين أنّ النفقات تُدفع بالدولار”.
بو غاريوس: البلديّات تعاني من انخفاض كبير في القيمة الفعليّة للأموال المستلمة بسبب التضخّم الحادّ وانهيار سعر صرف الليرة. كذلك فإنّ تأخير صرف المستحقات يفقد هذه الأموال جزءًا كبيرًا من قيمتها،
ويشير شلهوب إلى أنّ “عدد الناخبين المسجّلين في القرية لا يتجاوز 400 شخص، بينما يتراوح عدد السكّان الفعليّين– بينهم مستأجرون من خارج البلدة– بين سبعة وثمانية آلاف نسمة. وتقوم البلديّة برفع نحو ستّة أطنان من النفايات يوميًّا، في وقت لا تتجاوز فيه عائدات الدولة لها ألف دولار سنويًّا”.
أرقام التوزيع تفضح التفاوت
من ناحيتها، تشير مديرة البرامج في “مبادرة غربال”، كلارا بو غاريوس، في حديثها إلى “مناطق نت”، إلى أنّ “توزيع أموال الصندوق البلديّ المستقلّ عن العام 2022 – والتي تمّ صرفها في العام 2024 – عكس تفاوتًا كبيرًا بين المحافظات. فقد حصلت محافظة جبل لبنان على الحصّة الأكبر بقيمة 214 مليار ليرة، تلتها محافظة بيروت بـ 147.6 مليار ليرة، ثمّ محافظة لبنان الشماليّ بـ 156 مليار ليرة”.
وبحسب أرقام وزارة الداخليّة، تمّ تسجيل 126 بلديّة منحلّة، في مقابل تقديم طلبات لإنشاء 34 بلديّة جديدة.
وأوضحت بو غاريوس أنّ “البلديّات تعاني من انخفاض كبير في القيمة الفعليّة للأموال المستلمة بسبب التضخّم الحادّ وانهيار سعر صرف الليرة. كذلك فإنّ تأخير صرف المستحقات –الذي يتراوح بين سنتين وثلاث– يفقد هذه الأموال جزءًا كبيرًا من قيمتها، ما يضطرّ البلديّات إلى رفع الرسوم في محاولة لتعويض العجز.
وتُظهر الأرقام أنّ سنة 2022 كانت الأعلى من حيث حجم التحويلات، إذ بلغت 1.2 تريليون ليرة وصُرفت في العام 2024. تلتها سنة 2019 التي تمّ دفع عائداتها في الـ 2021 بقيمة 355 مليار ليرة، ثمّ سنة 2018 التي صُرفت مخصّصاتها في 2020 بقيمة 501 مليار ليرة.
أمّا البلديّات التي نالت الحصّة الأكبر من مخصّصات العام 2022، فقد تصدّرتها بلديّة بيروت بـ167 مليار ليرة، تلتها بلديّة طرابلس بـ 60 مليار ليرة، ثمّ بلديّة صيدا بـ 20.5 مليار ليرة، فبلديّة زحلة – المعلّقة بـ 23 مليار ليرة، وأخيرًا بلديّة سنّ الفيل بـ 14.8 مليار ليرة.
“أُنتج هذا التقرير بالتعاون مع المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية DRI، ضمن مشروع أصوات من الميدان: دعم الصحافة المستقلة في لبنان”.