“الطرق” البعلبكي…فرادة “التطريزة” تستهوي المشاهير والأسواق العالمية

ما إن تستيقظ السيدة حياة الرفاعي (58 عامًا)، حتى تسارع إلى إتمام أعمالها المنزلية الصباحية اليومية (غسيل، تنظيف، إعداد طعام، ترتيب)، فهي عادة تبدأ نهارها باكرًا، لتكسب ما أمكن لها من وقت، لتتفرّغ في بقية يومها للعمل في مشغلها الحرفي الذي يقع بالشقّة الملاصقة لمنزلها في بعلبك.

ولتسيير عمل مشغلها، وقبل أن تستدعي السيدات والصبايا اللواتي يعملن معها (أغلبهن أرامل وأيتام وممن ليس لديهنّ أعمال يترزّقن منها ويكون العدد تبعًا للمشروع)، تقوم حياة بتحضير الأقمشة والأبر والخيوط وغيرها مما يتصل بالإنتاج اليومي. لكن مشغل حياة ليس مصنعًا للألبسة، إنما هو مشغل مخصّص لنوع مميز من التطريز، تنفرد به مدينة بعلبك منذ زمن ويُسمى “الطرق” أو (tarq) البعلبكي، ونسبته لبعلبك لتمييزه عن أنواع “الطرق” الأخرى.

بحسب صفحة تاريخ الأزياء اللبنانية، فإن “الطرق” البعلبكي الذي تشتهر به منطقة بعلبك، هو نوع خاص “من التطريز، والذي يشار إليه باسم tarq. يُستخدم في الـ Tarq فقط خيوط من الذهب الخالص أو الفضة بدون بوليستر أو أي خلائط أخرى، ولكن مع معدن نقي. بعد كل غرزة، تقوم العاملة بإدخال الإبرة مع الخيط في ضربة سريعة لتشكيل الغرزة ثم يتم قطع الخيط. “Tarq” تعني “الضربة” ويتم تصنيعها بعد أن تمر الإبرة عبر القماش لتشكّل طوقًا، ثم يقوم المطرّز بضغطه للانحناء. تتبع الغرز شكلاً معينًا مصممًا، وعادة ما تكون هندسية في الشكل”.

“الطرق” البعلبكي الذي تشتهر به منطقة بعلبك، هو نوع خاص “من التطريز، والذي يشار إليه باسم tarq. يُستخدم في الـ Tarq فقط خيوط من الذهب الخالص أو الفضة بدون بوليستر أو أي خلائط أخرى، ولكن مع معدن نقي

بالرغم من الشهرة العالمية لـ”الطرق” البعلبكي، واحتلاله مكانة مهمة في تاريخ الأزياء اللبنانية، لم يرد ذكره في المؤلفات التاريخية الخاصة ببعلبك، لا في تاريخ بعلبك لميخائيل موسى ألوف، ولا في تاريخ بعلبك للدكتور حسن نصرالله ولا في غيرهما، مع أن التاريخ الشفوي لـ “الطرق” البعلبكي يمتد عميقًا في الزمن، وتناوبت عليه حوالى 5 أجيال من النساء بأقل تقدير.

تقول حياة التي تعلمت من عماتها “الطرق”، إن هذه الحرفة جاءت إلى بعلبك عن طريق سيدة تركية إبّان الحكم العثماني، وهذه السيدة هي التي نقلت “سرّ الحرفة” إلى السيدات البعلبكيات.

نموذج من تطريز “الطرق” البعلبكي

وبحسب ما تقول حياة إن عمّات أبيها كنّ من بين اللواتي أخذن حرفة “الطرق” من السيدة التركية، وقمنّ بدورهنّ بتوريث هذه الحرفة إلى عمّات حياة، وهنّ ثلاث شقيقات “فطومة وخندوز وأسما”، ومع ازدهار عملهنّ، افتتحت فطومة مشغلاً في منزلها، وتولّت فيه تعليم صبايا وسيدات من بعلبك وجوارها حرفة “الطرق”، مقابل بدل تتقاضاه منهنّ، وكان الإقبال على تعلّم هذه الحرفة من كل العائلات البعلبكية تقريباً (الصلح، شلحة، عساف، الشل ورعد..). لكن لم يكن دافع المتعلّمات تجاريًا أو بحثًا عن فرصة عمل فقط، فهناك فتيات وسيدات كنّ يتعلّمن حرفة “الطرق” من أجل تجهيز أنفسهنّ أو بناتهنّ للزفاف أو ما يدخل في باب الاستهلاك الشخصي.

بافتتاحهنّ ذاك المشغل، يمكن القول أن عمّات حياة (فطومة وخندوز وأسما)، قد مأسسن (جعلنها مؤسسة) حرفة “الطرق” البعلبكي، لكن من خلال نصيحتهنّ لبنات شقيقهنّ بعدم امتهان هذه الحرفة، يشي بأن مكاسبهن المادية من “الطرق”، كانت ضئيلة، أو  أنهنّ لم يحصلن منها على ما يعادل تعبهنّ فيها، كنّ يعتبرن هذه الحرفة “كار المشحرين”، أي لا فائدة مادية منها يمكن التعويل عليها.

على ما تقول حياة وزعت عمّاتها مهام العمل فيما بينهن، فكانت خندوز تتولى شراء عدّة ولوازم المشغل، فهي من تشتري الأقمشة من سوق بعلبك، وكانت تبتاع الحرير والجرجير من أفضل المحلات وقتذاك، وهي يحفوفي وسركيس وقرعة، أما الإبرة فكان يتم شراؤها من أرمني محترف بصنعها، وكان محله فوق ما كان يُسمى سينما أمبير. بينما الخيط كان يُصنع في ألمانيا، ويؤتى به عبر الوكلاء في الشام وحمص.

أما أسما كانت توضّب الاقمشة وتعيد حبك أي قطبة بحال إفلاتها وتقوم بتنعيمها لكي لا تجرح أثناء اللبس. في حين عهدن عملية التسويق إلى أنطوان شامية الذي كان يملك محلاً للأقمشة وهو بدوره يصدرها إلى فرنسا. وبالوقت عينه كانت توضع البضاعة كالفساتين والشالات ببيت المحترف بعين المريسة.

عام 1960 عُيّنت “فطومة” مدرّبة في وزارة الشّؤون فدربت الصبايا والسيّدات، ما أدّى إلى انتشار هذه الحرفة انتشارًا واسعًا فأصبحت تتركّز أيضًا في بلدات عرسال ومعربون والفاكهة. مع ذلك استمرت مشكلة فطومة وشقيقتيها في الوصول لزبائن “الطرق” البعلبكي مباشرة من دون دفع عمولات باهظة للوسطاء.

تقول حياة إن إحدى سيدات بعلبك من آل الرفاعي كانت تعلمت الحرفة عند عماتها، نجحت عبر معارف زوجها في نظم علاقات تجارية مع سيدات من الطبقات الغنية والمجتمع المخملي والوسط الفني لبيعهنّ منتجات “الطرق” البعلبكي، فصارت تشتري البضاعة وتبيعها لفرق الدّبكة والشّخصيّات المرموقة والمشاهير. وتضيف حياة أن السيدة المذكورة كانت تتكتم على اسماء زبائنها، لكن أسما (عمّة حياة) عرفت أن فرقة كركلا الشهيرة كانت من بين هؤلاء الزبائن.

كما تنقل حياة عن عمّاتها أن سيدة أخرى هي أيضًا من بعلبك، مع أنها لا خبرة ولا معرفة لها بحرفة “الطرق”، لكن بحسها التجاري ومهارتها في التسويق، نجحت في الاستثمار على منتجات “الطرق” البعلبكي. وكان قد مهّد لاستثمارها الناجح، معرفتها بشخصيّات مرموقة وانفتاح أبواب المجتمع المخملي أمامها، فباعت الأقمشة والألبسة بأسعار خياليّة للمشاهير أمثال زوجة وليد جنبلاط. كما افتتحَت متاجر عدّة في دبي وباريس وبيروت.

سيدة من بعلبك، نجحت في الاستثمار على منتجات “الطرق” البعلبكي. من خلال معرفتها بشخصيّات مرموقة وانفتاح أبواب المجتمع المخملي أمامها، فباعت الأقمشة والألبسة بأسعار خياليّة للمشاهير أمثال زوجة وليد جنبلاط. كما افتتحَت متاجر عدّة في دبي وباريس وبيروت

كانت العمّات الثلاث (فطومة وخندوز وأسما) يشعرن أن ما يتقاضينه من أجر وأثمان منتوجاتهنّ لا يعادل تعبهنّ، فلم يشجعنّ بنات شقيقهنّ (حياة وصباح ونفيسة) على تعلم الحرفة، غير أن الأخيرات لم يأخذن بنصائح العمّات، فقد شعرن بانجذاب داخلي إلى هذه الحرفة، فكنّ يتسللنّ إلى غرفة المشغل خلسة، ويتدربنّ ببقايا الخيوط إلى أن امتهنّ الحرفة وكنّ بحق ورثة من سبقهنّ إليها.

قبل وفاة العمّات الثلاث في تسعينيات القرن الماضي، كانت كل من حياة وصباح ونفيسة أتقنّ إدارة المشغل والاستمرار بالانتاج، وكنّ يصنعن الفساتين لبنات الاطباء والمهندسين ولآل القنواتي (أسرة ميسورة ماديًا)، على الرغم من أنهنّ كنّ يتعرضنّ للتأنيب من أزواجهنّ تحت حجج أن العمل للرجال والنساء للمطبخ وتربية الاطفال، مع ذلك كنّ يقمن بالعمل بالليل أو اثناء انشغالاتهنّ المنزلية.

سيدة تلبس عباءة مطرزة بالـ “الطرق” البعلبكي

خلفت “صباح” عمتها فطومة على مركزها في وزارة الشؤون، والتطور الأبرز هنا، كان عرض منتوجات “الطرق” البعلبكي في معرض الوزارة نفسها، وكانت مناسبة مهمة للتواصل مع السيدة كوليت سابا المفوضة لدى السفارة الفرنسية، حيث ساعدت بنقل البضائع من “الطرق” إلى الخارج والتجوّل بها في أنحاء اوروبا.

آخر دورتين نظمتهما حياة، الأولى oti دامت 4 أشهر وقد شاركت فيها 38 شابة، والثانية كانت بالمشاركة مع منظمة “مرسي كوربس” شاركت فيها 25 شابة، وفي كلا الدورتين كان الإنتاج رائعًا. لكن تتهم حياة الجمعيات التي تعتني بالارتيزانا البعلبكية أو الإضاءة على دور النساء البعلبكيات في تشكيل الهوية الجمالية للمدينة، بتغليب النفس التجاري على حماية هذا الفن التراثي والنسوي، وتقول لم تستطع هذه الجمعيات تنظيم معرض أو تأسيس متجر لـ”الطرق” البعلبكي، ولم تنجح في تعزيز مردود العاملات بهذه الحرفة، خصوصًا أن العاملة بالكاد تنتج قطعة أو قطعتين في الشهر يختلف سعر الواحدة منها تبعًا لنوعيتها وتتراوح بين المليون وال 5 ملايين ليرة لبنانية.

ما زالت حرفة “الطّرق” مستمرّة في بعلبك، وباتت جزءًا من التاريخ الفني للمدينة، واتسعت قاعدة العاملات بها، وما زالت شهرتها معروفة في لبنان والخارج وخصوصًا أوروبا، وليس المطلوب إعادة تسويقها فقط، ولا تحتاج إلى خطاب إعلاني، فحرفة الـ “الطرق” البعلبكي شهرتها من ذاتها ومن ماضيها وهي كافية، إنما المطلوب إعادة النظر بطريقة تسويقها وتصريف انتاجها، وإنصاف العاملات بها ماديًا بتقدير عادل لأتعابهنّ، وعدم استغلالهنّ، والتوقف عن الاستثمار على جهلهنّ بالأسواق والزبائن أو عجزهنّ عن الاختلاط مع الطبقات المخملية والمشاهير، وإلّا فقدت بعلبك ما يدخل ضمن “الأجمل” في هويتها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى