العاصي عصب حياة الهرمل.. مسامك ومقاهٍ وسياحة مهمشة
تنطلق كلّ الأنهار اللّبنانيّة من الشّمال وتصبّ في الجنوب، إلا ذلك النّهر الّذي شكّل عصب حياة منطقة الهرمل وكان عاصيًا للطّبيعة، فانطلق من الجنوب إلى الشّمال وبهذا سُمّيَ نهر “العاصي”. في الطّريق إلى الهرمل تستقبلك المنطقة بمساحات قاحلة شاسعة، يغيب عنها اللون الأخضر. فطبيعة الأرض هناك مائلة إلى الصحراوية، والجبال التي تسيّج المنطقة جرداء بمعظمها. ولكن، ما إن ترمي ببصرك إلى الأسفل، تظهر لك واحة خضراء واسعة، على امتداد نهر العاصي الذي ينبع ويمر في الهرمل وصولًا إلى سوريا، ليصب ختامًا في البحر الأبيض المتوسط.
من الأعلى، يبدو المشهد كخط حياة في بقعة ميتة، فالأمطار نادرةٌ شتاءً، والصيف جاف وحار، ومصدر المياه الوحيد هو العاصي الذي يغذي الأرض من حوله، سواء من خلاله أو من خلال الينابيع الصغيرة والسواقي الّتي تمرّ في الوديان، ما يبثّ الحياة ويؤكّد إمكانيّة الزّراعة في المكان.
يمكن القول أن العاصي وهب الحيوية للهرمل، ولولاه كانت الحياة اتخذت شكلًا آخر، فبالإضافة إلى كونه مصدر المياه الوحيد للإستهلاك، يُعدّ أيضًا المحرك الأساسي للعجلة الإقتصادية القائمة على الزراعة وصيد الأسماك. فمزارع الأسماك منتشرة بشكل واسع في العاصي، بالإضافة إلى السياحة التي بدأت مع الوقت تتوسع وتتطور لتستقطب أكبر عدد ممكن من السيّاح على اختلافهم، وقد واكب ملّاك الأراضي الواقعة على ضفاف العاصي هذا التطور فحوّلوها من مساحات فارغة إلى متنزهات ومقاهٍ ومطاعم وصالات أفراح وأماكن قابلة للحياة والاصطياف.
على ضفاف العاصي
كان أبناء الهرمل قديمًا يتوجهون إلى الأراضي المحيطة بالعاصي حاملين معهم المونة، يفرشون الأرض بالحصائر ويجلبون طعامهم ومسلتزمات السباحة، ويقومون بإشعال النار ليلًا لتحضير الشاي والقهوة وما شابه. مع الوقت، توسّعت الأراضي وبدأت استثمارات المقاهي تحتلّ واجهة العاصي، فلم يعد أهل المنطقة بحاجة لافتراش الأرض بالحصر الّتي استُبدلَت بالكراسي والطّاولات.
معظم الأراضي المجاورة للعاصي متوارثة أبًا عن جد، في حين هناك القليل منها هو مساحة عامة، وهي الأراضي التي يُعتبر الوصول إليها صعبًا وخطرًا، نظرًا للطّريق الوعرة ولطبيعة المياه الضحلة، الّتي لا تصلح للصيد أو السباحة أو الإستثمار. أما الأراضي المملوكة فمنها ما هو مستثمر سياحيًا أو زراعيًا ومنها ما هو متروك على حاله. في حين هناك بعض الملّاك الذين توارثوا الأرض لكنهم لم يستثمروها أو يعتنوا بها ولم ينصرفوا إلى بيعها حتى، وذلك لأنّها لا ترقى لتكون استثمارًا ناجحًا، فيختار ملّاكها بناء منزل صغير يلبي حاجات الزوار وأصحاب الأرض، بالقدر المقبول.
كان أبناء الهرمل قديمًا يتوجهون إلى الأراضي المحيطة بالعاصي حاملين معهم المونة، يفرشون الأرض بالحصائر ويجلبون طعامهم ومسلتزمات السباحة، ويقومون بإشعال النار ليلًا لتحضير الشاي والقهوة وما شابه
في المقابل، هناك أراضٍ تقع على نقاط حيوية كالينابيع والشلالات، حيث منسوب المياه ملائم للسباحة والأنشطة المائية الأخرى. ولعل أولّ المشاريع الّتي استُثمرَت في تلك البقعة الجغرافيّة كانت لأنّها مناسبة لاجتذاب أبناء المنطقة الهاربين من الحرّ، قاصدين ضفاف العاصي للانتعاش ولتمضية أوقات ممتعة مع العائلة والأصدقاء.
بنيت أوّل المقاهي على العاصي بطريقة بسيطة مكتفيّة بالطاولات والكراسي، واقتصرت الخدمات فيها على تقديم الطعام خصوصًا المشويات والسمك، والشاي والقهوة، وبعض المقاهي كانت تكتفي بتأجير المعدات اللازمة لتحضير الطعام عند الرغبة، واستيفاء مبلغ معين من المال مقابل الطاولة الواحدة، أو بحسب عدد السيارات، أو الكراسي. ما تزال هذه الخدمة موجودة في حال رغب الزبائن بتحضير طعامهم الخاص دون التّمتّع بالخدمات الّتي يقدمها المكان.
مع التحولات الاجتماعية التي طرأت على منطقة بعلبك-الهرمل وبعد عودتها إلى الخارطة السياحية، بدأ أصحاب الأراضي المجاورة للعاصي بناء وتطوير مشاريعهم، وقد ارتفع عدد المقاهي والمطاعم والمنشآت بشكل ملحوظ في السّنوات الأخيرة، وتنوعت الخدمات المقدمة، سواء من حيث الطعام والمشروبات التي أصبحت تشمل العديد من الأصناف والأنواع لتلبية كلّ الأذواق، أو من حيث المساحة لاستقبال أعداد أكبر، وتأمين كل ما يمكن أن يحتاجه الزوار على اختلافهم، من عائلات وشبان وأطفال، لا سيما القادمون من مناطق بعيدة، على اعتبار أن الهرمل تقع على الحدود.
“الرافتينغ” على العاصي
بالإضافة إلى بناء المقاهي والمطاعم، شرع الملّاكون بإقامة خيم، وبناء غرف مفردة ومشتركة للمنامة على ضفاف العاصي مباشرة، بحيث يسهل على الزائر التنقل من غرفته إلى حيث يمضي وقته، وهي مطلب السيّاح والزوار من فئة الشباب، الذين يرغبون بتمضية الليل ساهرين قرب النهر. في حين لجأ البعض إلى بناء غرف مطلة على النهر، لكنها على مسافة كافية تضمن الهدوء ليلًا، وهي غالبًا للعائلات والأولاد.
مع تطور السياحة في الهرمل، سعت معظم المقاهي إلى تأمين مستلزمات الأنشطة السياحية كافة، أهمها “الرافت” الذي ذاع صيته وصار مقصدًا للسياح، ولأن “الرافت” يستلزم قطع مسافة طويلة نسبيًا مرورًا بالشلالات، تعاون أصحاب المقاهي الواقعة في نقاط مناسبة، للانطلاق مع أصحاب المقاهي الأخرى الّتي لا يسمح موقعها لإقامة الرّافت، فصار بإمكان السيّاح اختيار المقهى الذي يناسبهم. وعند الرغبة يتم نقلهم عبر “فان” صغير أو سيارة رباعية الدفع ملائمة للطرقات الوعرة، وعند انتهاء “الرافت” يكون الشخص المسؤول عن النقل منتظرًا في نهاية الطريق لإعادة الزوار إلى المقهى الذي انطلقوا منه.
لم يقتصر الأمر على هذه الخدمات، فقد عمد بعض أصحاب المقاهي، إلى تقديم خدمة تأجير المكان كاملًا لإحياء المناسبات وحفلات الزفاف والخطوبة، لذلك يلجأ معظم أهالي الهرمل إلى إقامة أعراسهم على ضفاف العاصي، ويتولّى أصحاب المكان مسؤولية تجهيزه بحسب رغبة المستأجر، فيؤمّن المقاعد اللازمة والطعام وقالب الحلوى ومنصة العرسان والمفرقعات النارية مقابل مبلغ معين من المال، بحيث لا تتكبد العائلة أي مشقة وعناء خلال حفل الزفاف.
مساحات آمنة
يسعى أصحاب المقاهي إلى خلق أجواء من الراحة والأمان للزوّار والسّياح، وتقديم صورة مغايرة لما يفترضه الزائرون من خارج الهرمل، وقد أتاحت هذه الأماكن فرصة حقيقية لأبناء المنطقة لكسر الصورة النمطية التي رافقتهم لسنوات طويلة. وكان لهذا الاندماج أثره على المدينة، بحيث يمكن ملاحظة التطور الذي طالها خلال العقد الماضي، على صعيد قطاع المقاهي والمطاعم، وأماكن الترفيه، وهو ما كان غائبًا في الماضي.
يسعى أصحاب المقاهي إلى تقديم صورة مغايرة لما يفترضه الزائرون من خارج الهرمل، وقد أتاحت هذه الأماكن فرصة حقيقية لأبناء المنطقة لكسر الصورة النمطية التي رافقتهم لسنوات طويلة
تحكي “رقية” لـ “مناطق نت” عن رحلتها مع العاصي، وكيف تحولت من زائرة مؤقتة في المدينة إلى شريكة في أحد المقاهي فيه، بعد أن اختارت “الهرمل” مادة بحثية لمشروع تخرجها في اختصاص “علم الإنسان”، وقد استقرت لأشهر في إحدى غرف المقهى نفسه. ذلك المقهى الذي كان عاديًا، تحول إلى لوحة فنية، بعد أن أضافت لمستها الخاصة عليه، من خلال رسومات على الجدران وتعليق لوحات فنية وزينة وأضواء ليلية، وقد نالت هذه الخطوة استحسان الزوار الذين سارعوا لالتقاط الصور، ونشرها، وأصبح المكان مقصدًا للناس لاختلافه عن المقاهي الأخرى.
تقول رقيّة: “لم تكن هذه الخطوة في حساباتي، لكنني تشجعت بعد التفاعل الذي نالته هذه الإضافات في المقهى. الناس في الهرمل يحبون الحياة ويستحقونها، ولديهم رغبة برؤية أشياء جديدة، وقد سعينا لتطوير المكان ليلبي أذواقهم، دون التعدي على طبيعته الأصلية. حوّلنا المقهى والاستراحة إلى ما يشبه البيت الذي يقصده الناس بحثًا عن الجمال والترفيه، ونحن مستمرون في هذا السعي”.