العمالة السوريّة في الصناعة اللبنانيّة.. البقاع نموذجًا
عاملان أساسيّان كانا وراء تمركز اللجوء السوريّ في البقاع، الأوّل القرب الجغرافي من سوريّا، والثاني توافر فرص العمل في القطاعين الزراعيّ والصناعيّ، إذ تضمّ محافظة البقاع عددًا كبيرًا من المصانع في لبنان، والتي تلعب دورًا محوريًّا في الاقتصاد الوطنيّ.
تتنوّع هذه المصانع بين معامل تصنيع المواد الغذائيّة، خصوصًا الألبان والأجبان، وبين تلك التي تعالج الموادّ الأوّليّة مثل الكرتون والبلاستيك وشركات الفحم والمياه وغيرها.
مع تزايد أعداد اللاجئين السوريّين، أصبحت هذه المصانع والشركات تعتمد بشكل كبيرّ على العمالة السوريّة لتلبية احتياجاتها التشغيليّة. أحد الأسباب الرئيسة لهذا الاعتماد، هو التباين الكبير في الأجور بين العمالة السوريّة والعمالة اللبنانيّة؛ إذ يتقاضى معظم العمّال السوريّين في البقاع أجورًا تراوح بين 120 و250 دولارًا كراتب شهريّ، مع ساعات عمل تتجاوز الثماني ساعات يوميًّا. هذا الفارق في الأجور يجعل العمالة السوريّة خيارًا مفضّلًا لأصحاب المصانع ممّن يسعون إلى تقليل الكلف وزيادة الربحيّة، على رغم أنّ هذه الظروف تؤثّر سلبًا في جودة حياة العاملين.
أسباب إيثار العمالة السوريّة
تضمّ محافظة البقاع 633 مصنعًا موزعة على ثلاث مواقع جغرافيّة، الأوّل في زحلة وتضمّ 521 مصنعًا، الثاني في البقاع الغربي ويضمّ 76 مصنعًا، والثالث في راشيّا (الوادي) وتضمّ 36 مصنعًا، وذلك وفقًا للمسح الميدانيّ “لدليل الصادرات والمؤسّسات الصناعيّة اللبنانيّة“، التي تعدّه غرفة التجارة والصناعة والزراعة في زحلة ومحافظة البقاع، عدا عن المصانع غير الممسوحة ميدانيًّا، وغير مسجّلة في “غرفة زحلة والبقاع”.
في منطقة بدنايل الواقعة في محافظة بعلبك الهرمل، يعتمد أحد أصحاب المصانع الغذائيّة بشكل كبير على اليد العاملة السوريّة. أحد العوامل الرئيسة التي تدفع صاحب المعمل إلى الاعتماد على تلك العمالة هو الأجر المنخفض الذي يقبلونه، إذ يبلغ راتب العامل السوريّ أو العاملة في هذا المعمل 115 دولارًا شهريًّا، من دون أيّ تأمين صحّيّ، ممّا يساعد المصنع على تقليل الكلفات التشغيليّة بشكل ملحوظ. هذا التوفير في الكلف هو أمر حاسم في بيئة اقتصاديّة صعبة حيث يسعى عديد من أصحاب المصانع إلى الحفاظ على الأرباح وتعزيز التنافسيّة.
عامل آخر يدفع أصحاب المصانع في البقاع إلى اعتماد العمالة السوريّة، هو أنّ العمّال السوريّين يتمتّعون بمهارات عالية في العمل، ويحملون خبرات جيّدة في المعامل.
مخالفات في عمالة أطفال
من بين المؤسّسات التي تعتمد بشكل كبير على العمالة السوريّة أيضًا في منطقة البقاع، تأتي إحدى شركات تعبئة مياه الشرب والحائزة على ترخيص رسميّ من الدولة اللبنانيّة، وعملها يشمل توزيع المياه على المنازل والـ”سوبرماركت” في المنطقة. تعدّ هذه الشركة مثالًا آخر على اتّساع الاعتماد على اليد العاملة السوريّة.
توظّف هذه الشركة معظم عمّالها من السوريّين، إن لم يكن جميعهم، إذ يتقاضون رواتب شهريّة تراوح بين 150 إلى 250 دولارًا ليس أكثر. هذه الأجور الزهيدة لا تترافق مع عقود عمل قانونيّة والتزام بقانون العمل، ولا تشمل أيّ تغطية طبّيّة، أو أيّ نوع من أنواع الضمان الاجتماعيّ أو الصحّيّ، ممّا يعني أنّ هؤلاء العمّال يتحملون جميع كلف الرعاية الصحّيّة بأنفسهم في حال تعرّضهم لأيّ مرض أو إصابة.
إضافة إلى ذلك، تستعين الشركة بعمّال قاصرين من الأطفال السوريّين، ممّا يثير تساؤلات حول الشروط القانونية والمعايير الأخلاقّية التي تُطبّق في هذا النوع من المؤسّسات. هؤلاء الأطفال يعملون في ظروف صعبة مقابل أجور زهيدة، ما يضيف بُعدًا إضافيًّا لمشكلة استغلال العمالة السوريّة في لبنان.
تضمّ محافظة البقاع 633 مصنعًا موزعة على ثلاث مواقع جغرافيّة، الأوّل في زحلة وتضمّ 521 مصنعًا، الثاني في البقاع الغربي ويضمّ 76 مصنعًا، والثالث في راشيّا (الوادي) وتضمّ 36 مصنعًا، وذلك وفقًا لغرفة التجارة والصناعة والزراعة في زحلة ومحافظة البقاع.
تجّسد حال هذه الشركة واقع عديد من المؤسّسات الأخرى في البقاع التي تستغلّ الوضع الاقتصاديّ الصعب للاجئين السوريّين وتوظّفهم في ظروف لا تضمن لهم الحدّ الأدنى من الحقوق الأساسيّة.
شهادات وقصص
تعكس القصص الشخصيّة معاناة هؤلاء العمّال وتحدّياتهم اليوميّة. رولاف، من التابعيّة السوريّة تبلغ من العمر 25 عامًا، كانت تعمل في أحد مصانع الألبان والأجبان في البقاع. تتقاضى رولاف نحو 150 دولارًا شهريًّا، وقد عملت في المصنع منذ سنة ونصف السنة. على الرغم من أنّها كانت مرتاحة نسبيًّا في عملها، لكنّ الجهد الكبير والتعب اللذين تبذلهما يوميًا، ساعات العمل الطويلة والضغوط البدنيّة تؤثّر بشكل كبير في صحتّها ورفاهيّتها. لكن وصل الأمر إلى صرفها من المعمل جرّاء تراجع سوق البيع وعدم قدرة صاحب المعمل على دفع الكلف التشغيليّة، بحسب ما تقول رولاف لـ “مناطق نت”.
أمّا أحمد، الذي وصل إلى لبنان من مدينة حماة السوريّة قبل 10 سنوات تقريبًا، فكان يعمل في شركة لتصنيع الفحم وبيعه في مختلف المناطق اللبنانيّة وكان يتقاضى راتبًا يبلغ 180 دولارًا شهريًّا. هذا الراتب الزهيد أجبر أحمد على ترك العمل في الشركة والبحث عن فرصة أفضل، يقول لـ “مناطق نت”. ثم وجد نفسه يعمل في مجال البناء مع أقرباء له، ما حسّن مدخوله الشهريّ وضاعفه تقريبًا إلى نحو 300 دولار شهريًّا.
لا يختلف وضع سعيد وهو أب لخمسة أطفال، عن وضع أحمد ورولاف من حيث الراتب الذي يتقاضاه، لكنّه يختلف عنهم من حيث التقديمات التي يحصل عليها من الأمم المتّحدة. سعيد يعمل منذ سنة تقريبًا في شركة لتوزيع المياه في منطقة البقاع. يتقاضى شهريًّا قرابة 250 دولارًا. لكن تسجيله مع عائلته لدى الأمم المتّحدة يضمن له ولأطفاله تأمينًا صحّيًّا، وخدمات أخرى، فهو مطمئن من هذه الناحية بفضل هذه الرعاية والخدمات على حدّ ما صرّح أمام “مناطق نت”.
أين قانون العمل؟
تلعب العمالة السوريّة دورًا أساسًا في القطاع الصناعيّ في البقاع، وهي تساهم بشكل كبير في تعزيز الإنتاجيّة وتلبية الطلب في مجموعة متنوّعة من الصناعات. تعتمد المصانع الصغيرة والمتوسّطة على هؤلاء العمّال ليس فقط لخفض التكاليف ولكن أيضًا لضمان استمراريّة العمليّات الإنتاجيّة.
وعلى رغم التحدّيات التي يواجهها العمّال السوريّون، بما في ذلك الظروف المعيشيّة الصعبة وعدم وجود حماية قانونية كافية، فإنّهم يلعبون دورًا حيويًّا في دعم الاقتصاد المحلّيّ.
يشير المحامي محمد صبلوح في حديث لـ “مناطق نت” “إلى أنّ قانون العمل اللبنانيّ يتناوّل مسألة تنظيم العمالة الأجنبيّة، بما في ذلك السوريّين. وعلى الرغم من وجود تعاميم دوريّة تتعلّق بالعمّال الأجانب، إلّا أنّ هناك تركيزًا واضحًا على العمّال السوريّين، ممّا يدلّ على استهداف لهذه الفئة بشكل خاصّ”. يتابع صبلوح: “يُلاحظ أنّ عديدًا من المهن في لبنان تعتمد على العمالة السوريّة نظرًا إلى رفض اللبنانيّين العمل فيها، ممّا دفع ببعض اللبنانيّين إلى المطالبة بتخفيف القيود المفروضة على العمالة في قطاعات حيويّة مثل الزراعة”.
وفي ما يتعلق بتحصيل الحقوق القانونيّة للعمّال الأجانب، يؤكّد صبلوح “أنّ القانون اللبنانيّ يضمن حقوق العمّال الأجانب، بما في ذلك تسجيلهم لدى الجهات الرسميّة مثل وزارة العمل والضمان الاجتماعيّ. ومع ذلك، يواجه العمّال السوريّون صعوبات في استرداد حقوقهم بسبب استغلال أصحاب العمل، ممّن يتجنّبون الالتزام بالقوانين لتقليل الكلف”. ويوضح صبلوح “إنّ بطء النظام القضائيّ في لبنان يمثّل عائقًا إضافيًّا، إذ يمكن أن تستغرق الإجراءات القانونيّة سنوات، ممّا يثني عديدًا من العمّال عن اللجوء إلى المحاكم”.
غياب الرقابة
إضافة إلى ذلك، يقول صبلوح: “إن القانون يلزم أصحاب العمل بتوفير التغطية الصحّيّة للعمّال الأجانب، لكنّ غياب الرقابة الفعّالة من قبل الدولة يسمح لأصحاب العمل بالتهرّب من الالتزامات القانونيّة، ممّا يؤدّي إلى استغلال العمّال السوريّين في ما يتعلق بالأجور وساعات العمل وغياب التغطية الصحّيّة”.
على رغم التحدّيات التي يواجهها العمّال السوريّون، بما في ذلك الظروف المعيشيّة الصعبة وعدم وجود حماية قانونية كافية، فإنّهم يلعبون دورًا حيويًّا في دعم الاقتصاد المحلّي.
ويختم صبلوح مؤكّدًا “أن غياب مؤسّسات حقيقيّة تراقب تطبيق القوانين بشكل فعّال في لبنان، يساهم في استمرار استغلال العمّال الأجانب. وهذا يُظهر أن القوانين تظلّ على الورق فقط، وتبقى حقوق العمّال، وبخاصّة السوريّين، مهدورة في ظلّ غياب الدولة المؤسّساتيّة الفعّالة”.
تقديمات الأمم المتّحدة
في الوقت الذي تقوم مؤسّسات ومعامل وشركات عدّة في محافظة البقاع على العمالة السوريّة دون توفير الضمان الاجتماعيّ، يجد هؤلاء أنفسهم معتمدين على الدعم الذي تقدّمه المنظّمات الدوليّة، وتحديدًا المفوضيّة السامية للأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين. هذا الدعم يشمل الضمان الصحّيّ، مساعدات ماليّة، الحصول على التعليم، المسكن والدعم القانونيّ، كلّ هذا يساعد السوريّين ويخفّف عنهم أعباء المصاريف الطبّيّة وغيرها.
إضافة إلى ذلك، يحصل اللاجئون السوريّون على بطاقات تموينيّة من الأمم تتيح لهم شراء موادّ غذائيّة تصل قيمتها إلى أكثر من 200 دولار شهريًّا، وذلك تبعًا لعدد أفراد الأسرة. هذه البطاقات تمثّل مصدرًا مهمًّا لتأمين الاحتياجات الغذائيّة الأساسيّة للعائلات وتأمين المحروقات في فصل الشتاء وتتيح لحامليها استبدال الرصيد النقديّ بسلع أخرى أو حتّى سحب الأموال نقدًا.
هذا الواقع يظهر أنّ العمالة السوريّة في لبنان تعتمد على مصادر متعدّدة لتحسين ظروف حياتها، ممّا يعكس قدرة هذه العمالة على التأقلم والاستفادة من الفرص المتاحة لها، على رغم التحدّيات الكبيرة التي تواجهها في سوق العمل اللبنانيّ.