الفيدرالية الفنية… وسقوط مركزية بعلبك
زهير دبس
مئة وأكثر قليلاً هو عدد المهرجانات المسجلة رسمياً في وزارة السياحة وتقام سنوياً في مختلف المناطق اللبنانية بدءاً من كل صيف. بعض هذه المهرجانات يحرص القيِّمون عليها إضافة صفة «الدولية» في آخر اسم المهرجان وبعضها الآخر مناطقي محلي. وبعيداً عن التقييم الفني والثقافي حول مستوى هذه المهرجانات وأهميتها ودلالاتها ونجاحاتها والذي بلا شك جميل ومُبهر، ثمَّة سؤال يرتسم حول حقيقة هذا العدد الضخم من المهرجانات التي يستحوذ جبل لبنان على حصَّة الأسد منه، وبعده باقي المحافظات شمالاً وجنوباً وبقاعاً. السؤال يستدعي البحث في الأسباب الحقيقية لقيام هذه المهرجانات وإحيائها والتي يجب أن تكون استجابة لشروط عدة، منها فائض في الاستقرارين الأمني والاقتصادي وأيضاً ارتفاع منسوب اهتمام الناس بالفن والثقافة وما يستدعيهما من قيام لمثل تلك المهرجانات.
لكن وعطفاً عليه، تبقى تلك الشروط منقوصة بالنسبة لبلد كلبنان يعاني ما يعانيه من أزمات على المستويات كافة، الاقتصادية والحياتية والمعيشية والخدماتية. لذلك من أين تأتي الدوافع الحقيقية لإقامة هذا العدد الكبير من المهرجانات والذي لا يماثل تنظيمها بلد يفوق لبنان بعشرات المرَّات.
«لو ساعدني الله، ووصلت الى الحكم، سأعمل شيئاً من أجل قلعة بعلبك» هذا ما قاله الرئيس شمعون يوماً لمي عريضة حين التقاها صدفة في العاصمة البريطانية لندن في نهاية الأربعينيات… سنوات مضت قبل أن يفي الرئيس شمعون بوعده لمي عريضة فكانت مهرجانات بعلبك في منتصف خمسينيات القرن الماضي حقيقة واقعة جذبت إليها أهم الفرق العالمية ونظر العالم. وأصبحت مي عريضة رئيسة للجنة تلك المهرجانات.
عكست مهرجانات بعلبك حينها العقد الفريد الذي أقامه الكيان اللبناني حوله، وكان الجانب الفني الذي كانت بعلبك إحدى ساحاته، النموذج الذي تجلّت من خلاله قوّة الدولة وازدهارها ورخاء ناسها وبحبوحتها الاقتصادية وفورتها الثقافية والفنية.
تسيَّدت بعلبك وقلعتها المهرجانات الرسمية وفاض اسمها إلى خارج لبنان. صارت بعلبك أكبر من لبنان، ومهرجاناتها تحوّلت إلى بطاقة مرور للتعريف بهذا البلد الصغير في العالم. وما كان يقام خارج بعلبك من مهرجانات قليلة لم يكن بعيداً عن الإطار الرسمي نفسه الذي كانت ترعاه الدولة بمعظمه حينها.
مع دخول لبنان مرحلة الحرب الأهلية انفرط العقد الفريد الذي زنَّر لبنان الكيان نفسه به منذ قيامه، ومعه انفرط عقد بعلبك ومهرجاناتها. مع هذا الانفراط بدأت الطوائف من خارج الدولة تنظّم مهرجاناتها، لكل طائفة ومنطقة وزعيم مهرجان خاص به يُوكل أمره بالنيابة عنه إلى زوجته وعائلته.
عادت بعلبك بعد انتهاء الحرب إلى المهرجانات لكن المهرجانات لم تعد إليها، فبدت ضعيفة هزيلة تستمد ضعفها من ضعف الدولة التي تجوَّفت وأصبحت دولاً متناثرة تُطل كل واحدة منها برأسها في الميادين كافة ومن ضمنها المهرجانات التي تمتد على امتداد الخرائط التي ترسم حدود دول الطوائف ومناطقها.
يقول الكاتب والمخرج المسرحي اللبناني الفرنسي نبيل الأظن في كتابه «مي عريضة… حلم بعلبك»: تبحث مي في طريقها بين زحلة وبعلبك عن طبيعة افتقدتها. أين أشجار البلّوط؟ أين بساتين دوّار الشمس؟ أين اختفت أزهار الأقحوان التي طالما زيّنت طريقها نحو مدينة الشمس يميناً ويساراً؟ أين هي تلك الرقعة الصفراء والخضراء التي قال عنها الموسيقي العالمي روتروبوفيتش إنها أشبه «بسجادة عجمية نشّفتها الشمس لتوّها؟».
مهرجانات لبنان المئة هي الوجه الجميل لطوائف لبنان ومناطقه وزعاماته، لكنها الصورة الممزقة لجسد الدولة المتواري خلف تلك المهرجانات. لم تعد بعلبك كأيقونة فنية مرادفاً للبنان الدولة، أصبحت بيت الدين وجبيل وجونية وذوق مكايل وإهدن وبشري وتنورين وصور مع صفاتهم الدولية هم الوجه الفني الذي يطل به لبنان إلى الخارج.
لكن تبقى اللحظة الرمزية الأكثر تعبيراً وتكثيفاً لواقع فيدرالية المهرجانات اللبنانية هي لحظات الافتتاح لتلك المهرجانات، حين يفتتح زعماء الطوائف والأحزاب والمناطق برفقة زوجاتهم واللواتي غالباً ما يشرفنَ على تلك المهرجانات مهرجاناتهم، حيث تقاسم هؤلاء أهم المعالم والرموز اللبنانية لكي تكون مكاناً لتلك المهرجانات وتقليداً لرمزية بعلبك.
تزداد المهرجانات الفنية سنوياً في لبنان ومعها تتقلّص فكرة الدولة وتزداد عزلتها. تكبر مساحة المهرجانات الدولية ويتقلص حجم الوطن والذي لم يعد سوى صدى لذكريات تردده أروقة قلعة بعلبك وساحاتها.