اللبنانيّون بين 2006 و2023.. أحضان مفتوحة أم أبواب موصدة؟

“برغم الألم الشخصيّ وبرغم الظلم الذي طال أخي، علي هنود، البريء من أيّ ذنب، أو أيّ دم، كما يعرف الناس والأجهزة الأمنيّة، برغم قتل إبني الشاب حسين ذي سبعة عشر ربيعاً بجريمة وحشيّة يندى لها الجبين، لما فيها من حقد أسود وتمثيل بجثّته البريئة، وبرغم تغطية المجرم من قوى حزبيّة معروفة وتقصير السلطات الرسميّة تجاه جريمته النكراء، مع ذلك فإنّ أبوابي مفتوحة لأهلنا في الجنوب اذا أجبرهم العدوّ الاسرائيليّ على مغادرة منازلهم، لا سمح الله، هذا ما تعلّمناه من أهلنا ونورثه لأبنائنا وأحفادنا الصغار”.

بهذه الكلمات الوجدانيّة الصادقة، ردّ علينا مختار عرسال السابق محمد علي الحجيري “أبو علي العصفور” عندما سألناه عن رأيه في ما يجري على أرض فلسطين المحتلّة واحتمال دخول لبنان في أتون المعارك.

مختار عرسال السابق محمد علي الحجيري

الحرب بشعة قذرة يكرهها كلّ إنسان سويّ عاقل، تتجنّبها كلّ الشعوب التوّاقة إلى العيش الآمن بالسلام والتنميّة. صورها مقيتة، رائحتها عفنة، نتائجها دماء ودموع أحزان ومآسي، قتلى ومعوّقون وأيتام وأرامل، ومشرّدون يبحثون عن دواء لجراحهم وبيوت تأويهم وسقوف تحميهم.

على أثر عمليّة “طوفان الأقصى” النوعيّة، التي قامت بها حركة حماس بحرفيّة ودقّة ردًّا على جرائم العدو، أطلقت حكومة التطرف اليمينيّة، وحش الإرهاب الصهيونيّ من عقاله، فتك بأرواح الأبرياء بكلّ ما يملكه من أدوات وآلات الحرب وقوّة النار، مزّق جثث الأطفال، اتّخذها لعبة لحقده الأعمى، هدم المباني أسقطها ركاماً على رؤوس ساكنيها، لم يراعِ في استهداف المشافي والمدارس ودور العبادة قوانين ولا إنسانيّة أو ضميرًا.

أبواب عرسال مشرّعة لكلّ أهلنا

في حديث مع نائب رئيس بلدية عرسال السابق السيد نصرات رايد حول ما يجري من أحداث وانعكاساته المحلّيّة يقول لـ”مناطق نت”: “على ما يبدو الأمور تتدهور بسرعة، ونار الحرب الشاملة تقترب من بلدنا. علينا التحضر للأسوأ، اليوم الوضع مختلف جذريًّا عمّا كان عليه في إبّان حرب تموز 2006، حينها كانت السلطة السياسية مكتملة، رئيس جمهوريّة مع حكومة دستوريّة كاملة ومجلس نوّاب وبلديّات فاعلة لديها إمكانات، وكان الوضع الاقتصاديّ عاديًّا، علاقات لبنان مع الأخوة العرب في أفضل أحوالها وخصوصاً مع الخليج، سوريّا كانت مستقرّة آمنة، كذلك الشرخ السياسيّ المحلّيّ كان في بداياته وتحت السيطرة”.

نائب رئيس بلدية عرسال السابق نصرات رايد

أمّا اليوم، يضيف رايد: “نعيش في ظلّ دولة عاجزة مهترئة، وسط غياب تامّ لمؤسّساتها على كلّ الصعد السياسيّة والاقتصاديّة والتربويّة. القدرة الشرائيّة للناس في أدنى مستوياتها، بلديّات غائبة كلّيًّا بفعل انهيار العملة الوطنيّة، لبنان يعاني عزلة شبه كاملة عربيًّا ودوليًّا، سوريا تعاني وترزح تحت مشاكل وصعوبات هائلة، كما إنّنا على أبواب الشتاء، وتقلّص فرص العمل، الوضع كارثيّ بكلّ المقاييس ولا نقول غير الله يسترنا”.

يتابع السيّد رايد: “بخصوص ما قد يحصل في حال الحرب، ابن عرسال عروبيّ بالفطرة، والنخوة وإغاثة الملهوف وإكرام الضيف في صلب عاداته وتقاليده، وهذا ما يشهد عليه الأخوة السوريّون النازحون، ففي حال وفود أيّ نازح لبنانيّ لن يختلف تعاملنا معه عن اللاجئ السوريّ، سيكون مرحّبًا به، نتقاسم معه القليل مّما بقي لدينا”.

جرح غزة، أكبر من تفاصيل السياسة اللبنانيّة

في حرب تموز 2006، لم يصل العدوان الإسرائيليّ إلى بلدة عرسال، وبرغم ذلك لم تكن بعيدة عن المشاركة في صدّ العدوان. وفدت إليها مئات العائلات اللبنانيّة، فتحت لهم البيوت والمدارس بكلّ ترحاب وطيبة خاطر، نشأت عن تلك الحالات عشرات الصداقات والمصاهرات. لكن في اليوم الأخير للحرب، طاول القصف المعادي جرودها، ما أدّى إلى استشهاد اثنين من ابنائها هما علي عزّ الدين وأحمد الحجيريّ.

في حرب تموز 2006، لم يصل العدوان الإسرائيليّ إلى بلدة عرسال، وبرغم ذلك لم تكن بعيدة عن المشاركة في صدّ العدوان. وفدت إليها مئات العائلات اللبنانيّة، فتحت لهم البيوت والمدارس بكلّ ترحاب وطيبة خاطر، نشأت عن تلك الحالات عشرات الصداقات والمصاهرات

يقول المختار “أبو خالد” محمّد عزّ الدين لـ”مناطق نت”: ” قدرنا مع الشهادة قديم وليس حديثًا، سواء مع فدائيّي المقاومة الفلسطينيّة في أرض الجنوب، ومع حركة المقاومة الوطنيّة اللبنانيّة في مواجهة الاحتلال الإسرائيليّ، من بيروت إلى بنت جبيل، أو في صفوف المؤسّسة العسكريّة، لقد قدّمت هذه البلدة العشرات من أبنائها، وهي جاهزة لتقديم الغالي والنفيس فداءً للبنان وفلسطين”.

المختار أبو خالد محمد عزالدين

حول الأجواء السياسيّة ومخاوف الناس في عرسال، التقى “مناطق نت” مع منسّق تيّار المستقبل السابق في بعلبك الهرمل السيّد عبد المنعم الحجيري فقال: “البلد مأزوم من النواحي كافّة، والشرخ كبير جدًّا وإنكار الواقع  يعني “كذب عالدقون” ولا يفيد بشيء، لكن ما حصل في فلسطين المحتلّة، خصوصًا جرح غزة، أكبر بكثير من كلّ تفاصيل السياسة اللبنانيّة الداخليّة، فقد أعاد اللّحمة إلى الشعوب العربيّة والإسلاميّة”.

منسّق تيار المستقبل السابق عبد المنعم الحجيري

ويتابع الحجيري:” اليوم، ربّما كلّ هويّات الشرق الأوسط، وكلّ خرائطه قيد إعادة الصياغة، وبالتالي نحن اللبنانيّين لا مصلحة لنا بأيّ خلاف داخليّ، ولا نملك ترف الخلاف يعني “فوق شحارنا وتعتيرنا نكمّلها بالمشاكل الداخليّة” فهل نزيد النار نارًا؟”.

ويضيف: “نعم في الماضي قلنا لحزب الله أهل عرسال ليسوا أعداءك، لا تقطع معهم شعرة معاوية، لكن للأسف لم نلقَ آذانًا صاغية، ولا داعي لتكرار ما يعرفه الجميع من أروقة المحكمة العسكريّة، للجرود، للحواجز على الطرقات، لوسم كلّ عرسال بالداعشيّة وهدر دم أهلها، لكن نحن الآن أمام خطر كارثيّ وجوديّ يتهدّدنا جميعًا، فماذا عسانا نقول لمن يترك بيته هاربًا من الموت والقتل؟ بالتأكيد لن نقفل أبوابنا وسنقول أهلًا وسهلًا، لمن يفد إلينا مهما كانت طائفته أو منطقته”.

فلسطين بوصلتنا الأبديّة

المؤسف أنّ الحروب تغيّر وتبدّل طبيعة عمل ووظيفة الكثير من المؤسّسات، فتنتقل المدرسة من مقاعد للعلم والنور وإعداد الأجيال القادمة إلى مآوي بائسة حزينة للهائمين على وجوههم هربًا من العدوان والموت.

يقول المربّي محمد الفليطي، وهو أحد وجهاء عرسال وصاحب مدرسة النهضة لـ”مناطق نت”: “بوصلتنا الأبديّة هي فلسطين من البحر إلى النهر، القدس مسرى النبيّ محمّد ومهد السيّد المسيح، أولى القبلتين وثاني الحرمين، عشقنا صغارًا ثورة حجارتها، كنّا نتتبّعها أيّام تلفزيون الأبيض والأسود، أحببنا أطفالها يواجهون الدبّابات والمجنزرات المعادية بصدور عارية، وهم لا يملكون من القوّة إلّا إيمانهم بقضيّتهم وتجذّرهم بأرضهم جيلًا بعد جيل”.

محمد الفليطي

ويضيف الفليطي بلهجة حاسمة: “باختصار شديد عندما يتعلّق الأمر بفلسطين، أنا وبيتي ومدرستي وكلّ أقربائي وكلّ أهل بلدتنا نقول لكلّ لبناني: بيتنا بيتك، لقمتنا لقمتك، أهلًا وسهلًا بك. وبعد عودة الأمور لطبيعتها لا مانع من اختلاف الآراء، فهذا دليل عافية وليس العكس. على صعيد مدرسة النهضة فقد أبلغت كلّ الزملاء فيها، إدارة وكادراً تعليميًّا، أنّنا في أيّ لحظة قد نعلّق التدريس لصالح إيواء الناس وليستعدّوا لذلك”.

آخر الكلام، يقول المثل الشعبيّ:” المحن والمصاعب تكشف معدن الإنسان وخامته”. بالضبط هذا ما يفعله الخوف والتوجّس من الحرب في ضمير اللبنانيّ، تعيده المآسي لإنسانيّته وعفويّته، لنبله وكرمه. قرأنا هذه المعاني في وجوه كلّ من التقيناهم في بلدة عرسال البقاعيّة، والأمل كلّ الأمل، أن نقرأها في وجوه كلّ اللبنانيّين، في أوقات السلم والهدوء رحمة بلبنان واللبنانيّين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى