اللحظات الأخيرة قبل الإخلاء…ماذا حمل النازحون معهم؟

عصيبة وصعبة اللحظات التي عاشها النازحون عن منازلهم، سواء في الجنوب أو البقاع أو الضاحية، لحظات يعجز كثيرون عن وصفها ووصف أهوالها، فهي مشوبة بالموت والقلق والتوتّر. يتكثّف في تلك اللحظات ويختلط كلّ شيء، الأقدار والمصير، الحياة والموت، وعن رحلة اللاعودة التي تُومض بشكل متتالٍ لتخطف بريق الحياة من تحت أنقاض الحكايات المتناثرة والمخنوقة تحت الركام.

محاولة إنقاذ أغلى ما تملك

تسمع أمّ حسن هدير الطيران المنخفض في الضاحية الجنوبيّة لبيروت ومن ثمّ تشعر بارتجاج الأرض تحتها، وكأنّ هزّة أرضيّة حدثت، لتجد نفسها بعد ثوانٍ تفترش الأرض، وزجاج منزلها يتناثر على جسدها ومن حولها. أدركت حينها أنّ الخطر يقترب منها، وعليها أن تخرج من بيتها لتبحث عن مكانٍ آمنٍ للنجاة بحياتها.

لم تستطع في حينه التركيز وإحصاء كلّ ما عليها حمله معها قبل المغادرة، فأمّ حسن التي خسرت ابنها في حادث سيرٍ قبل ستّ سنوات، لا تزال تحتفظ بصورةٍ صغيرةٍ له معلّقة على باب البرّاد، تنظر إليها كلّما دخلت إلى  المطبخ. في تلك اللحظات العصيبة كلّ ما فكّرت به أم حسن هو تلك الصورة، فسارعت إلى  إحضارها ووضعها في محفظتها الصغيرة والمغادرة بسرعة.

كيف يتّسع البيت في حقيبة؟ لوحة لأنس اللقيس
الحفاظ على الهوية وسط التغيير

تختلف حكاية رنا وهي من الجنوب وسكّان شارع المنشيّة في الضاحية عن حكاية أم حسن في تفاصيل مغادرة منزلها، لكنّها ثابتة في فصل النزوح. تروي أنّه عندما توسّعت رقعة الحرب بشكل غير مسبوق الإثنين في الـ 23 من أيلول (سبتمبر) الماضي، اضطرت إلى ترك منزلها بسبب الضغط الذي تعّرضت له من الأقارب والأصدقاء خوفًا على حياتها، فكان لديها بعض الوقت نسبيًّا لجمع بعض الأمتعة والأغراض قبل الخروج وهي غير مدركة بأوان العودة، ولا تعرف إن كانت ستحصل أم لا.

تجهّز رنا حقيبتها الحمراء، محاولةً تجميع فيها كل الأغراض التي ترافقها بشكل دائم وتشكّل جزءًا من هوّيتها. أوّل ما جمعته كان كتابين، الأوّل هو سيرة حياة الصحافيّة الشهيدة شيرين أبو عاقلة، والثاني يتحدّث عن العودة إلى فلسطين. ثمّ وضعت أكثر فساتينها ارتداءً، وأقراط الحلق المفضّلة لديها، والخواتم التي لا تفارق يديها.

حرصت رنا على إحضار كتابٍ هو هديّة من رفيقها الروسيّ، وكاميرا هي أيضًا هديّة قدّمها لها ابن عمّها حين بدأت العمل في مجال الصحافة. بالإضافة إلى “عطري الذي لا يشبه أيّ رائحة أخرى، وأقلام الرسم التي لا تفارقني أينما ذهبت”.

تختم رنا حديثها لتخبرنا أنّها تشعر بالخجل بعض الشيء لأنّها تمّكنت من أحضار بعض الأغراض، بينما هناك أشخاص خرجت من منازلها بثياب بسيطة، ولم تستطع إحضار أيّ من أغراضها وحاجيّاتها الضروريّة.

تفتقد رنا شارعها وبيتها الذي كان يحافظ على معالمه التراثيّة القديمة، حيث يضمّ حديقة وأشجارًا معمّرة. كلّ ذلك أصبح ذكرى بفعل الغارات الإسرائيليّة التدميريّة الوحشيّة التي حصلت ليل السادس من تشرين الأول (أكتوبر) الجاري، وأحالت ذلك الشارع إلى صورة وذكرى.

تجهّز رنا حقيبتها الحمراء، محاولةً تجميع فيها كل الأغراض التي ترافقها بشكل دائم وتشكّل جزءًا من هوّيتها. أوّل ما جمعته كان كتابين، ثمّ وضعت أكثر فساتينها ارتداءً، وأقراط الحلق المفضّلة لديها، والخواتم التي لا تفارق يديها.

ضياعٌ وهلعٌ قبل الرحيل

اضطر أحمد من الجنوب إلى ترك منزله في صور بسبب كثافة الغارات على المنطقة. أحمد وبعد تعرّض المبنى المجاور لمنزله للدمار ومشاهدته ذلك، أصابته نوبة هلع طويلة، انزوى في غرفته مع “ميمي” قطّته التي أنقذها من الشارع منذ نحو سبعة أشهر، وقرّر الجلوس بجانبها خوفًا من أن يفارق الحياة وهو بعيدٌ عنها.

بعد مرور عدّة دقائق، استطاع أحمد أن يبدّل ملابسه في غضون ثوانٍ قليلة، وإحضار الطعام المخصّص للقطّة مع زجاجتي ماء له ولها، من ثمّ دخل إلى غرفة الجلوس للبحث عن لعبة قطّته المفضّلة التي كانت عالقة تحت الأريكة الكبيرة، فاضطرّ إلى إزاحتها للوصول إليها. كلّ هذه العمليّة لم تتخطَّ الثلاث دقائق.

خرج أحمد من المبنى حاملًا “ميمي” بين يديه، وحينما أصبح بعيدًا نوعًا ما من منزله، التفت ليلقي عليه النظرة الأخيرة، فلم تمنحه إسرائيل مجالًا للوداع الأخير، حيث قامت لاحقًا بقصفه بشكلٍ كامل وتدميره.

لا مجال للأنانيّة

روان من بعلبك، والتي لطالما عُرفت أنّها عنوان للتهميش والنسيان في زمن السلم، لم تقتصر على ذلك في زمن الحرب، فقد تعرّضت معظم قراها وبلداتها إلى عدوان غير مسبوق. عندما قرّرت روان النزوح مع أهلها من البلدة بعد ليلةٍ صعبة عاشوها من قصفٍ عنيفٍ ودمارٍ هائلٍ، وبعد المناشدات للتوجّه إلى مكان القصف لرفع الأنقاض وانتشال الناجين من تحت الردم، غادروا البيت في الصباح الباكر.

لوحة إلهام شاهين

تقول روان إنّها كانت في حالة صدمة، فلم تستطع التفكير في أيّ شيء، كلّ ما كانت تتمنّاه أن تبقى هي وأفراد عائلتها على قيد الحياة.

عند توجّهها إلى السيّارة للرحيل، عادت أدراجها إلى الطابق السفلي في المنزل لإحضار شيء من المؤونة وبعض المواد الغذائيّة. تبتسم روان وتقول: “ليس كلّ ما أفكّر به هو الطعام بالتأكيد، لكن اتصلت بي صديقتي وهي في مركز الإيواء الذي سأتوّجه إليه، وأنا أعرف جيّدًا أنّها من محبّي المكدوس الذي نصنعه، فأردت أن أحضر لها بعضًا منه، لعلّها تفرح قليلًا”. أمّا عن بقيّة المواد الغذائيّة فهي تريد توزيعها على النازحين هناك، رافضةً فكرة أن ترى أحدًا جائعًا وخصوصًا الأطفال الصغار.

جمع ما تبقّى من ذكريات

رنين من سكان الشويفات، قرأت إنذارًا بإخلاء الشارع الذي تقطن فيه قبل أن تغير طائرات الموت الإسرائيلية عليه، وعلى المباني المنتشرة فيه، خلال أقلّ من خمسة عشر دقيقة فقط غادرت رنين، لم تفكّر في شيء حينها سوى بكاميراتها، كونها تعمل في مجال الإخراج والسينما، فكانت تريد أن تحافظ أقلّه على عدّة التصوير الخاصة بها، لكي تستمرّ في هذا المجال وخاصةً في فترة الحرب، فهي تريد توثيق جميع المشاهد واللحظات.

خرج أحمد من المبنى حاملًا “ميمي” بين يديه، وحينما أصبح بعيدًا نوعًا ما من منزله، التفت ليلقي عليه النظرة الأخيرة، فلم تمنحه إسرائيل مجالًا للوداع الأخير، حيث قامت لاحقًا بقصفه بشكلٍ كامل وتدميره.

تشير رنين إلى أنّ جهازها “الكمبيوتر” المحمول (اللابتوب) تعرّض للكسر فيأثناء هروبها من الشقّة، لكن أصرّت على حمله معها. بالإضافة إلى مجموعة من التذكارات من أصدقائها. تختم رنين لتقول: إنّها رفضت الخروج قبل أن تأخذ معها صورةً لها وهي في مرحلة الطفولة مع جدّتها، لعلّ تلك الصورة تحفظ ما تبقّى من طفولتها وذكرياتها في ذلك المنزل قبل أن تدمّره اسرائيل.

القضاء على تراث الناس

كلّ هذه الحكايا وغيرها كثير، لناسٍ اضطروا أن يخلوا منازلهم وأماكن الصبا والذكريات، للبحث عن حياةٍ أخرى، جديدة ومجهولة لا امتيازاتٍ فيها، فهي فقط الطريقة الوحيدة للنجاة والبقاء على قيد الحياة والحفاظ على ما تبقّى لهم من أحبّاء وأقرباء.

جميعهم هجّرتهم اسرائيل، دمّرت منازلهم ومناطقهم. تحاول محو ذكرياتهم وحياتهم وكلّ ما يملكون، جميعهم أصبح مصيرهم متعلّق ومحدّد بالإنذارات التي يُصدرها المتحدّث باسم جيش الإحتلال، عندما ينشر خرائط على وسائل التواصل الاجتماعي للمباني والأحياء التي سيتمّ شنّ غاراتٍ عليها. ها أنّهم تائهون، يجهلون مصير مستقبلهم، يريدون فقط العودة إلى حياتهم السابقة والطبيعيّة والعيش بأمانٍ وحرّيّة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى