المبيّض يعود إلى بلدات الشمال وينفض الغبار عن النحاسيّات

عاد ليصدح صوت “المبيّض” في قرى شمال لبنان، مناديًا ربّات البيوت وهواة “الأنتيكا” ليحضّروا قطعهم النحاسيّة النفيسة، من أجل إزالة ما علق عليها من سواد. لقد شكّل ظهور “المبيّض” صدمة لكثيرين، منهم الجيل الجديد الذي استقبله بكثير من الاستغراب، فيما سرت حالة من الفرح في نفوس ذويهم وكبار السنّ، فهذه فرصة لإعادة اختبار لحظات من الماضي، ومن أجل إعادة “الدسوت” (المراجل) والحِلل إلى العمل.

في إحدى زوايا بلدة بخعون، اختار المبيّض ورفيقه الجلوس تحت إحدى الأشجار المعمّرة، وضع كيره (منفاخ يدوي، زقّ) أرضًا، وأشعل ناره، وشرع في النداء “مبيّض مبيّض”. ما هي إلّا دقائق معدودات حتّى تحلّق الأهالي حوله. أحدهم أحضر طنجرة نحاسيّة كبيرة من أجل تلميعها، فيما انصرف آخرون يبحثون بين “التتخيتة” (سدّة البيت)، و”القبو”، وغرف المؤونة عن الأوعية التي تحتاج إلى تبييض وتنظيف.

سباق الأواني النظيفة

تسابق الأهالي في إحضار القطع والأواني. ها هي سيدة طاعنة في السن، تأتي بالوعاء الذي تستخدمه في غلي دبس الرمّان ودبس البندورة، وطنجرة كبيرة تسخدمها من أجل الطبخ في المناسبات. فيما قام رجل بلملمة قطع الأنتيكا والنحاسيّات التي جمعها خلال عقدين من الزمن، أحسّ بكثير من السرور بعد أن رآها تلمع وتشعّ حياةً.

“تبييض” الطناجر والأوعية في بلدة بخعون

لقد شعر الأهالي ببعض الاختلاف، تقول السيّدة نهى سعيد من طرابلس: “كلّ شيء تغيّر وتبدل وأصبح بالدولار، حتّى تسعيرة تبييض الطناجر”، مضيفةً: “بلغت كلفة تبييض بعض القطع 20 دولارًا أميركيًّا، ولكن لا بأس لأنّ كلّ شيء ارتفع سعره، ونحن بحاجة إلى استخدام تلك الطناجر في بعض الأحيان، وعند تحضير المؤونة”.

بما يشبه العدوى، بدأت النساء والرجال يتقاطرون نحو “ساحة” المبيّض، بعضهم قدم من باب الحشريّة، إذ دفعه الفضول من أجل مشاهدة كيفيّة عمل هذا الحرفيّ القادم من مكان إقامته في البقاع.

“مبيّض.. مبيّض..”

يقول هشام حمد الشاب الذي يبلغ 20 عامًا لـ”مناطق نت”: “هذه المرّة الثانيّة التي أرى فيها مبيّضًا، ولكن هذه المرّة كانت عن كثب. أتذكّر أنّني رأيته عندما كنت طفلًا صغيرًا، عندما جاء ينادي “مبيّض، مبيّض” في حينه لم أكن أعرف ماذا يفعل؟ حتّى أنّني شعرت بخوف من الاقتراب منه في تلك السن”. أمّا حاضرًا، فشكّل قدومه فرصة لي، من أجل تبييض بعض القطع التراثيّة”.

مشيرًا إلى “أنّني قمت بمقايضته، وعرضت أن أحضر له الحطب، والماء لقاء تخفيض الأجر الذي سيتقاضاه مني”. ويفيد هشام أنّ “النتيجة كانت مرضية، فقد أضحت القطع وتحديدًا البابور والطنجرة والدست والأركيلة (النرجيلة)، كلّها برّاقة صالحة لأن تستعمل أو تعرض في الصالون”.

بما يشبه العدوى، بدأت النساء والرجال يتقاطرون نحو “ساحة” المبيّض، بعضهم قدم من باب الحشريّة، إذ دفعه الفضول من أجل مشاهدة كيفيّة عمل هذا الحرفيّ القادم من مكان إقامته في البقاع

في المقابل، تتحدّث إحدى السيّدات عن أنّها “منذ فترة وهي تسأل عن إمكانيّة وجود مبيّض يأتي إلى القرية، لأن الأواني النحاسيّة ضخمة وذات وزن ثقيل، ولا يمكن حملها بسهولة والتجوال بها في سوق النحّاسين”. وتضيف: “تراجع كثيرًا استخدام النحاس في الطبخ، لصالح تلك المصنوعة من “الستانلس”، ولكن هناك أعمالًا لا يمكن الاستغناء فيها عن الطناجر النحاسيّة، فلديّ وعاء يستخدم في تقطير ماء الورد وماء الزهر، وآخر لسلق القمح، وغيرها. لذلك، كنت أركنها في أكياس على التتخيتة لتبييضها عندما أستطيع”.

مشهد بصري جذّاب

ما إن جلس المبيّض في الساحة وأشعل النار، حتّى التمّت الناس حوله. وراح بعضهم يستفسر عن المراحل، فيما اتّخذ منها بعض آخر فرصة لالتقاط الصور. بدأ المبيّض بجلي الطنجرة النحاسيّة، ومن ثمّ نثر عليها بودرة، قبل أن ينشر عليها القصدير، ويعرضها للحرارة الصاعدة من نار الحطب.

بعد قليل، بدأت الأوساخ بالتحلّل، ليأتي دور الحفّ بقطعة القطن الغليظة، وهي تشكّل مقدّمة لبروز المظهر اللمّاع في القِدر. يعكس ذلك حالة رضى في نفس الزبون، فتظهر أماراتها على وجهه، وكلمات الشكر التي يكرّرها على لسانه.

لكل حرفة أربابها

منذ الصغر، يحترف أبو حسن المبيّض المهنة، فهو تعلّمها على يد شبّان من بلدة جويّا في جنوب لبنان، “فقد ترعرعت بينهم، واكتسبت دقائق الحرفة”.

بدأ أبو حسن بالعمل على نطاق ضيّق في منطقة البدّاوي والمحيط، قبل أن يوسّع نطاق شغله، ويتعاقد في عمله مع بعض المؤسّسات الصناعيّة والغذائيّة التي تحتاج لاستخدام الأواني النحاسيّة، وعلى وجه التحديد المؤسسّات العاملة في مجال الحلويّات العربيّة والقشدة (القشطة).

يؤكّد أبو حسن أنّ “المهنة غير مستقرّة، منذ جائحة كورونا والسوق في تراجع، فقد أصبحت تعتمد على حاجة المؤسّسات بصورة موسميّة. ففي فترة من الفترات بقينا دون عمل، قبل أن نعاود الشغل”.

يقر الحرفيّ الجوّال أنّ الغلاء طرأ على المهنة، “إذ يضطرّ المبيّض إلى مواكبة ارتفاع أسعار الموادّ الأوّليّة بسبب الدولار، فقد تضاعف سعر النشادر والقصدير، وروح الملح، الأسيد، والتوتيا، والقطن”؛ مشيرًا إلى عدم وجود سعر ثابت لتبييض القطعة، فالأمر يتوقّف على حجمها، وحجم الجهد الذي يحتاجه تنظيفها وتلميعها.

يرى أبو حسن أنّ على الحرفيّ “أن يأخذ الأزمة الاقتصادية ودخل المواطنين في الحسبان، لذلك لا بدّ من خفض الأسعار”، لافتًا إلى “أنّ غالبية المبيّضين يقومون بتسعير عمليّة تبييض السدر قياس 70 سنتيمترًا بمبلغ 15 دولارًا أميركيًّا، ولكنّنا نقوم حاليًّا بكسر السعر وتقاضي النصف”، فهو يتبّع “قاعدة ما يرضي الرب، ولا يضعه في خسارة”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى