المراكز الصحّيّة الأوّليّة في النبطية بديلة العيادات والمشافي
أصبحت المراكز الصحّيّة الأوّليّة ملاذ الناس للطبابة في زمن الانهيار، حيث هزّت الأزمة الاقتصاديّة حياة المواطنين وقلبتها رأسًا على عقب. لم يعد هناك من مكان للرفاهيّة، فهذا الزمن ولّى، بات همّ المواطن اليوم تأمين الخدمات الصحّيّة بأرخص الأثمان، بعدما بات الذَّهاب إلى عيادة الطبيب أو حتّى الدخول إلى الصيدلية “موجعًا”، نظرًا إلى ارتفاع أسعار المعاينة التي تراوح بين 30 و50 دولارًا إن لم نقل أكثر، وذلك حسب كلّ طبيب على حدةّ. أمّا زيارة الصيدليّة فهي كارثة بحدّ ذاتها، إذ إنّ أقل دواء ليس أدنى من عشرة دولارات وصعودًا.
تضاف إلى الفاتورة الصيدليّة المرتفعة فروقات في أسعار الأدوية بين صيدليّة وأخرى وقد تكون فروقات كبيرة، وهذا ما دفع بالناس للتحّول نحو الدواء البديل إلى جانب زيارة المستوصفات الخاصّة بوزارة الصحة اللبنانيّة وبعض الجمعيّات والهيئات، أيّ التوجّه نحو المراكز الصحّيّة الأوّليّة والمستوصفات هذه للحصول على خدمات طبّيّة ضروريّة، وقد انتعشت هذه المراكز بشكل لافت، وتشهد اكتظاظًا وازدحامًا.
لا إمكانيّة لعيادة الطبيب
يضيق مركز الرعاية الصحّيّة الأوّليّة التابع لوزارة الصحّة في النبطية بالمرضى، لا تتّسع غرفه إلى مزيد منهم، الضغط الكبير مردّه إلى سعي المواطن نحو “طبابة رخيصة، ودواء رخيص”، إذ يقدم المركز بالمقابل شتى أنواع الخِدْمَات الطبية والصحّيّة بما فيها الصور الشعاعيّة، بأسعار معقولة مدروسة جدًا.
يقصد مرتضى بدر الدين المراكز الصحّيّة أو المستوصفات لتلقي الرعاية الصحّيّة، يقول لـ”مناطق نت”: “لا نقوى على دفع فاتورة الطبيب، فنقصد المركز للطبابة والتداوي، هنا توجد جميع الاختصاصات، ونأخذ الدواء أيضًا”. يصف مرتضى الواقع الطبّيّ في منطقة النبطية بـ”الصادم” ويضيف: “تحول بعض الأطباء إلى التجارة بالمرضى، مع يقينهم أنّ أوضاعهم المادّيّة دون الصفر.”
في داخل هذه المراكز يمكن اكتشاف المأساة، هنا مواطن أتى على عجل لعلاج “ضرسه” المكسور، وهناك أمّ أحضرت أولادها لمعاينتهم من قبل طبيب الأطفال. هنا تتعرف على واقع الناس عن كثب، على معاناتهم اليوميّة مع المرض والطبابة وعجزهم عن شراء دواء من الصيدليّة، هنا داخل قاعات المركز يكتشف حجم الفقر الذي وقع على المواطن جرّاء غياب السياسات الحكوميّة الناجعة.
البحث عن الأوفر
يرى الممرض في الهيئة الصحّيّة الإسلاميّة في النبطية عبد الله عطوي في حديث لـ”مناطق نت” أنّ “سبب توجّه المواطن نحو المراكز الصحّيّة يتمثل بعدة نِقَاط، أولها أنّ المريض يجد فيها معظم الاختصاصات من طبيب كلى إلى أمراض صدريّة ونسائيّة وعظم، ويمكنه إجراء أيّ صورة أو الخضوع لأيّ فحص في الوقت عينه، وأيضًا يأخذ أدويته معه، وهو أمر غير متوافر في عيادة الطبيب حيث يضطرّ المريض إلى زيارته أكثر من مرّة إضافة إلى أنّه يتكبد عنّاء التنقّل ودفع كلف عالية هي فوق قدرته، وهذا ما يزيد تهافت المرضى نحو هذه المراكز ذات المعاينات المنخفضة السعر”.
داخل هذه المراكز يمكن اكتشاف المأساة، هنا مواطن أتى على عجل لعلاج “ضرسه” المكسور، وهناك أمّ أحضرت أولادها لمعاينتهم من قبل طبيب الأطفال. هنا تتعرف على واقع الناس عن كثب، على معاناتهم اليوميّة مع المرض والطبابة
في زمن “الفريش” دولار، لم يعد بمقدور شريحة واسعة من الناس زيارة الطبيب في عيادته أو التفكير في دخول المستشفى، هذا بات “لمن استطاع إليه سبيلَا”، ويبرر حجم الإقبال الكثيف على المراكز الصحية، إذ تجاوزت أعداد المرضى ممّن يزورون مركز الهيئة الصحّيّة الإسلاميّة في النبطية 3500 مريض شهريًا، وتضاعف هذا العدد في خضّم الحرب الدائرة اليوم، إذ يستقطب المركز النازحين من القرى الحدوديّة ويقدّم لهم الخِدْمَات الصحّيّة المجّانيّة.
المراكز وآلاف المرضى
ليست أعداد المرضى الذين يزورون مركز الرعاية الصحّيّة الأوّليّة التابع لوزارة الصحّة في النبطية بقليل، إذ يسجل ألفي مريض شهريًّا، ويرتفع العدد تدريجًا مع زيادة أعداد النازحين، مع الإشارة إلى أنّ الخدمات الطبّيّة التي يقدّمها المركز، شبه مجّانيّة. أمّا عدد المرضى الذين يزورون مركز الصليب الأحمر اللبنانيّ في النبطية، فيتراوح بين 500 و700 مريض شهريًا، وتعدّ هذه المراكز الثلاثة الأهم والأكثر استقطابًا للمرضى في مدينة النبطية ومحيطها من بلدات وقرى.
الضغط على المراكز الطبّيّة في مدينة النبطية تحديدًا، يعزوه متابعون للملف الطبّيّ إلى أنّ المستوصفات في قرى وبلدات النبطية شهدت إهمالًا وإقفالًا في إبّان الأزمة الاقتصاديّة، مما جعلها عاجزة عن تقديم الخدمات التي كانت تتولّاها سابقًا، إلا في شكل محدود. وفي هذا الإطار يشير الممرّض عطوي إلى أنّه “لو كان هناك مراكز صحّيّة في القرى لكان الضغط أخفّ على المراكز الرئيسة في مدينة النبطية، وهذا سيوفر أكثر على جيوب الناس، كلفة النقل”.
ويلفت إلى “حاجة الناس للمعاينة الطبّيّة الدوريّة، لكن ليس بمقدور كثر منهم الانتقال إلى المدينة بسبب ارتفاع كلفة النقل”.
مركز الرعاية الصحّيّة الأوّليّة
يثني مسؤول مركز الرعاية الصحّيّة الأوّليّة التابع لوزارة الصحّة في النبطية حسين أبو زيد لـ”مناطق نت” على أهمّيّة وجود هذه المراكز في زمن الأزمة، فهي جاءت لتقف إلى جانب الفقراء والمتعثّرين مادّيًّا، فالطبابة باتت باهظة الكلفة في لبنان، ولم تعد متوافرة للجميع أو بمقدورهم”.
يوفر مركز الرعاية الصحّيّة شتّى الخدمات الطبّيّة إلى جانب الدواء بكلفة لا تتخطّى 400 ألف ليرة لبنانيّة، “وهي كلفة زهيدة نسبيًّا” بحسب أبو زيد مؤكّدًا “الوقوف إلى جانب أهلنا، سواء المقيمين أو النازحين، خصوصًا بعد إقفال كلّ المراكز الصحّيّة في القرى الحدوديّة وتحوّل مرضاها نحو المراكز الصحّيّة في النبطية”.
ويلفت أبو زيد إلى أنّ “أعداد المرضى ارتفعت بفعل الأزمة، كثيرون باتوا يقصدون المركز لتلقّي العلاج، فعيادة الطبيب أضحت “موجعة” لكثيرين، وتحديدًا موظفي القطاع العام وذوي الدخل المحدود”.
يحظى المركز وفقًا لأبو زيد “بعناية خاصّة من قبل وزارة الصحّة، على اعتبار أنّه يقع عند خط تماس الحرب، فهي توفر له كلّ الأدوية المطلوبة سواء من مركز الكرنتينا أو عبر جمعيّة الشبّان المسيحيّة بشكل مفتوح، لأنّنا في حالة حرب ونستقبل كلّ المرضى النازحين”.
ويضيف أبو زيد بالقول إنّه “في ظل الأزمة المعيشيّة باتت هذه المراكز حاجة ضروريّة وملحة، إذ يصعب على ربّ الأسرة زيارة الطبيب في عيادته لمعاينة أولاده الثلاثة، يضطرّ إلى أن يقصد المركز الصحّيّ، الذي يوفّر علاجات الأطفال، الأسنان، الرئة المسالك البوليّة، الطبّ النسائيّ، وغيرها من الاختصاصات إلى جانب الصور الشعاعيّة والدواء”. ويشير أبو زيد إلى “أن هذه المراكز تحوّلت إلى مشافٍ صغيرة تقدّم خدماتها بشكل شبه مجّانيّ لجميع الناس”.
ويشير أبو زيد إلى “تسيير المركز عيادة متنقّلة، تتجوّل في عشر بلدات في قضاء النبطية، حيث تضمّ فريقًا طبّيًّا متخصّصًا وقابلة قانونّية، فتقدم خدماتها للمواطنين والنازحين من معاينات وأدوية وغيرها”. ويضيف: “نحاول أن نكون قرب الناس، لأنّنا نعرف أنّ أهلنا النازحين قد يعجزون عن التنقّل بسبب ارتفاع كلفة النقل”.
يوفر مركز الرعاية الصحّيّة شتّى الخدمات الطبّيّة إلى جانب الدواء بكلفة لا تتخطّى 400 ألف ليرة لبنانيّة، وهي كلفة زهيدة نسبيًّا
شهادات حية
تقول إلهام يونس التي تقصد الهيئة الصحّيّة الإسلامية إنّها تجري فحوصات دوريّة تكلّف في المختبرات الخاصّة ما يفوق أربعة ملايين ليرة، بينما تدفع ثمنها في الهيئة 700 ألف ليرة فقط. ومثلها سامية بيطار تقصد الهيئة الصحّيّة في النبطية لمتابعة علاج أسنانها. تقول لـ”مناطق نت”: “لا ميزانيّة ولا قدرة لزيارة طبيب الأسنان، أقلّ رصّة تكلّف بين 50 دولارًا و100 دولار، وذلك حسب النوعيّة”. تتابع: “بعض الأطباء باتوا تجّارًا، يطلبون معاينة مرتفعة، هي فوق قدرتنا”.
يحمل يوسف أرناؤوط وصفة الطبيب، يتقدّم نحو الصيدليّ للحصول الأدوية المطلوبة، برأيه “لا بديل للفقير اليوم عن هذه المراكز، فهي آزرتنا في زمن ارتفاع كلفة الطبابة”. لم يكن يوسف من روّاد المراكز الصحّيّة قبل الأزمة، كان وقتها “الوضع مرتاحًا ولكن مع تحلّل العملة والرواتب لم نجد غيرها سندًا لنا، فيها أشطر الأطباء فنتلقى العلاج، والفاتورة تبقى موزونة”.
يعاني حسن أبو علي من مشاكل في الكلى، لا يملك ضمانًا ولا تأمينًا، وزيارة الطبيب في عيادته تحتاج راتب شهر، يقول لـ”مناطق نت”: “هذا فوق قدرتي، لذا لجأت إلى المركز الصحّيّ، لأننا نتلقّى العلاج حسب إمكانيّاتنا”.
يحجّ الناس نحو المراكز الصحّيّة، التي شهدت في الأزمات المتكررة من أربع سنوات أو أكثر، نقلة نوعية، سواء في الهيئة الصحّيّة أو مركز الرعاية أو الصليب الأحمر اللبنانيّ، الذي لا تقلّ خدماته شأنًا عن غيرها من باقي المراكز، فهي كذلك شبه مجانية.
يستقطب المركز نسبة من المرضى، معظمهم من موظّفي القطاع العام وفق ما تؤكّد مصادر العاملين في المركز، وتلفت إلى أنّه “قبل الأزمة كان معظم المرضى ممّن يزورون مركز الصليب الأحمر من أصحاب المهن، في الوقت الذي كان فيه موظفو القطاع العام يقصدون العيادات الطبّيّة، اليوم انقلبت الموازين”.
ويشير المصدر إلى أنّ “المريض يتلقّى العلاج مقابل مبلغ 200 ألف ليرة فقط، ويحصل على الأدوية المتوافرة بشكل مجّانيّ”.