المسجد الكبير في بنت جبيل سيرة المدينة وذاكرة أبنائها
لطالما كان المسجد الكبير في بنت جيبل قبلة أهلها، خصوصًا في أيّام شهر رمضان. إلّا أنّه اليوم وجراء الحرب الهمجيّة التي طاولت القرى الحدوديّة ومنها بنت جبيل، ابتعد الأهالي عن جامعهم بكلّ ما للكلمة من معنى.
هو “الجامع الكبير”، كما يسمّونه أهالي بنت جبيل، ليس صرحًا دينيًّا للصلاة والعبادة فحسب، بل هو معلم تاريخيّ يعود تاريخ بنائه لأكثر من 300 عام. كما أنّ مكانته الاجتماعيّة ربّما توازي مكانته الدينيّة عند أهالي البلدة. وكان في بعض الأحيان يجمع تحت قبّته المنحى السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ في بنت جبيل، فينتج حالة خاصة توارثتها الأجيال.
لا يقتصر المسجد الكبير الذي يقع في “حاكورة نصّ الضيعة” على بناء يقصده الناس للصلاة وتأدية واجباتهم الدينيّة، بل يعدّ أكثر الأمكنة جمعًا للناس وملتقى الأحباب وسرّ الذكريات. اليوم في أيام رمضان، يفتقد أهالي بنت جبيل، النازح معظمهم، إلى زوايا المسجد الكبير وزينته التي كانت تضيء لهم أملًا بأيّام أفضل.
كان الشبّان يتهافتون في بداية شهر رمضان من كلّ عام لإعلاء البيارق والفوانيس والأضواء، فيضيء المسجد قلوب بلدة بأكملها. أمّا اليوم ينتصب المسجد خاليًا من أيّ ضوء، ومن كانوا يضيئون لياليه، رحلوا، كلّ بحسب أسبابه وعلى طريقته.
تاريخ من 300 عام
إنّ أقدم تاريخ لعمر البناء الأساس يعود إلى العصور الرومانيّة، حيث كان يوجد معبد رومانيّ تشير إليه إحدى الصخور هناك، وقد حفر عليها ما ترجمته “هنا بيت الربّ”، إضافة إلى العديد من الحفريّات التي تعيد تاريخ هذه المنطقة إلى ذلك العصر.
أمّا بعد ذلك، فهناك لوحة اكتشفت داخل المسجد قبل نحو خمسين سنة، وكتب عليها ما حرفيّته: “جدّد هذا المسجد المبارك ابتغاءً لوجه الله، الحاج علي ابن المرحوم المبرور الحاج أحمد البزّي أثابه الله ثواب المحسنين وله أجر الله يوم القيامة وذلك في أواسط أربعة وثلاثين ومائة ألف”. وهذا إن دلّ على شيء فعلى وجود المسجد بصيغته الدينيّة قبل العام 1134 هجري، إذ أعيد تجديده في هذا العام.
إنّ أقدم تاريخ لعمر البناء الأساس يعود إلى العصور الرومانيّة، حيث كان يوجد معبد رومانيّ تشير إليه إحدى الصخور هناك، وقد حفر عليها ما ترجمته “هنا بيت الربّ”.
وفي هذا السياق يقول الأستاذ في مادّة الأنثروبّولوجيا في الجامعة اللبنانيّة علي بزّي لـ “مناطق نت”: “إنّ تلك اللوحة هي أوّل وثيقة عن آل بزّي”، ويشير إلى أنّه في دراسة أجراها في العام 1979 عن القرابة وفي محاولة للوصول إلى شجرة عائلة آل بزّي، لم يصل إلى من ذُكرت أسماؤهم في اللوحة، “وهذا يدلّ على تاريخ المسجد القديم”.
مسجد تخطّى جغرافيّته
يرتبط المسجد ارتباطًا وثيقًا بآل بزّي، كونهم كانوا أوّل من جدّده، كما كانوا هم من استلموا زمام الأمور فيه. ويشير الدكتور بزّي إلى “أنّه في العام 1948 تمّ بناء مئذنة المسجد، بينما كانت القبّة قائمة منذ زمن طويل، وهي تعتبر من أعظم وأقدم قبب المساجد في جبل عامل خصوصًا ولبنان عمومًا. وكان المسجد أساسًا عبارة عن قبّة وما يقع تحتها فقط. مساحة الجامع كانت صغيرة نسبيًّا، وسنة إثر سنة أضيفت أجزاء عليه، حتّى أصبح كما هو عليه اليوم حيث تبلغ مساحته أكثر من دونم ونصف الدونم، مع ما يلحق به كالباحة الخارجيّة والمكتبة”.
وبحسب السيد محسن الأمين في كتابه “خطط جبل عامل” عن المسجد، أشار إلى “أنّه بنيت عليه قبّة عظيمة، وكان رئيس البنّائين الحاج حميدي الصفدي، الذي بنى سراي تبنين لعلي بك الأسعد. وبني سقف الجانب الشرقيّ من الخارج بالخشب، ثم بني سنة 1349 بـ “الشمينتو” كما جاء في الخطط.
ويظنّ الدكتور حكمت بزّي في كتابه “حقيبتي التاريخيّة” أنّ سكّان بنت جبيل “تواجدوا فيها قبل الإسلام. واعتنقوا الدين الإسلاميّ مع الفتوحات الأولى. وغيّروا أمكنة العبادة من دير إلى جامع”. ويظن بأن الجامع هو نفسه الذي ما زال قائمًا.
الجدير ذكره أنّ هناك وثائق محفوظة حتى اليوم، تثبت وجود أرض وقف مزروعة بالزيتون تبلغ مساحتها حوالي 100 دونم في بلدة قبس وهي من القرى السبع وتسمى زيتون قدس، وتعود ملكيتها للحاج سليمان بزي وهو من تقدم بها ليكون ريعها لمصاريف الجامع باسم المسجد الكبير في بلدة قدس. ممّا يؤكّد على أنّ هذا المسجد كان شاهدًا على تاريخ طويل، تخطّى حدود بنت جبيل.
شاهد على التاريخ والسياسة
فضلًا عن مكانته التاريخيّة، كان المسجد الكبير في السابق يقع في مركز وسطيّ بين “حاكورة نصّ الضيعة”، وبين السوق التجاريّة، التي كانت ولا تزال تقام كلّ خميس، ولكنّ موقعها كان في ما يسمّى بالـ “ساحة” في بنت جبيل. لذا كان الجامع في مركز وسطيّ، بين الحاكورة والسوق، فأصبح مقصدًا وممرًّا لكلّ من أراد الانتقال من جهة إلى أخرى.
كانت تقع بجانب المسجد ما تعرف بـ “أوضة الرجال” (غرفة) أو “المضافة” التي تتبع لبيت النائب الراحل علي بزّي، والتي كانت تقام فيها التجمّعات السياسيّة والاجتماعيّة الهامّة، والتي كان لها أثر كبير على كثير من الأحداث التاريخيّة التي عصفت ببنت جبيل وفلسطين ولبنان.
ولا يخفى عن أحد الدور الكبير الذي لعبته بنت جبيل ورجالاتها ومركزها في الثورة الفلسطينيّة، ومقاومة الانتداب الفرنسّي والاحتلال الإسرائيليّ. كما أنّ علماء كبارًا مرّوا على المسجد، من السيد هاشم الحكيم (1988- 1955) مرورًا بالسيد عبد الرؤوف فضل الله (1907- 1984) الذي أصبح إمام الجامع في أواخر الخمسينيّات، والسيد محسن الحكيم وغيرهم من العلماء الكبار. هؤلاء لا زالوا يُذكرون بشخصيّاتهم الفريدة والدور الكبير الذي لعبوه في إضافة ميزة خاصّة للمسجد المذكور. أمام كلّ ذلك، بقي المسجد صامدًا، شاهدًا، وحيدًا وفريدًا، على كلّ ما مرّ على بنت جبيل.
شاي الجامع الجامع
يقول الدكتور علي بزّي في حديثه لـ”مناطق نت”: “كنّا في طفولتنا ننتظر شهر رمضان من أجل سهرات الجامع الكبير، والتي كانت تبدأ بعد قراءة دعاء الافتتاح، وذلك في الستينيات”. ويضيف: “كانت تلك الليالي عامرة بالناس والمحبّة والخير، فكانوا يفترشون الباحات الداخليّة والخارجيّة للمسجد. وكان الأبرز في السهرة هو “السماور” وهو عبارة عن حوض ماء معدنيّ بداخله أنبوب اسطوانيّ الشكل يصل إلى القمّة، وعلى المحيط الخارجي للحوض يوجد صنبور لسكب الماء الساخن، وعلى جانبي هذا المحيط مقبضان يدويّان لتمكين حمله من مكان لآخر، ويملأ الأنبوب الأسطوانيّ بالفحم والجمر، فيساهما في غليان الماء من حوله حتّى يتصاعد بخار الماء الكثيف من فتحة في الأعلى، التي يرتكز عليها.
ويتابع: “وكان يستعمل لإضافة الماء الساخن على أكواب الشاي لـ”تخفيفه”، بعد تخمير الشاي في إناء آخر. ويذكر أنّ لمشروب “الشاي” مكانة كبيرة في طقوس أهالي بنت جبيل”.
ما بقي فريدًا في الأمر وملحوظًا، أنّ تلك العادات بقيت حيّة، برغم التطوّر الكبير إلى آخر أيّام السلم. فكان الأهالي يجتمعون في باحات المسجد كلّما سنحت لهم الفرصة. يسهرون ويتسامرون ويلتقون على كوب شاي.
يبدو جليًا اليوم، افتقاد الأهالي في رمضان لباحات المسجد، لم يلبثوا ينشرون صوره وذكرياتهم فيه وحوله عبر صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، خصوصًا بعدما خسر المسجد عزيزه وزائره الدائم موسى بزّي الذي قضى خلال نزوحه في أحد شوارع بيروت، وهو من ذوي الاحتياجات الخاصّة. وإثر خسارة الشاب علي أحمد بزّي في غارة إسرائيليّة غادرة، وهو الذي عاهد نفسه أن يزيّن باحات المسجد ومئذنته كلّما هلّ هلال الشهر “الفضيل”، بالإضافة إلى إصابة “خادمه” الأوفى علي سمير سعد بالغارة نفسها.
وآخر خساراته كانت وفاة سماحة السيّد علي السيد هاشم الحكيم (1924- 16 آذار/مارس 2024) عن مئة عام، وكان يختزن في عقله تاريخًا طويلًا، خصوصًا في مجال الدين والعلماء، وكان له مع المسجد الكبير رحلة خاصة.
فضلاً عن الشباب وكبار السن، تعلّق الفتيان والصغار بحكايا المسجد الكبير، برغم وجود عدد من المساجد الأخرى في البلدة. إلّا أنّ مكانته عندهم كانت مميزة، خصوصًا في “ليالي القدر”، حيث كانت تعجّ تلك الليالي بزائريه وتملأ بهم وصولًا إلى ما يحيط به من باحات خارجيّة وطرقات مجاورة. فينتهون من قراءة الأدعية ثم يتناولون حلويّات بنت جبيل الشهيرة من المرشوشة والنموّرة والمدلوقة. ثمّ يعودون إلى ممارسة الواجبات الدينيّة الخاصّة بتلك الليالي، إلى أن ينتهوا في السحر، فيتناولون السحور جماعة ويشربون الشاي.
يجمع أهالي بنت جبيل والجوار، أنّ لمسجد بنت جبيل الكبير روحانيّة خاصّة، لا يمكن وجودها في أيّ مكان آخر. ويقول أحدهم: “إنّ رمضان كان يعني لنا المسجد، بزينته وأضوائه وجمعاته، واليوم نعيش ليالي رمضان وكأنّنا لم نفعل”.
لم ترتفع الأضواء والزينة فوق مأذنة المسجد الكبير في بنت جبيل وساحاته احتفاءً بشهر الخير رمضان، استثنائيًّا هذا العام، ولم “يتجلَّ رمضان ويبتسم” لتفرّق شمل العائلات. نزح ابناء المدينة مرغمين، سكنوا في بلدات ومناطق لم يألفوها، وباتوا يستذكرون مع كلّ آذان مسجدهم الصامد قرب الحدود، ويتضرعون أن يأتي العيد وقد عادوا إلى الديار.