الموسيقار زكي ناصيف غنّى الوجدان اللبنانيّ وأغناه
في العام 2016 صدر كتاب تكريميّ عن الفنان زكي شاكر ناصيف المولود في مشغرة (البقاع الغربي) في 4 تموز/ يوليو من العام 1916، في مناسبة مرور مئة عام على ولادته، وهو المتوفّى في 11 آذار/ مارس من العام 2004، باشراف فكتور سحّاب تحت عنوان “الموهوب العالم”. نسترجع في هذه المقالة بعضًا من سيرته الفنّيّة.
والحال، يُستعاد هذا الفنّان اللبنانيّ المبدع في كلّ محطّة حرجة من تاريخ لبنان، فبعد نهاية الحرب المندلعة منذ العام 1975، راجت أغنيته “راجع راجع يتعّمر.. راجع لبنان/ راجع متحلّي وأخضر أكثر ما كان/ هلا يابا.. هلا يابا راجع لبنان/ يا زنود اللبنانية شدّي معنا/ ع الدبكة وع الغنّيّة رجعنا رجعنا/ نحنا صفّينا النيّة والله معنا/ دبكتنا انسانيّة وعونة إخوان/ هلا يابا.. هلا يابا راجع لبنان…”.
في كلّ محفل كانت تصدّح الحناجر بها وتتشابك الأيادي اللبنانيّة للرقص على أنغامها، تعبيرًا عن التمسّك بأرض الوطن، وأنّ هذا الشعب العنيد قادر دائمًا على النهوض والبناء، وهي أغنية كانت أوقع أثرًا من النشيد الوطنيّ في شدّ الهمم وفي الافتخار ببلاد الأرز والتبغ.
البدايات
والبداية دائمًا من البيت، ومن الأمّ، رشيدة إبراهيم (توفّيت في العام 1964) ذات الصوت الشجيّ، التي كانت تغنّي “الفراقيّات” بطريقة علي الحاج الحوماني (توفّى العام 1971)، حين كان في فرقة شحرور الوادي (أسعد الخوري الفغالي من بلدة بدادون). إذ كان يقول المعنَّى بطريقة تختلف عن طريقة الشحرور، فهذا الأخير كان يغنّي المعنَّى على مقام البياتي، وهذا كان مفرحًا أكثر، وأمّا هو فيغنّيه على مقام الراست، الحزين أكثر، مثلما يغنّونه في قضاء الشوف، وكلّ من سكن الشوف من دروز وشيعة يغنّون المعنَّى على هذا المقام، أي الراست.
وكانت والدته تقول: “يا حسرتي ناحت عليّ النايحة/ وخلّت دموعي عا خدودي سارحة”، وفاقًا لما صرّح به ابن مشغرة العبقريّ لسحّاب. وتعلّم الصبيّ من سماع الفونوغراف، الذي أحضره والده من دمشق آنذاك، ولا سيّما أسطوانات الشيخ سلامة حجازي المصريّ وقصائده وسيّد درويش.
وشاءت الأقدار أن تنتقل العائلة إلى بيروت في العام 1922 من أجل العلم والعمل، وكانت الإقامة في منطقة الطيّونة في ضاحية بيروت الجنوبيّة، قبل إنشاء جادّة سامي الصلح، ولم يكن الولد قد تجاوز السنوات الستّ. وهناك رتّل وأنشد في الكنيسة، وتعلّم العزف قليلًا على المجوز، وعزف العود هاويًا، فكان يردّد أغاني مطربي ذاك الزمن وقد اشتد عوده، نظير: محمّد عبد الوهاب وأمّ كلثوم.
ومن طريق تعلمّه في مدرسة المخلّص (الناصرة)، تعرّف إلى شلة موسيقيّين “بيارتة” في المدرسة البطريركيّة (المصيطبة) أبرزهم خليل مكنيّة، خال توفيق الباشا. وفي العام 1933 انضمّ إلى جوقة موسيقيّة تعهّدها اسكندر يارد، ضمّت إليه: ألكسي اللادقانيّ وخليل مكنيّة ونجيب الشلفون، تجول في المصايف، وتوسّعت لاحقًا لتضمّ سامي الصيداويّ، وعازف العود محي الدين سلام، ومن طريق مكنيّة تعرّف إلى توفيق الباشا وكانت صداقة مديدة.
التحق ناصيف في الأعوام 1936 و1937 و1938، بالجامعة الأميركيّة في بيروت، وتعلّم في قسم الموسيقى فيها العزف على البيانو وتمارين الصوت والكمان الجهير.
شاءت الأقدار أن تنتقل العائلة إلى بيروت في العام 1922 من أجل العلم والعمل، وكانت الإقامة في منطقة الطيّونة في ضاحية بيروت الجنوبيّة، قبل إنشاء جادّة سامي الصلح، ولم يكن الولد قد تجاوز السنوات الستّ. وهناك رتّل وأنشد في الكنيسة، وتعلّم العزف قليلًا على المجوز، وعزف العود هاويًا.
ويروي ابن مشغرة لسحّاب اضطراره للعمل في التجارة، في سوق الأرمن من العام 1939 إلى العام 1943، بسبب أزمة ماليّة تعرّض لها الوالد، من دون أن يثنيه ذلك عن متابعة الدراسة الموسيقيّة.
انطلاقة المشوار الفنّيّ
بدأ ناصيف مشوار الكسب من الموسيقى حين عمل في إذاعة الشرق الأدنى المنتقلة من فلسطين إلى لبنان، إثر النكبة في العام 1948، إذ التحق بها في العام 1953، من خلال صبري الشريف، وقد سبقه إليها “الأخوين” رحباني في الخمسينات من القرن المنصرم. ومن الإذاعة بدأت مسيرته في التلحين (مثل “أغنية يا عاشق الورد” من تأليف مصطفى محمود)، وأحيانًا في تعاون مع الرحابنة.
وكان العام 1957 هو عام الشهرة، من خلال اشتراكه في مهرجانات بعلبك، وشغله على التراث الشعبيّ والفولكلور، وقد شارك أيضًا في نسخة العام 1959 من المهرجان الشهير. وفي العام 1960، شارك في “مهرجان الأنوار” (احتفاليّة جريدة “الأنوار” لصاحبها سعيد فريحة، مالك دار الصياد)، بمعيّة توفيق الباشا. والنجم فيه كان وديع الصافي، الذي غنّى “لبنان يا قطعة سما”، ولحّن ناصيف أغاني:”سهرنا سهرنا وما نمنا” و”ليلتنا من ليالي العمر”، و”رقصة الأباريق”، ومجموعة من الدبكات.
ومن ثم تشكّلت “فرقة الأنوار” التي قدّمت عرضًا في باريس في العام 1961، وحفلات في بعض الدول العربيّة. وبعد كثير من الأعمال المشتركة الناجحة، انصرف ناصيف إلى العمل الفرديّ، فأنتج أعمالًا خاصّة به. ويمكن الإشارة إلى أنّه قام بتلحين تسع أغنيات للسيّدة فيروز. وكان للموسيقار الكبير آراء خاصّة في الفنّ أودعها مقابلاته لسحّاب، نعرض لأبرزها:
ميّزة المطربين
يمثّل تجويد القرآن، في رأي ناصيف، مدرسة للغناء الكلاسيكيّ العربيّ السليم، من حيث أنّه يمرّن الحجاب الحاجز، في الآيات الطويلة التي لا يجوز قطع قراءتها في وسطها، وهذا أمر ضروريّ لضبط الصوت، وتجنّب النشاز في الغناء. كما أنّ مخارج الحروف السليمة أساس يتعلّمه كلّ من ينشأ على التجويد.
كذلك يتملّك دارس التجويد المقامات الموسيقيّة العربيّة والمسالك في ما بينها، والبراعة في الانتقال من مقام إلى آخر عبر هذه السكك المقاميّة. ويستطيع دارس التجويد، وهو يرتجل النغم، في قراءته القرآن، أن يكتسب مقدرة فائقة في ارتجال الألحان.
جذور التراث
وفي ردّ على من يعتبر أنّ جذور موسيقانا سريانيّة، وأن ليس هناك من موسيقى لبنانيّة، أجاب ناصيف: أن ليس ثمّـة موسيقى لبنانيّة خالصة، فموسيقانا هـي جـزء مـن موسيقى بلاد الشام، التي نحن منها في عاداتنا وتقاليدنا. وقد عدّ بعضهم جواب ناصيف كان تعبيرًا عن فكره الميّال إلى العقيدة السوريّة القوميّة الاجتماعيّة.
وفي ردّ على من يعتبر أنّ جذور موسيقانا سريانيّة، وأن ليس هناك من موسيقى لبنانيّة، أجاب ناصيف: أن ليس ثمّـة موسيقى لبنانيّة خالصة، فموسيقانا هـي جـزء مـن موسيقى بلاد الشام، التي نحن منها في عاداتنا وتقاليدنا.
الجملة الموسيقية
وفي سؤال حول الجملة الموسيقيّة، رأى ناصيف أنّ جملـة الموسيقى التراثيّة، في الأساس، مستقاة مـن تقليد المغنّيّ للآلـة الموسيقيّة التي يعزفون عليها في قرانا، المجوز أو الربابة، إذ “الغناء محاكاة للآلة”. إذ الربابة أوسع مجالًا قليلًا من المجوز، الذي لا يؤدّي أكثر من ثلاث أو أربع درجات موسيقيّة، لذلك كلّ ألحان الغناء الريفيّ، مـن ميجانا وعتابـا ومعنّـى وغيرهـا، لا تتجـاوز الدرجات الخمس في السلّم الموسيقيّ. وعلى سبيل المثل، لا يتخطّى لحن الدلعونا أربع درجات، وكذلك أبو الزلف. وقد تحوّلت هذه الصفة إلى صفة دائمة ملازمة لغنائنا الشعبيّ.
عن الدبكة
أمّا تفسيره لمنشأ الدبكة، فيقول إنّها بدأت أهازيج يشدو بها فريق القرويّين المتجمّعين لرصّ التراب، على سطح بيت أحدهم، في مرحلة بنائه. كان أهل القرى، حين يهمّ أحدهم ببناء بيت، يتجمّعون “للعونة”، أيّ لإعانته في البناء. ومن هنا كان اسم الدبكة لرصّ السطح، دبكة الدلعونا (وهذه كلمة سريانيّة)، أيّ دبكة العونة.
في العام 2004، أنشأت الجامعة الأمريكيّة في بيروت برنامجًا أكّاديميًّا يحمل اسم زكي ناصيف تكريما لتلميذها الذي صار من أعمدة الموسيقى اللبنانيّة.
وفي المئويّة المذكورة، خصّصت مهرجانات بيت الدين أمسية خاصّة لناصيف، في 29 تموز/ يوليو 2016، بوصفه أحد أعمدة الموسيقى العربيّة اللبنانيّة، أتت بعنوان “يا عاشقة الورد”، وقد شارك في تقديمها أربعة مغنّين هم: سميّة بعلبكي ورنين الشعّار وزياد الأحمديّة وجوزيف عطيّة، مع فرقة موسيقيّة من عشرات الموسيقيّين أشرف عليها عازف البيانو غي مانوكيان.
واستعرضت فيها حوالى عشرين أغنية كتب كلمات معظمها وألّف موسيقاها الفنّان الراحل الذي طبع الموسيقى اللبنانيّة ببصمة خاصّة تجمع بين الهويّة الجبليّة والنزعة الرومانسيّة، منها: “يا عاشقة الورد” و”طلّوا احبابنا” وأهواك بلا أمل” التي سبق أن غنّتها السيّدة فيروز، إضافة إلى أغنية الختام “راجع يتعمّر لبنان”. وتخليدًا لذكراه، تحوّل المنزل العائليّ في بلدته مشغرة إلى متحف.