النازحون من ذوي الإعاقة.. لم ترحمهم الحرب ولم تلحظهم خطة الطوارئ
تتفاقم معاناة الجنوبيّين والنازحين جرّاء الحرب الإسرائيليّة الدائرة في غزّة والجنوب، وإذا كانت أثقال الحرب كارثيّة على عدة أصعدة، منها البشريّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والزراعيّة وغيرها، تبقى أشدُّ وطأة على فئة ذوي الإعاقة في لبنان ولا سيّما في منطقة الجنوب، الـ”معزولة”، حيث لا خطّة تلحظ وضعهم ومعاناتهم مع النزوح، إذ يلزمهم تدابير خاصّة، تضمن لهم عيشًا آمنًا.
يسرد الشاب وائل دغموش (28 عامًا) لـ”مناطق نت”، تجربته كشخص معوّق حركيًّا، حينما اضطرّ إلى النزوح من قريته “شقرا” الجنوبيّة، إلى بيت أقاربه في الضاحية الجنوبيّة لبيروت، لكنّه عاد واتّخذ قرارًا بالعودة إلى بلدته، برغم المخاطر التي قد تنجم عن البقاء فيها نتيجة العدوان الإسرائيليّ المتواصل.
يتحدّث دغموش عن معاناته فيقول: “هناك صعوبة في العيش خارج منزلي، حيث المكان غير مجهز بمستلزماتي الأساسيّة وخصوصًا لحركة تنقلي”. ويتابع: “نزحت إلى بيت أحد أقاربي ويقع في الطابق الثامن، حيث لا يوجد ء مصعد كهربائيّ فيه، والمنزل أبوابه ضيّقة، فلم يكن أستطيع التنقل في أرجائه أو استعمال المرحاض، من دون مساعدة من أحد. فقرّرت العودة إلى منزلي في الجنوب، في حين بقي جميع أفراد أسرتي في بيروت”.
حالة وائل ليست الوحيدة، ثمّة كّثر مثله اختاروا عدم الحديث عن معاناتهم، لاعتقادهم بأن لا شيء سيمكنّهم من حلّ أزماتهم. تقول السيدة “ن.ح”، من قرية مركبا الحدوديّة لـ”مناطق نت”، إنّ زوجها يعاني من إعاقة بصريّة، تمنعه من العمل، وهي مسؤولة عن تربية أطفالها، ونزوحها إلى إحدى قرى أقضية النبطية، ما فاقم من أزمة زوجها النفسيّة.
تعيش “ن.ح”، في الوقت الراهن، على المساعدات الحزبيّة “من الإعاشات، التي تتولّى الفعاليّات الاجتماعيّة في المنطقة تأمينها”. لكن ذلك لا يخفّف من معاناة زوجها. وتضيف: “الأمر صعب على المعوّقين ويشعر زوجي دائمًا بالشفقة والدونيّة جرّاء وضعه الخاص”.
دغموش: نزحت إلى بيت أحد أقاربي ويقع في الطابق الثامن، حيث لا يوجد ء مصعد كهربائيّ فيه، والمنزل أبوابه ضيّقة، فلم يكن أستطيع التنقل في أرجائه أو استعمال المرحاض، من دون مساعدة من أحد. فقرّرت العودة إلى منزلي في الجنوب، في حين بقي جميع أفراد أسرتي في بيروت.
خطّة الطوارىء تعزل المعوّقين
في خطّة الطوارىء التي وضعتها الدولة اللبنانيّة للتعامل مع الحرب الأخيرة، لم تلحظ أيّ بند أو وحدة متخصّصة للتعاطي مع ذوي الإعاقة، لناحية عمليّات الإخلاء وتأمين سلامتهم الجسديّة، وتجهيز مراكز إيواء دامجة لهم.
في هذا الصدد تشير الاختصاصيّة الاجتماعيّة والمنسّقة الميدانيّة للاتّحاد اللبنانيّ للأشخاص المعوّقين حركيًّا في الجنوب رنا غنوي، في حديثها لـ”مناطق نت”، إلى “أنّ وزارة الشؤون الاجتماعيّة كانت غائبة في هذه الحرب عن التعامل أو إدارة حاجيّات هذه الفئة، إذ تعاني الوزارة أزمة وتعثرًا ماليًّا، وميزانيّتها لا تتجاوز واحد بالمئة من ميزانيّة الدولة. وخطّة الطوارىء الوطنيّة التي وضعها مجلس الوزراء للحرب، كانت خطّة عموميّة وشموليّة، لم تلحظ موضوع ذوي الإعاقة في الجنوب”.
غنوي المسؤولة عن عمليّات التنسيق وجمع الإحصاءات في المناطق الجنوبيّة في الاتّحاد، تقول: “إنّ العدد الأكبر من ذوي الإعاقة لم يغادروا قراهم الجنوبيّة، والعدد الذي نزح منهم إلى مراكز الإيواء لم يستطع المكوث فيها طويلًا، سواء في صور أو غيرها، لأنّها غير مجّهزة في الأساس لإيواء الناس من الموت، ولا تحقّق الحدّ الأدنى من مستوى الحياة الكريمة لهم، وهي بالتالي لا تراعي وجود هذه الفئة وضرورة أن تكون المراكز دامجة”.
تعيش هذه الفئة التي قرّرت البقاء في المناطق الحدوديّة على المبادرات الشبابيّة والتطوعيّة التي يقوم بها أبناء القرى الجنوبيّة، من حيث تأمين المستلزمات الطبّيّة واللوجستيّة. هذه المبادرات سواء كانت فرديّة أو جماعيّة، لا تستطيع تأمين حاجيات ذوي الإعاقة بشكل كامل، وبالتالي لا يمكن أن تقوم مقام الدولة والجهات المعنيّة بهذا الملف، بما فيها جمعيّات ذوي الإعاقة أو المنظّمات الدوليّة. وهذه المبادرات الفرديّة أو ما يُعرف “بالنخوة”، قد تعرّض حياة الأشخاص للخطر، وكذلك ذوي الإعاقة.
تروما الحرب
تفنّد الاختصاصيّة غنوي معاناة ذوي الإعاقة في الحرب، فتقول: “هم بالأصل لا يتمتّعون بحصانة نفسيّة في الأيّام الطبيعيّة، وهذه المناعة غير المرتفعة تُشعرهم دائمًا بالعجز، ليس فقط من إطار الإعاقة الجسديّة بل نتيجة القوانين والمجتمع غير الدامج”.
وتتابع: “الشخص المعوّق، إذا قرّر الهروب، لا يمكنه الصعود في أيّ وسيلة نقل، وهو بحاجة إلى مساعدة الآخرين، ممّا يزيد من إحساسه بأنّه عالة على نفسه وعلى والمجتمع”.
وتشير غنوي، إلى “أنّ هذه الفئة تنعكس عليها الحرب نفسيًّا لعدّة أسباب: أوّلها يعود إلى كون المعوّقين فوق الخمسين عامًا قد تكون إصاباتهم نتيجة الحروب الماضية، ما يعيد إلى ذاكرتهم نوعًا من الصدمات أو “التروما”، فالحرب تجعلهم يستحضرون في ذاكراتهم الصعوبات الجسديّة والنفسيّة التي مرّوا بها سابقًا. والسبب الثاني، هو تروما الخوف أو المخاوف من تعرّضهم مرّة ثانية لإعاقة جرّاء الاستهداف. وثالثًا، شعورهم الدائم بالخسارة في حال فقدان شخص من أسرهم، أيّ خسارة معيل لهم، فتعيش هذه الفئة مع الخوف دائمًا”.
لبنان يوقع إتفاقيّات الإعاقة فقط
تنصّ اتفاقيّة حقوق الأشخاص ذويّ الإعاقة التي أُقرّت في العام 2021، وهي موقّعة من قبل الدولة اللبنانيّة، في البند 11 منها: “على أن تتعهّد الدول الأطراف وفقًا لمسؤوليّاتها الواردة في القانون الدوليّ، بما فيها القانون الإنسانيّ الدوليّ وكذلك القانون الدوليّ لحقوق الإنسان، باتّخاذ التدابير كافّة المُمكنة لضمان حماية وسلامة الأشخاص ذويّ الإعاقة الذين تتّسم حالاتهم بالخطورة، بما في ذلك حالات النزاع المسلّح والطوارئ الإنسانيّة والكوارث الطبيعيّة”. إلّا أنّ التزامات الدولة تجاه الاتفاقيّات، تبقى حبرًا على ورق، “وخير دليل على ذلك هو إقرار خطّة وطنيّة للطوارىء لا تلحظ هذه الفئة في لبنان” وفق غنوي.
وذكرت غنوي أنّ العواقب المؤلمة للعدوان الإسرائيليّ على قطاع غزّة، والقرى اللبنانيّة المحاذية للحدود مع فلسطين المحتلّة، دفعت الاتّحاد اللبنانيّ بالشراكة مع المنتدى العربي لحقوق الأشخاص المعوّقين، إلى تنظيم ورشة عمل في 4 شباط/ فبراير 2024، تحت عنوان “حقوق الأشخاص المعوّقين والمساعدة الإنسانيّة الشاملة”، والتي حضرها وزير البيئة ناصر ياسين الذي يعمل منسّقًا لخطّة الطوارىء الوطنيّة.
غنوي: وزارة الشؤون الاجتماعيّة كانت غائبة في هذه الحرب عن التعامل أو إدارة حاجيّات هذه الفئة، إذ تعاني الوزارة أزمة وتعثرًا ماليًّا، وميزانيّتها لا تتجاوز واحد بالمئة من ميزانيّة الدولة، وخطّة الطوارىء الوطنيّة التي وضعها مجلس الوزراء للحرب، كانت خطّة عموميّة وشموليّة، لم تلحظ موضوع ذوي الإعاقة في الجنوب.
بدورها تقول سيلڤانا اللقّيس، وهي رئيسة الاتّحاد اللبنانيّ للأشخاص المعوّقين حركيًّا، لـ”مناطق نت”: “إنّ الورشة كانت أشبه بورقة معايير دامجة لذوي الإعاقة على مختلف أنواعها، وترتكز على عدّة أصعدة، وعلى المعنيين الاستناد إلى توصياتها في الأزمات المختلفة، التي يمكن أن يتعرّض لها ذوو الإعاقة، وليس فقط الحرب، بل أيضًا في الأزمات الطبيعيّة وغيرها. إضافة إلى عنصر هامّ يتعلّق بخطط التعافي والنهوض بعد الحرب”. وهذا أيضًا ما تغفله الدولة اللبنانيّة بعد كلّ كارثة، وتجربة حرب تمّوز/يوليو لم تلحظ أيّ اهتمام أو تطوير للخطط المتّبعة على تأمين مجتمع دامج في أوقات السلم والحرب.
لمشاركة ذوي الإعاقة بالخطّة
تشير اللقيس، إلى أنّه وفقًا للتقارير الدوليّة، “إنّ ذوي الإعاقة يتعرّضون للموت أربعة أضعاف أكثر من المعدّل الطبيعيّ. ولكي يكونوا بأمان يجب بتّ خطّة طوارىء دامجة وواقعيّة وليس نظريّة، وتشمل الجميع”.
ومن ضمن التوصيات التي يجب أن تكون في خطط الطوارىء أو الاستجابة الإنسانيّة الشاملة، بما يتماشى مع اتفاقيّة حقوق الأشخاص ذويّ الإعاقة، هي “أن تكون فئة ذويّ الإعاقة مُشاركة بعمليّة وصناعة الخطّة وبتنفيذها. وأن تكون المعلومات عن مناطق النزوح واضحة ومتاحة، ومعرفة أماكن النزوح المجهّزة لتلبية الاحتياجات الأساسيّة لذوي الإعاقة. وضرورة العلم بالوسائل المتاحة للوصول إلى الأماكن الدامجة، إضافة إلى ضرورة تواجد فريق عمل مدرّب ولديه القدرات والوسائل لتلبية حاجات الأشخاص المعوّقين في أماكن النزوح”.
هذه التوصيات التي تأمل اللقيس أن تكون أولويّة لدى المعنيّين، دفعتها لأن تروي لـ”مناطق نت”، بعض التجارب المرّة التي حصلت في حرب تمّوز مع هذه الفئة، نتيجة عدم تمكنّهم من الهرب، فتقول: “هناك سيّدة مكثت بطفلتها التي تعاني من التوحّد أكثر من أسبوعين في الحمّام كي لا تزعج طفلتها الآخرين أو تتعرّض للأذى. وإحدى حالات الإعاقة اضطرّت إلى المكوث في بئر مياه للبقاء على القيد الحياة. وهناك العديد من المعوّقين لم تصل إليهم الإمدادات الغذائيّة”.
أمّا على صعيد المعلومات والإرشادات التي تنشرها الدولة اللبنانيّة في الأزمات، “فلا تلحظ لغة الإشارة أو أيّ طريقة مبسّطة مخصّصة لهذه الفئة، سواء من خلال الوسائل الإعلاميّة أو على مواقع التواصل الاجتماعيّ. في المحصّلة هذه الفئة مهمّشة من ناحية حقّها في الوصول إلى المعلومات، فهم لديهم القدرة على استعمال الإنترنّت”، وهذا الحق يراه كُثر “فلسفة وخططًا مستحيلة” حسبما تقول اللقيس، إذ يكفي أن تكون هذه الفئة “قربان التضحية التي تقدّم في الحرب والسلم”.
100 نازح من ذوي الإعاقة
في سؤال لإدارة وحدة الكوارث في صور والتي تقوم بالأعمال اللوجستيّة لإيواء النازحين والمساعدات، وعن دورها تجاه هذه الفئات المهمّشة، أشار نائب رئيس اتّحاد بلديات صور، حسن حمّود لـ “مناطق نت”، إلى “أنّ الأرقام أفادت بوجود 100 حالة مسجّلة من ذويّ الإعاقة، في حين وصل عدد النازحين اليوم إلى قرابة 25 ألف نازح”. وهذا ما يعتبره حمّود “غير واقعيّ وغير دقيق”، ويرجعه إلى صعوبة تصريح النازحين عن حالات ذوي الإعاقة، أيّ اعتبار إعاقاتهم غير مهمّة جرّاء الأزمة الراهنة.
يبلغ عدد النازحين في مراكز الإيواء ألف نازح، في حين يتوزّع 24 ألف نازح على القرى الآمنة، أو في ضيافة أقاربهم، ممّا يصعّب عمليات الإحصاء والعمل على التدخّل اللازم. يقول حمّود: “نعمل بإمكانيّات “صفر”، وقمنا بتدريب 65 شخصًا في الوحدة للتعامل مع ذوي الإعاقة، وهم يقومون منذ أسبوعين بجولات على مراكز الإيواء لإحصاء العدد، ومعرفة ما هي احتياجاتهم والعمل على تأمينها”.
أمّا في ما يخصّ إيجاد أماكن إيواء دامجة يختم حمّود: “هذا العمل يجب أن تقوم به الدولة، وليس من مسؤوليّة البلديّات، وتعاوننا محصور مع الجمعيّات المعنيّة التي يمكن أن تؤمّن كراسٍ متحرّكة، مستلزمات طبيّة، وغيرها من الأمور”.