الناقورة الأمميّة.. حكاية الأرض والبحر وفلسطين
على هذه الأرض (الناقورة) يعيش الآلاف، يحملون أربعين جنسيّة دوليّة، من ألوان وديانات وقارّات، حتّى أضحت بالقول والفعل، بلدة أمميّة، ومفتاحاً للحرب والسلم، وربّما لخلاص لبنان من جحيمه الاقتصاديّ.
اكتسبت الناقورة، منذ اتفاقيّة “سايكس بيكو” السرّيّة في العام 1916، التي قسّمت منطقة الهلال الخصيب، بين فرنسا وبريطانيا، بمباركة من الامبراطوريّة الروسيّة وإيطاليا، دوراً إقتصاديّاً وتجاريّاً وديموغرافيّاً، فكانت، ولا تزال خاصرة فلسطين الدافئة، تُبرم على تلّتها (رأس الناقورة) المشرفة على بحرها وبحر فلسطين، إتفاقات الهدنة (1949) وتفاهم نيسان 1996، وإظهار الحدود البرّيّة وصولاً إلى الحدث الكبير، المتمثّل باتّفاق ترسيم الحدود البحريّة، قبل أقلّ من سنة، وتمخّض عنه رسوّ منصّة استكشاف الغاز للمباشرة بأعمال الحفر داخل المنطقة الإقتصاديّة اللبنانيّة المواجهة لرأس الناقورة.
الناقورة، بلدة بحجم دولة صغيرة، تقع على مساحة 38 مليون متر مربّع، تمتدّ على شاطئ طويل، يبدأ من منطقة إسكندرونا وحتّى رأس الناقورة، تتميّز بسهلها الخصب وأحراج السنديان وآثار مدينة (أمّ العمد)، لكنّ الفرادة فيها، غياب الأملاك العموميّة البحريّة عند شاطئها الصخريّ، المملوك من قبل أفراد، من أبناء البلدة ومستثمرين حالياً، منذ المسح العقاريّ في ثلاثينيات القرن الماضي.
اكتسبت الناقورة، منذ اتفاقيّة “سايكس بيكو” في العام 1916، دوراً إقتصاديّاً وتجاريّاً وديموغرافيّاً، فكانت، ولا تزال خاصرة فلسطين الدافئة، تُبرم على تلّتها (رأس الناقورة) إتفاقات الهدنة (1949) وتفاهم نيسان 1996، وإظهار الحدود البرّيّة وصولاً إلى اتّفاق ترسيم الحدود البحريّة، قبل أقلّ من سنة
وللناقورة، جارة البصّة الفلسطينيّة، حدود بحريّة وبرّيّة طويلة مع فلسطين، عبرت منها سكّة الحديد، المحمّلة بالجنود والعتاد الإنكليزيّة، آتية من بئر السّبع (فلسطين) في أتون الحرب العالميّة الثانية في العام 1943، بعدما حفر الجيش الإنكليزيّ، في باطن أرضها نفقاً، بطول تسعين متراً، سبعون منه في داخل الأراضي اللبنانيّة والباقي في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة.
هذا النفق حُفر بزنود ومعاول مئات الأفراد من “المستعمرات”، من بينها الهند، وأيضاً تعب وعرق كثيرين من اللبنانيّين الجنوبيّين، الذين كانوا يتقاضون أجراً يوميًّا قيمته ليرتان لبنانيّتان، في تسوية أرض سكّة الحديد، وقد بات هذا النفق الذي أقفلته إسرائيل عند انسحابها في العام ألفين من الجانب اللبنانيّ، معلماً تاريخيًّا وأثريًّا، يحمل دلالات وطنيّة، ويحتلّ حيّزاً، لناحية تحرير القسم الموجود في أرض الناقورة اللبنانيّة.
قرية اليونيفيل
على مقربة من الحدود اللبنانيّة الفلسطينيّة، التي لا تزال معبراً لبعض الحالات الإنسانيّة والدينيّة والديبلوماسيّة وتبادل الأسرى، نبتت قرية صغيرة، في التاسع عشر من آذار العام 1978، بيوتها بيضاء وزرقاء، يسكنها جنود من قوّات حفظ السلام الدوليّة (اليونيفيل) التي حلّت بموجب قراري مجلس الأمن الدوليّ 425 – 426، يمثّلون بعد القرار 1701 أكثر من 36 دولة، من بينها دولة عربية واحدة هي قطر.
تملك هذه القرية، المنبسطة على مساحة عشرات آلاف الأمتار، بمحاذاة الشاطئ، مهبطاً للطائرات العاموديّة ومستشفى ميدانيًّا كبيراً ومقرًّا لقيادة اليونيفيل وقائدها العام والمكتب الإعلاميّ والإرتباط مع الجيش اللبناني. كما أنّها (تستضيف) محطّة لتكرير الصرف الصحّيّ، التي يستفيد منها غالبيّة أبناء بلدة الناقورة وقاطنيها.
ونسجت بين جنود هذه القوّات، الذين يجوبون الناقورة، سواءً للتسوّق، أو لتسيير الدوريّات المتواصلة، علاقات خدماتيّة وإنسانيّة واجتماعيّة، تكلّلت بتسجيل حالات من الزواج بين بعض بناتها من جنود دوليّين، ومنهم الفرنسيّون.
المرفأ الواعد
نشأ مرفأ الناقورة، في زمن الإحتلال الإسرائيليّ للمنطقة، وصار ميناءً لعشرات مراكب صيّادي الأسماك من أبناء البلدة وجوارها، واستخدم في نزول طلائع عناصر اليونيفيل الفرنسيّين في العام 2006.
نسجت بين جنود هذه القوّات، الذين يجوبون الناقورة، سواءً للتسوّق، أو لتسيير الدوريّات المتواصلة، علاقات خدماتيّة وإنسانيّة واجتماعيّة، تكلّلت بتسجيل حالات من الزواج بين بعض بناتها من جنود دوليّين، ومنهم الفرنسيّون.
ينتظر هذا المرفأ، الذي أضيف إلى المرافئ الشرعيّة في لبنان، تأهيله وتوسيعه وتعميقه، ليكون في القريب من الشهور، ربطاً بانتاج الغاز، قاعدة بحريّة للأعمال النفطيّة، وخط ترانزيت برّيًّا من الناقورة إلى منطقة المصنع في البقاع، في ظلّ وجود خطّ طريق مؤهّل، كما كان قد وعد في وقت مضى وزير الاشغال اللبنانيّ السابق يوسف فنيانوس.
وكان قد سبق للجنة الأشغال العامّة في مجلس النوّاب اللبنانيّ، في أيلول 2012، وضع دراسة لتطوير مرفأ الناقورة، ودراسة إنشاء خطّ سكك حديديّة، تصل المرفأ عبر منطقة البقاع، وصولاً إلى رياق، ثمّ إلى المصنع.
تلك التوصية، إذا ما تمّ العمل بها، تتكامل مع خطّة تطوير مرفأ الناقورة، الذي يوجد فيه حاليّاً حوض للصيّادين وبعض الحماية الإسمنتية “سنسول”، والتي كانت أطلقت في العام 2004، من جانب المديريّة العامّة للنقل البرّيّ والبحريّ. وفي هذا السياق يأمل رئيس تعاونيّة الصيّادين رياض عطايا، البدء بتنفيذ كلّ المشاريع المتعلّقة بالمرفأ، والتي ما تزال حبراً على ورق.
الروابط الاجتماعيّة
كان كثيرون من أهالي الناقورة، قبل نكبة فلسطين في 15 أيّار العام 1948، يعيشون في مدن وبلدات فلسطينيّة، وخصوصاً في بلدة البصّة المجاورة لحدودها، حيث سجّلت في تلك الفترة، التي كانت فيها فلسطين منتعشة إقتصاديًّا، حالات مصاهرة كثيرة، واستقرار للعديد من عائلات الناقورة، لعقود من الزمن.
ومع إحتلال فلسطين، عاد هؤلاء إلى الناقورة، التي استقبلت الآلاف من الفلسطينيّين وخصوصاً أبناء البصّة، ومنهم عائلة الجمل، التي حاز غالبية أبنائها الجنسيّة اللبنانيّة، وسُجّلوا في قيود الناقورة، وأصبحت هذه العائلة (السنّيّة) من أكبر عائلات الناقورة.
حسين هاشم: من البصّة إلى الناقورة
كان الراحل السيّد علي هاشم، يعمل في تجارة الزيت، بين الناقورة وبلدات فلسطينيّة، ومنها بلدة البصّة، التي كان يقصدها أهالي الناقورة، وهناك تعرّف هاشم إلى إحدى بناتها من آل مرتضى، فتزوّج منها وأنجب ولده حسين، قبل أن تختفي آثاره مع الجيش العثمانيّ، الذي ساقه إلى الحرب أيّام “سفر برلك”.
بقيت عائلة هاشم في البصّة، ومن أفرادها ولده حسين، الذي ولد وترعرع في البصّة، ثمّ تزوّج من إحدى بنات بلدته الناقورة من آل حمزة، وأنجب منها ولدين، وبعد إنفصالهما، تزوّج قريبته من آل هاشم وأنجب منها بنتاً، وهو لا يزال في البصّة، ثم نزح في العام 1948 إلى بلدته الأمّ الناقورة، بعدما عاش في البصّة 35 عاماً، عمل في خلالها في مجال النقل، حيث كان يمتلك شاحنة لنقل البضائع، وقد شارك في ثورة فلسطين في العام 1936 تحديداً، حيث كان ينقل الأسلحة لصالح الثوّار.
يقول حفيد علي ونجل حسين، السيّد هاشم هاشم، (قنصل جمهوريّة سيراليون في لبنان): “إن علاقة أبناء الناقورة، بأبناء فلسطين، وخصوصاً البصّة، الملاصقة للناقورة، كانت قويّة جدًّا، في مجال التجارة والعلاقات الاجتماعيّة، التي نجم عنها مصاهرات بين الجانبين”.
ويضيف هاشم لـ”مناطق نت”: “إنّ والدي نزح إلى الناقورة، مع والدتي ومع إثنين من أبنائه اللذين ولدا في البصّة، وأكمل حياته في الناقورة، وأنجب فيها عدداً من البنين والبنات”.
ويتابع هاشم (71 عاماً): “لقد عشتُ في الناقورة، حتّى سنّ الرابعة عشر، ثم هاجرتُ إلى سيراليون والتحقتُ وأخي التوأم حسن هاشم بأخي الكبير علي. لكنّني منذ ذلك الحين لم أنقطع عن لبنان والناقورة التي أعشق أرضها وهواءها وماءها وجيرتها لفلسطين”.
عواضة، آل سعد، وهبوا غالبيّة عقاراتهم لعائلات الناقورة
ترك الزميل واصف عواضة، الناقورة، في سنّ مبكرة إلى بيروت (1976) ليلتحق بعالم الصحافة، ثمّ بتلفزيون لبنان. حُرم من العيشِ في بلدته، مثل كثيرين من أبنائها، على مدى فترة الإحتلال بين 1978 و2000.
يقول: “إنّ الناقورة، تجمع كلّ مقوّمات الحياة والعطاء والرزق لأبنائها، الذي يجوبون العالم وراء لقمة العيش، من دون أن يتخلّوا لحظة واحدة عن حبّها والإنتماء إليها وتنشّق هواء فلسطين”.
ويضيف: “إنّ الناقورة، وهي أكبر بلدات منطقة صور مساحة جغرافيّة، كانت حتّى أربعينيّات القرن الماضي، تعود ملكيّة أراضيها بالكامل، إلى عائلة من آل سعد، وكان أهالي الناقورة، يعملون في الزراعة، مع هذه العائلة، أو مناصفة في الإنتاج الزراعيّ”.
وفي الأربعينيّات، كما ينقل عن والده، “قرّرت عائلة جورج سعد، توزيع غالبيّة أراضي الناقورة، على عائلاتها المزارعة بالتساوي، عن طريق القرعة، وهي عائلات يزبك، عواضة، هاشم، مهدي، طاهر، سبليني، حمزة، مليجي وبعض العائلات الصغيرة. وتمّ تقسيم الأراضي إلى عقارات وزّعت على العائلات بناءً على هذه القرعة”.
ويضيف عواضة لـ”مناطق نت”: “ذكر لي والدي إنّ كلّ العائلات كانت تأبى الحصول على أرض الساحل المجاورة للبحر، وتريد أرضها في المرتفعات التي تضمّ الخرّوب والزيتون والتين. إلّا أنّ مختار البلدة الحاج موسى يزبك قال لهم إنّه سيلتزم أرض الساحل، ربّما لأنّه كانت لديه رؤية أفضل من أهل الضيعة نحو المستقبل. وهكذا صارت الأراضي الساحليّة لآل يزبك. على هذا الأساس، كلّ عائلات الناقورة الأساسيّة، تملك عقارات في البلدة، باستثتاء آل الجمل، الذين قدموا من فلسطين في العام 1948، وتجنّسوا كلبنانيّين وسجّلوا نفوسهم في الناقورة”.
ويتابع عواضة: “أخبرني والدي، الذي كان برفقة جدّي أنّ كلّ شخص، كان يمثّل عائلة، عند توزيع الأراضي، بواسطة سحب ورقة (القرعة) وكلّ واحد كان يقول: “يا ريت تطلعلي (جوهرة) وهي قطعة أرض زراعيّة. جميعهم كانوا لا يتمنّون الأراضي الملاصقة للبحر، فكانت من نصيب آل يزبك. والمختار كان لديه ثلاث بنات تزوّجن من خارج الناقورة، ولاحقاً ، صار قسم من هذه الأراضي يمتلكها أزواجهنّ وأولادهنّ، ومنهم الأستاذ الصحافي عباس بدر الدين من النبطيّة الذي غاب مع الأمام السيّد موسى الصدر في العام 1978”.
يتابع عواضة الحكاية فيقول: “بعد توزيع الأراضي، احتفظ آل سعد بقطعة أرض تقدّر بنحو 16 ألف دونم متاخمة للحدود مع فلسطين. وفي أواخر الستّينيات كانت عائلة سعد، مديونة بمليون ونصف مليون ليرة لبنانيّة، لمصرف يملكه رجل الأعمال هنري صفير، فطرحوا عليه بيعه هذه الكمّيّة من الأرض مقابل المديونيّة. وهكذا صارت هذه الأراضي من أملاك هنري صفير، وأستمرّ الأهالي بزراعة هذه الأراضي على القاعدة نفسها، التي كان معمولاً بها مع عائلة جورج سعد”.
البلديّة والمخطّط التوجيهيّ والسياحة
يؤكّد محمود مهدي، رئيس بلديّة الناقورة السابق، “أنّ العلاقة مع قوّات حفظ السلام الدوليّة (اليونيفيل) هي علاقة ودّيّة وطيّبة، لكنّها لا تخلو من الشوائب، على خلفيّة عدم أخذ الناقورة حقّها بالخدمات والتوظيف، بحيث يتمّ التعامل معها كسائر البلدات، بالرغم من وجود أكثر من ألف عسكريّ ومدنيّ من اليونيفيل على أراضيها. وهذا ما يعدّ إجحافاً بحقّ الناقورة، التي تحتضن اليونيفيل، منذ 45 عاماً”. مضيفاً: “إنّ كلّ ما استفادت منه الناقورة، هو محطّة تكرير للصرف الصحّيّ، وهو بالنسبة إلينا أمر مهمّ بيئيًّا، ويرفع الضرر عن مياه البحر والثروة السمكيّة، إضافة إلى مشاريع وخدمات صغيرة”.
ويردف مهدي لـ”مناطق نت”: “إنّ أكثر العقبات، التي تعيق ازدهار البلدة ونموّها السياحيّ والتجاريّ، هو التصنيف العقاريّ للبلدة (المخطّط التوجيهيّ) الذي صنّف غالبيّة عقاراتها السياحيّة، محميّات وأراضٍ زراعيّة، ولم يلحظ سوى القليل من العقارات، مصنّفة سياحيًّا، تعود في غالبيتها لآل القصّار”. مضيفاً: “سبق لنا في البلديّة، أن تقدّمنا بمشروع إعادة تصنيف للأراضي، يضمّ الخرائط والأسباب الموجبة، إلى التنظيم المدنيّ، وإلى اليوم لم يطرأ أيّ جديد، برغم مرور نحو عشر سنوات”.
ويشير مهدي، إلى وجود مشكلة أخرى، تتمثّل في وضع مساحات واسعة من الأراضي المحيطة بالمرفأ قيد الدرس، ما يحرم أصحابها من التصرّف بها.
ويلفت مهدي، الذي يتابع النشاط السياحيّ، من موقعه كصاحب فندق في الناقورة اسمه “حلم البحر” إلى أنّ “معوّقات السياحة متعدّدة، أوّلها القيود المفروضة على الأجانب جميعهم، بمن فيهم العرب، من زيارة منطقة جنوب الليطانيّ الخاضعة للقرار 1701 من دون الحصول على تصاريح من الجيش اللبنانيّ”. مؤكّداً تراجع النشاط السياحيّ في المنطقة منذ انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، وما تلاها من “جائحة كورونا” والأزمة الإقتصاديّة، وارتفاع أسعار المحروقات بشكل كبير.