النبطيّة عاصمة “الشوفيريّة” تغلق “كاراجها” وذكريات الزمن الجميل
لم تعد ساحة النبطيّة التي يعرفها أهل المدينة باسم “السّهلة” (نظراً إلى وقوعها في سهلة متواضعة بين مجموعة تلال)، على سابق عهدها، إذ فقدت ذلك الضجيج الإيجابيّ الذي كان يدبّ فيها الروح، ويجعلها بوصلة العلاقة النابضة بين المدينة وقراها، بل بين النبطيّة ومختلف المدن الجنوبيّة والعاصمة بيروت، ناهيك عن علاقتها التواصليّة مع فلسطين قبل احتلالها سنة 1948.
لم يبقَ سائقو سيارات الأجرة المحور الأساس في حياة النبطيّة وساحتها، بدأ ذلك مع تطور تكنولوجيا السيّارات، والحياة الاقتصاديّة، والأعمال والوظائف، التي مكّنت معظم اللبنانيّين من اقتناء سيّارات خاصّة، لكن بقيت لمهنة “الشوفرة” نكهتها ومكانتها، في نقل الركّاب من المدينة وإليها، إلى أن حلّت باصات النقل (الڤانات)، بعشوائيّة في النبطيّة وفي غيرها من المناطق، قبل أن تجد لنفسها “موقفاً” قريباً من الساحة العامّة في عاصمة “الشوفيريّة” في جنوب لبنان، بات يستحوذ على مجمل الركّاب لأسباب عديدة، منها أجرة الراكب بين سيارة يمكنها إقلال عشرة ركّاب و15 راكباً، وبين سيّارة عاديّة محدوديّتها في خمسة ركّاب لا أكثر، فتراجعت “تكسيّات” النبطيّة الخاصّة إلى أدنى من عشرة.
زمن النبطيّة الذهبيّ مع “الشوفريّة”
كان للنبطيّة زمنها الذهبيّ في مهنة السّائقين وكثرتهم، وكانت تضجّ بهم السّاحة والمدينة بأكملها، إذ هم عصبها نحو أحيائها، وكذلك نحو القرى المجاورة والبعيدة، التي لم تكن فيها سيّارة أجرة واحدة حتى مطلع السبعينيّات من القرن الماضي.
كان السائقون في النبطيّة يشكّلون دورة حياة متكاملة، شغّلت دكاكينها ومتاجرها وحيّزاً مهمّاً من اقتصادها، ناهيك عن مردودها الذي أمّن معيشة كريمة للعشرات من أبنائهم وتعليمَ أولادهم إلى مراحل متقدّمة. كلّ ذلك كان قبل أحلام السفر التي بدأت تراود أبناء النبطيّة، وسمعة الإنتاج في دول الاغتراب بـ”الفرنك” و”الدولار”، وكذلك قبل الحروب الإسرائيليّة على جنوب لبنان التي هجّرت أهل النبطيّة لسنوات طوال، وقبل سيادة الباصات، و”الڤانات”.
قصص “الشوفيريّة” و”نهفاتهم” تنقّلت بالتواتر على ألسنة الآباء ثمّ الأبناء، وشكّل امتلاك السيّارات الحديثة في “عصرها” تبارياً استمرّ سنوات، قبل أن تداهم النبطيّة منافسة “البوسطات” (الأوتوبيسات) والتسابق على امتلاكها من قبل متموّلين جعلوا منها “أسطولاً” موصوفاً على مدى عشرين عاماً أو أكثر، ينقل الركّاب في كلّ حدب وصوب، وكذلك “الحجّاج” وتلامذة المدارس والرحلات السياحيّة.
البدايات و”الشوفريّة” الأوائل
من السائقين الأوائل المعروفين في النبطيّة توفيق قاسم جابر وعبدو علي بيطار وحبيب ضاهر وشقيقه حسن، وحسن بيطار ونجيب الصبّاغ، رشيد حمزة المقدّم ورشيد نصّار والعبد عبّاس جابر، وصلاح جابر (المعروف بملك الموت) ثمّ الرعيل الثاني المتمثّل بأبناء سعيد جابر: جميل وصبحي وأحمد، سطّام وفرج الصبّاغ، منيف بيطار وإبناه جميل ومحمّد، محمّد حبيب مشلب “مرَيْدِن” ولاحقاً أولاده حبيب وأديب وديب، جميل بيطار وأبو علي حسين شميساني “المَصْرَد” محمّد علي الصبّاغ وابنه كايد الصباغ وغيرهم.
ولم يكن جميع هؤلاء السائقين من مالكي السيارات، بل إنّ العديد منهم كان يمتهن القيادة “الشوفرة” ويشتغل باليوميّة، وكانت بعض السيارات لا تهدأ إذ يتبدّل سائقها بين رحلة طويلة نحو العاصمة بيروت، على سبيل المثال، والرحلة الثانية وربّما الثالثة والرابعة في خلال 24 ساعة متواصلة.
كان للنبطيّة زمنها الذهبيّ في مهنة السّائقين وكثرتهم، وكانت تضجّ بهم السّاحة والمدينة بأكملها، إذ هم عصبها نحو أحيائها، وكذلك نحو القرى المجاورة والبعيدة، التي لم تكن فيها سيّارة أجرة واحدة حتى مطلع السبعينيّات من القرن الماضي
كانت انطلاقة مهنة سائقي الأجرة في النبطيّة بنحو أربع سيّارات، ثم ثمانٍ، واتّسعت لتتجاوز العشرين في مطلع الخمسينيّات، خصوصاً بعد نكبة فلسطين سنة 1948، ونزوح آلاف العائلات الفلسطينيّة نحو الحدود الجنوبيّة اللبنانيّة، ما عزّز شغل السائقين في تلك الفترة بنقل المهجّرين عبر سهل “الحُولة”، من قرى حُولا والعديسة وكفركلا إلى النبطيّة ثمّ نحو مناطق أخرى في صيدا وبيروت.
منافسة الأوتوبيسات
في مطلع الخمسينيّات، أو قبلها بسنتين، اقتنى عبدو بيطار أوّل “بوسطة” (أوتوبيس) تتّسع لنحو 26 راكباً، ما دفع برشيد حمزة المقدّم (من زبدين جارة النبطيّة) إلى شراء “بوسطة” من نوع دودج صناعة 1942، بالشراكة مع شخص يدعى عبد المحسن من بلدة حاروف، جارة زبدين، تتّسع كذلك لـ26 راكباً، وتقول بعض الروايات إنّ المقدّم وشريكه اشتريا البوسطة سنة 1948 قبل بيطار بنحو سنة أو أكثر، الأمر الذي خلق منافسة محمومة بينه وبين العديد من سائقي النبطيّة، فسارع رشيد نصّار والعبد عبّاس جابر ورجل بيروتيّ من آل سكاكيني والعديد من الشركاء إلى شراء حافلة ثانية، وردّ المقدّم بشراء حافلتين حتّى اجتمعت قرب ساحة النبطيّة خمس حافلات يتسابق أصحابها في نقل الركّاب من النبطيّة وإليها، بأسعار تنافسيّة، وكانت محطتها الأساس في وسط النبطيّة، في السهلة، حيث يجتمع عند عودة أيّ بوسطة إلى المدينة عشرات المكارين ودوابهم لنقل الركّاب إلى بيوتهم وحاراتهم وقراهم، بينما يتولّى “طنبور” حبيب بيطار نقل البضائع والحمولة.
كانت إمكانات راشد المقدّم وعلاقاته مع شخصيّات تجاريّة في بيروت، أقوى بكثير من علاقات وأحوال “شوفريّة” النبطيّة، لذا تملّك لوحده بين 1950 و1964 أكثر من 8 أوتوبيسات، وصار عضواً (كاتباً) في “نقابة أصحاب الأوتوبيس” في بيروت قبل سنة 1959، بعدما افتتح مكتباً له في النبطيّة (نحو سنة 1951) يتولّى إدارة هذه الأوتوبيسات وتأمين سائقيها ومتابعة أمور الركّاب.
في سنة 1950، باع رشيد المقدّم نصف البوسطة إلى شريكه، واشترى حافلتين جديدتين، “واحدة خضراء والثانية زرقاء، تتّسع كلّ واحدة لـ32 راكباً. بعدها في سنة 1953، وكان قد تعرّف إلى الياس جبّور من بيروت، وهو وكيل شركة فارغو، فقدّم له الأخير أربعة أوتوبيسات من دون دفعات مسبقة، على أن يسدّد ثمنها من شغلها.
“كانت البوسطات تُستورد إلى لبنان من دون صندوق، أيّ حجرة الركّاب، وكانت الحجرات تصنّع هنا في لبنان، اضطرّ والدي إلى بيع واحدة من البوسطات بعشرة آلاف ليرة لبنانيّة لرجل من مدينة صور، من آل جودي، وذهب إلى معلّم سوري صديقه، يصنّع حجرات الحافلات في الحازميّة، تحت مسمّى “عديسي وحْبَيْل”، وقد ساعده هذا المعلّم في أنّه لم يطلب تكلفة إعادة تصنيع البوسطتين مسبقاً، بل جعلها مقسّطة على دفعات طويلة، وهكذا أصبح عندنا خمس بوسطات، ما أثار حفيظة خصومه من أبناء النبطيّة، وصارت الأجواء تنذر بمعركة قريبة” يقول زهير رشيد المقدّم في حديث إلى “مناطق نت”.
“معركة السائقين” ونهاية “امبراطوريّة البوسطات”
ما زاد في حدّة الصراع بين المقدّم وأبناء النبطيّة، هو اقتناء كلّ فريق واحداً من هيكليّ أتوبيسي “فيات” جرى استيرادهما عبر مرفأ بيروت. اشترى المقدّم واحداً، ورشيد نصّار وعبدو بيطار والعبد عبّاس جابر وسكاكيني وعلي نحلة وشركاء آخرون الهيكل الآخر، وقام كلّ فريق على حدة بتركيب حجرة الركّاب في مصنعين مختلفين في بيروت، فجاء أحد الأوتوبيسين أشدّ أناقة من الآخر، ما وتّر النفوس وصارت جاهزة للمعركة.
في سنة 1956، شهدت سهلة النبطيّة “أكبر مجزرة تشطيب بالأمواس، بين فريقنا ومعظمه من أشقائي (6 أشقّاء) وأقاربنا أو من أهل بلدتنا زبدين والعاملين في كاراج والدي، وبين مجموعة النبطيّة من أنصار رشيد نصّار والعبد عبّاس جابر وعبدو بيطار وسكاكيني. دارت رحى المعركة في وسط السهلة وامتداداً نحو الأحياء القريبة، أصيب في خلالها أكثر من 16 شخصاً، كانت جروح بعضهم بليغة تركت ندوباً في وجوههم أو أجسادهم. أتت قوّة من الجيش من مرجعيون، وقوّة من الدرك، اعتقلت العديد من المتعاركين وحتّى المصابين وأوقفتهم في مركزها، في السرايا العثمانيّة وسط حي السّراي.
جرى توقيف البعض ستة أشهر كاملة، ثم أُفرج عن الجميع بأسقاط حقوقهم، لكن الخصومة استمرّت 14 سنة حتّى جرت المصالحة سنة 1970، في هذا الوقت كانت أمبراطوريّة بوسطات والدي قد انتهت في النبطيّة ولم يعد لها من أثر، فيما بقي كاراجنا في بيروت يعمل حتّى منعت حكومة الرئيس رفيق الحريري السيّارات العاملة على المازوت” يضيف زهير المقدّم لـ”مناطق نت”.
في سنة 1956، شهدت سهلة النبطيّة “أكبر مجزرة تشطيب بالأمواس. دارت رحى المعركة في وسط السهلة وامتداداً نحو الأحياء القريبة، أصيب في خلالها أكثر من 16 شخصاً. أتت قوّة من الجيش من مرجعيون، وقوّة من الدرك، اعتقلت العديد من المتعاركين وحتّى المصابين وأوقفتهم
لعب قرار الرئيس كميل شمعون سنة 1960 بمنع السيّارات والحافلات العاملة على المازوت دوراً كبيراً في انهاء عصر حافلات الركّاب في النبطيّة. باع فريق أبناء النبطيّة أوتوبيساتهم لعدم قدرتهم على تحويلها عاملة على البنزين، وهذا كان يستوجب شراء محرّكات جديدة. أمّا رشيد المقدّم فقد حوّلها على البنزين واشترى بوسطة جديدة سنة 1964 تعمل على البنزين.
يقول ابنه زهير الذي عمل سائقاً على هذه البوسطة في تلك السنة: “تحوّل مصروف البوسطة من 4 ليرات عندما كانت تعمل على مادّة المازوت، إلى 35 ليرة أو أربعين للعاملة على مادّة البنزين. زدنا أجرة الراكب ربع ليرة، فصار يفضّل الانتقال في سيّارة عموميّة عاديّة لا تحتاج وقتاً طويلاً كي تتحرّك نحو بيروت، بينما كان على البوسطة أن تنتظر بين ساعة وساعتين لكي تمتلىء، ناهيك عن إهمال السائقين والعديد من الأمور، فصارت الخسارات تتراكم، وكان لا بدّ لأبي من أن يبيع حافلات النبطيّة ويكتفي بمكتبه وسط ساحتها، ومكتب بيروت وحافلاته”.
من المفارقة أن رشيد المقدّم قضى بحادث سير بتاريخ 5 حزيران سنة 1991 عن 85 عاماً، بينما كان يقود سيارته من نوع “ڤولز ڤاكن” وووري في حديقة منزله في زبدين، إلى جانب سيارته الأولى وهي من نوع فورد 1929.
كاراج النبطيّة “على صيدا، على بيروت”
في سنة 1962 أنشأ عبد الحسن شعبان (أبو رائف) وحسن شريف بدر الدين (أبو أحمد) مكتباً قريباً من موقف المقدّم، يطلّ على وسط الساحة، وأطلقا عليه تسمية “موقف النبطيّة”، لإدارة مواصلات سيّارات الأجرة التابعة لأبناء النبطيّة، من المدينة نحو صيدا وبيروت وغيرها من المناطق اللبنانيّة، بعدما كان تزاحم عشرات سيّارات الأجرة قد بلغ حدّه في الساحة الضيّقة لعاصمة جبل عامل، وصار التنافس على “اصطياد” الراكب يتسبّب ببعض المشاكل، فكان لا بدّ من تنظيم هذه العمليّة على غرار ما يجري في العديد من المدن اللبنانيّة الأخرى.
يقول النقابيّ علي محي الدين لـ”مناطق نت”: “يوم أُنشئ كاراج النبطيّة، كان عدد أصحاب السيّارات والسائقين في النبطيّة لوحدها، قد تجاوز الستّين سائقاً”.
كان السائقون ينهضون قبل الفجر لكي يحجزوا أدوارهم في “الكاراج”، فيسجّلون أسماءهم ضمن لائحة تنظّم اصطفافهم أمام المكتب، لكي يتأمّن لصاحب الدّور ما يلزم من ركّاب، وكان العدد الإجماليّ للركّاب في السيّارة العموميّة الصغيرة لا يتجاوز الخمسة. كان هذا الإجراء يُلزم صاحب العربة أن يدفع قسطاً من أجرة الراكب للمكتب. بطبيعة الحال، لم يُلزم “كاراج النبطيّة” جميع السائقين بضرورة التسجيل في المكتب، إذ كان يسعى بعضهم إلى “اصطياد” الراكب قبل وصوله إلى الساحة، أو من أمام بيته.
النقابيّ علي محي الدين: يوم أُنشئ كاراج النبطيّة، كان عدد أصحاب السيّارات والسائقين في النبطيّة لوحدها، قد تجاوز الستّين سائقاً
أمّا السيارات التي كانت تعمل في داخل المدينة وضمن أحيائها، فكان أصحابها يعتمدون على علاقاتهم الخاصّة بهذه العائلة أو تلك، في نقل الركاب من بيوتهم أو إيصالهم إليها، خصوصاً في مواسم المدارس، لا سيّما في عمليّة نقل التلامذة والطلّاب إلى مدارسهم في داخل المدينة، أو إلى خارجها في صيدا، وربّما في بيروت.
كان سعيد قاسم جابر يعمل سائق عربة (عربجيّاً) يقودها حصانان من النبطيّة إلى صيدا، عبر طريق ترابيّة. مع دخول السيارات الميكانيكيّة إلى ساحة النبطيّة، ترك عربته وصار يعمل بصفة “سمسار” ركّاب، معتمداً في ذلك على معارفه السابقة وسكنه قرب الساحة. بعد وفاته بتاريخ 30 آذار 1970، تسلّم مهمّته شريف فحص من النبطيّة، ثم ابنه محمّد. وكان محمد علي سليمان “أبو يوسف” آخر المنادين على الركّاب في سهلة النبطيّة، وكان يتميّز في آخر سنين عمله، بخلطه بين كلمتي صيدا وبيروت بنغمة غير مفهومة، لكنها صارت معروفة للجميع أنّه ينادي عبارة مفادها: “على صيدا.. على بيروت”.
سيارة عموميّة بدل صالون الحلاقة
كان محمّد علي الصبّاغ “أبو كايد” يعمل حلّاقاً في صالونه الواقع في وسط ساحة النبطيّة، والذي يشكّل ملتقى معظم السائقين، فيتبادلون الأحاديث أمامه، ومنها حساب “الغلّة” اليوميّة من الركّاب الذاهبين إلى بيروت والعائدين منها “كان حبيب ضاهر يعدّ الغلّة اليوميّة أمامه، فيتساءل أبي في قرارة نفسه: أنا أشتغل طوال النهار والمقصّ في يدي كي أحصل على مبلغ خمس ليرات في اليوم أو دونه، لماذا لا أتعلّم القيادة وأقتني سيّارة أجرة؟ وبالفعل، صار ينتظر يوم الجمعة، يوم عطلته، ليذهب إلى بيروت، إلى مكتب موسى أصفهاني في محلّة البسطة لتعليم القيادة وتأمين دفاتر السّوق، وبعد شهرين تعلّم السواقة وحصل على دفتر يؤهّله قيادة سيّارة عموميّة” يقول ابنه الحاج كايد الصباغ الذي تجاوز الثمانين من العمر.
باع “أبو كايد” دكّانه بأقلّ من ثمنه، “بنصف القيمة”، بلغ 2500 ليرة “واشترى سيارة من زكي عيد، من مرجعيون، صنع 1945، مع نمرتها العموميّة بمبلغ 4500 ليرة، وطلب من محمّد مشلب (مريدن) أن يشتغل عليها، لكنّهما لم يتّفقا طويلاً فصار يشتغل عليها بنفسه. لاحقاً صار يلحظ اهتمامي بالسيارة، لجهة تنظيفها وغسلها، كنت في الرابعة عشر، عندما رحت أتعلّم على قيادتها، ولم يطل الأمر حتّى اشتريت بمساعدته سيّارة فورد صنع 1930، وكنت أقودها في داخل النبطيّة، لا أجروء على القيادة إلى خارج البلدة مخافة الوقوع في قبضة الدرك، إذ كنت تحت السنّ القانونيّة التي تخوّلني القيادة، وكنت أصغر سائق في النبطيّة، ولمّا بلغت الثامنة عشرة، صرت أشتغل على خطّ الجنوب، العديسة والطيبة، بأجرة ليرة ونصف الليرة للراكب” يقول الصبّاغ لموقع “مناطق نت”.
لاحقاً في سنة 1950 اشترى كايد الصباغ سيّارة مرسيدس تعمل على المازوت، وصار يشتغل عليها بتقطّع كلّ من يوسف فحص ونديم جابر وطنّوس فرّان وأبو علي بيطار وكامل زهري، وبعد عشر سنوات قرّر السفر إلى الغابون فتركها مع سائق من بيروت، ولمّا عاد بعد سنتين باعها وتفرّغ للعمل في الغابون.
باع “أبو كايد” دكّانه بأقلّ من ثمنه، “بنصف القيمة”، بلغ 2500 ليرة “واشترى سيارة من زكي عيد، من مرجعيون، صنع 1945، مع نمرتها العموميّة بمبلغ 4500 ليرة
عن زمن السيارات الجميلة في النبطيّة، يقول الحاج كايد الصبّاغ: “اشترى صبحي جابر، ابن سعيد جابر نحو العام 1947 سيارة فورد مقفلة صنع سنة 1928، كان يحمّلها بعشرين راكباً: خمسة في الداخل، وخمسة على كلّ جانب من جانبيها، على “المارش”، واثنان على الرفرافين الخلفيّين، وثلاثة على “الأستيبنه Stepney” في خلفيّة السيارة. ومثله صار يفعل ممّن امتلكوا سيارات فورد في ذاك الوقت. كان زمن السيّارات في النبطيّة زمناً لا مثيل له، زمناً لا يعوّض”.
أمّا عقاب من وقع بقبضة دوريّة درك، فكان قصّ “مارشات” سيّارة الفورد عند المعلّم موسى اليهوديّ (من آل أونستاس) في حي السراي، في النبطية وكان يعمل ميكانيكيّاً وحدّاداً ودهّاناً (توفّي سنة 1961).
أشجع السائقين “الفدائيّ”
في عام الثورة، 1958، برز السائق جميل الشقّور من النبطيّة، كأشجع سائق أجرة حاز لقب “الفدائيّ” وبقي يلازمه حتّى الممات. ظلّ الشقّور في تلك السنة، والثورة، يقصد بيروت يوميّاً، لا يهاب الاشتباكات التي تدور هنا وهناك، أو قطع الطريق، فينقل الركّاب “المضطّرين” إلى بيروت، أو يعود بهم إلى النبطيّة، حتى لو اضطره الأمر إلى سلوك طرق ترابيّة أحياناً، أو طرقات تقع في دائرة الخطر والاشتباكات، فنعته رفاقه السائقون بـ”الفدائيّ”.