النزول من العديسة والصعود إلى برج بابل.. آل بعلبكي عائلة تسكن اللون
ليس جديدًا اقتران إسم عائلة، بمجال فنّي كما هو الحال مع الموسيقى وآل الرحباني، والغناء وآل بندلي، والنحت وآل بصبوص، والتشكيل وآل بعلبكي. عن هذه العائلة الأخيرة سوف نذهب برحلة، تنطلق من بلدة العديسة الجنوبية، لتدخل الجلجلة المدينية، ثم تتشعب الطاقات بما يفوق حدود البلاد.
اختبر الأخوين عبد الحميد وفوزي بعلبكي، الحياة القروية في الزمن الصعب، حيث كانت الخدمات شحيحة. ببيوت لم تصلها الماء ولا الكهرباء، فنهلا من روعة الطبيعة البكر، وأشغلا جميع الحواس نظرًا وسمعًا وشمًا، ولمسًا وتذوقًا، فتعايشوا كما أترابهم مع ما تجود به كروم العنب والتين، وما تقدمه الأرض على جوانب الطريق، من علت وقرص عنّة وخبيزة وبابونج وأصبع زينب واقحوان ودحنون وسكوكع. هناك النهارات منذورة لمطاردة الفراشات والقفز مع الجنادب، والصلي للعصافير وصناعة “عنكوش” النقّيفة ورمي الحجارة بالمقلاع.
ظهرت موهبة الرسم عند الطفل عبد الحميد، ثم عند شقيقه الأصغر فوزي، وهي مؤشرات تبدأ من لحظة العلاقة بالوحل، والفحم والشحتار والطبشور. قبلهما كان الشقيق الأكبر عبد المجيد قد راقص الفن من بوابة النحت، إنما بإيقاعات خجولة، فأخذته الحياة نحو مهن عدّة، فرضتها ظروف العيش.
اختبر الأخوين عبد الحميد وفوزي بعلبكي، الحياة القروية في الزمن الصعب، حيث كانت الخدمات شحيحة. ببيوت لم تصلها الماء ولا الكهرباء، فنهلا من روعة الطبيعة البكر، وأشغلا جميع الحواس نظرًا وسمعًا وشمًا، ولمسًا وتذوقًا
دلف عبد الحميد نحو بيروت لاستكمال علومه، فدرس واشتغل في التعليم، ثم دخل كلّية الفنون أواخر الستينيات ليتخرّج في العام 1971 حاصدًا المركز الأول، لينال منحة استكمال الدراسة في باريس. آنذاك، أنجز جداريته الأشهر “عاشوراء”، لتكون محل اهتمام الجميع، إلى أن يتبيّن أنها قد سرقت من الجامعة، ولم يظهر لها أي اثر، ومن حسن الحظ كان قد التقط لها صورة، فعاشت تلك اللوحة، ولو في إطار فوتوغرافي.
بدوره سلك فوزي بعلبكي طريقاً مشابهة، فتشارك وشقيقه عبد الحميد ذلك الشغف بالرسم والقراءة، ومتابعة جل ما يحصل في الحركة الثقافية، فكانا ابنين نجيبين لزمانهما الخصب.
بيت بمواهب كثيرة
من بين أولاده الثمانية، وحده أسامة من حمل فرشاة الرسم ليتخرج من المعهد ذاته الذي تخرج منه والده عبد الحميد، ليصنع هويّة للوحته التي تشبه قصيدة الهايكو اليابانية، لامتلاكها ثنائية البساطة والدهشة الصارخة.
لباقي أبناء عبد الحميد مواهب ما فوق العادة، لتحلّ بصماتهم حين يكونون، فها هي ابنته الكبرى سمية، تصدح بصوتها المصقول، صامدة في الخط الراقي الأصيل، الذي اتخذته لنفسها، فاعتلت أهم المسارح العربية، لتتوج مسيرتها بالغناء في مهرجانات بعلبك، حيث وقفت فيروز وصباح ذات زمن ذهبيّ. أيضًا برز منذر في التمثيل، ولبنان كقائد أوركسترا، وسلمان كعازف إيقاعات، وجمانة كصحافية.
كوفية الفدائي
من أبناء فوزي بعلبكي، برز في فن التشكيل سعيد، الذي اشتغل على فكرة “البراق”، وطار به ومعه، حيث هو الآن في برلين. أما شقيقه الأصغر أيمن فقد أدهش الوسط النقدي بجدارياته المشيدة على ثيمة وجه الفدائي الملثم بالكوفية، ليتابع مساره بتلك اللطخات اللونية، التي يوحّل بها الخامة بأصابعه، كأنه في مختبر يصنع فيه اللوحة، وتصنعه هي بدورها. اللوحة الأشهر لأيمن كانت “برج بابل” التي حققت رقماً قياسياً في مزاد كريستيز في دبي، بسعر يقارب النصف مليون دولار، ليكون بذلك من أبرز التشكيليين العرب بأفق عالمي، حيث لإسمه رنّة حيث تحضر لوحته.
فروع عبد المجيد
من أبناء الأخ الأكبر عبد المجيد، برزت هدى، وحسين في مجال الرسم، فاختار الأخير الأسلوب التجريدي كوسيلة تعبير، بينما اتخذت لوحة هدى بعلبكي خطًا تعبيريًا، لتنطلق من الوجه، أو المنظر الطبيعي، لتقدمه بطريقتها الجريئة، التي لا تخلو من الوحشية، انما بانسيابية متولّدة من ذلك التوازن في توزيع العناصر، فتمهّد المساحة أمام الكتل الذهبية. هدى ترسم يومياً، وتتجدّد مع كل عمل، وتتفنّن بكسر المألوف، وملاعبة العين. من ناحيته اعتنق حسين اسلوب التعامل مع اللون، خارج قيد الشكل، متفلتاً من المعنى الذي يقيد آفاقه التعبيرية، وهو بذلك يغامر، حيث نعيش في بلاد لم تعتد على اللون الصرف، ولا الموسيقى الصرفة.
هل هي الجينات؟
سبعة فنانين تشكيليين من العائلة ذاتها، ليس بينهم مَن هو متطفل على القماشة، بل على العكس تماماً، حيث نكتشف ان جميع تلك الاسماء قد عزّزت فعل السيطرة على الفرشاة، بتلك الثقافة التشكيلية والفلسفية والأدبية، فينتبه المقتني والناقد والذواقة، أنه أمام قامة تحسن إطلاق السهم، وتنتظر بثقة بلوغه نقطة الهدف.
سبعة فنانين تشكيليين من العائلة ذاتها، ليس بينهم مَن هو متطفل على القماشة، بل على العكس تماماً، حيث نكتشف ان جميع تلك الاسماء قد عزّزت فعل السيطرة على الفرشاة
اليوم، ثمّة من يحسم بأن بروز كل هذه الطاقات من ذات العائلة، يعني أن للأمر بعدًا جينيًا “بلا جدال”. لكن هناك أيضًا من يجادل ويطرح فرضية ثانية، فحواها ان البيوت التي تحتشد بالآلات الموسيقية والنوتات، لا بد ستنعكس على آذان الأبناء وأصابعهم، ليبرز منهم أكثر من فرد، وكذلك هو الحال مع البيوت التي تشبه المحترفات اللونية. وقد يكون الراي الحاسم، ان الامر يجمع البعد الجيني بالبعد البيئي.
بلدات بلا فنون
فلنخلق محاكاة مع ذلك الزمن، ولنرجع إلى العديسة ولنتخيّل سويًا، لو اختار الأخوين عبد الحميد وفوزي البقاء في البلدة، ولنرسم سيناريو مسارهما المهني، ففي أحسن التصورات، سوف يعملا في مجال التدريس، في قرية مجاورة، على أن يقوما برسم الوجوه كتسلية ما بعد الظهر.
المفارقة ليست هنا، بل تكمن في مرور كل تلك السنوات، دون ان نتعرّف في الجنوب على صالة تشكيلية واحدة، حاضنة للفنون، وإن وجد مكان لعرض اللوحات، فهو اجراء استعراضي آني بلا آلية اعلان وتسويق، وتصريف. حتى يومنا هذا، لا تزال العاصمة بيروت مركزًا للصالات الاحترافية، ولتلك شروطها التي قد لا تتطابق مع مقدرات الرسام المالية، أو التسويقية.
.. وإلى العديسة يعود
في العام 2013، رحل الفنان عبد الحميد بعلبكي، بعد سنوات قضاها على مزاجه، فكتب الشعر ورسم الكاريكاتور، وأصدر مجلة حررها بكاملها، فطبعها ووزعها بنفسه، وترأس “جمعية الفنانين اللبنانيين للرسم والنحت”، كما اهتم بالتأريخ والحفظ، وجمع الكتب، خاصة النادر منها، بل في مرة زرته في محترفه، فسألته عن تلك القطعة السوداء المحشورة في مرطبان زجاجي، فأجابني: “هذه ورقة متطايرة من حريق بيروت، في العام 1982”. يومذاك أخبرته اني رأيته في الشياح، حين كنتُ طفلاً، في زمن راح فيه الجميع يرمون بجميع الاغراض والذخائر والكتب واللوحات والصور التي تحمل صبغات حزبية، إذ كان أمين الجميل قد وصل إلى كرسي الرئاسة، والأجواء في الضاحية كانت متشنجة، حيث كانت الدبابات الاسرائيلية في الجوار!
آنذاك شاهدت ذلك الفنان، وهو ينتقي الكثير مما يُلقى على كوم النفايات، ليحمله معه إلى بيته في شارع مارون مسك، غير آبه بكل ما يجري. بعدها بسنوات، التقيت الفنان عبد الحميد بعلبكي في البيت الآخر الذي سكنه في شارع الحمرا. هناك حدثني عن البيت الحلم الذي يشرع بتشييده في بلدته العديسة. أخبرني انه سيكون عبارة عن متحف، ليقف صرحاً ثقافياً وحضارياً، قبالة أرض فلسطين المحتلة.
بالفعل حقّق الكثير من هذا، لكن شذّاذ الآفاق دخلوا البيت\المتحف في حرب تموز 2006، ونهبوا بعض الوثائق من المكان.
الآن يرقد عبد الحميد بعلبكي في ذلك البيت، في قبر مجاور لقبر زوجته أديبة رمال، التي كانت قد سبقته بالرحيل. ليكون السكن على بعد امتار من الشارع الحميم الذي أطلقت عليه البلدية اسم “عبد الحميد بعلبكي”.