بانوراما الحجاب في الجنوب والبقاع.. من المنديل إلى الشادور ثم المنديل
ضمن قانون التجربة والتراكم، انتبهت الشعوب لخاصيّة اللون الأسود في امتصاص حرارة الشمس، كما التفتوا لأهميّة الأبيض في عكس الحرارة، فكان خير خيار للون المناديل في جبل عامل، وبعلبك، حيث للشمس سطوة على جماجم العاملين والعاملات في الأرض، فكان الحجاب للمرأة كما للرجل، حيث كان يغطي رأسه بالحطّة البيضاء، أو ما يقاربها لناحية اللون الناصع العاكس.
بالنسبة إلى المرأة، هو لباس ديني، وتقليدي، لكنه أيضاً بيئي، تحتاجه الرؤوس المنحنية لساعات تحت ذلك القرص الملتهب، الذي لا يغادر قبل الثامنة، أو التاسعة، عند رأس النهار.
قبل أيامنا هذه، كانت المرأة الريفيّة تشتري المنديل على مقياس “الدراع”، فيُقَصّ، ليؤخذ إلى إحدى المختصّات، التي تقوم بـ “تسنينه” كي لا “ينسّل”، فتتشوّه أطرافه.
في حالات كثيرة، كانت تلك النسوة، يرتدين القبّعة القش فوق تلك المناديل، لصدّ ما أمكن من خيوط الشمس، التي تتحوّل حبالاً عند منتصف الظهيرة، فتهدّد الرؤوس بما لا تحمد عقباه، أدناه ضربة شمس، وأقصاه مرض السحايا الذي يأكل بعضاً من مساحات الدماغ.
وقتذاك، إذا ما جلت على القرى، كنتَ لترى التشابه الكبير (ولا نقول التطابق) بين السيدات في جبشيت، ويارون، وعين إبل، وحاصبيا، ورميش، كما في يونين، والفاكهة، ودير الأحمر. تنوع في العقائد، ووحدة في البيئة، إذ تشرق الشمس على الجميع، كما يحلّ البرد عليهنّ.
وقتذاك، إذا ما جلت على القرى، كنتَ لترى التشابه الكبير (ولا نقول التطابق) بين السيدات في جبشيت، ويارون، وعين إبل، وحاصبيا، ورميش، كما في يونين، والفاكهة، ودير الأحمر. تنوع في العقائد، ووحدة في البيئة، إذ تشرق الشمس على الجميع، كما يحلّ البرد عليهنّ
في ستينيات القرن الماضي، تسلّل الميني جيب إلى القرى بخفر، ثم أخذ حيّزه ضمن العائلات الاقطاعية، أو المنتمية إلى الطبقة الوسطى التي قرّرت تعليم البنت كما الصبي. بالتزامن، كانت السينما قد أصبحت مقصداً شيقاً، وراقياً للعائلات، في بعلبك، زحلة، صور، وصيدا، والنبطية، وبيروت، فكانت الافلام المصرية، والاجنبية، نموذجاً لعرض تلك الألبسة المتحرّرة على أجساد النجمات، وتكرّس المشهد مع المسلسلات والبرامج، والأغنيات التي صار يقدّمها التلفزيون، الذي بدأ بالتواجد بخجل في تلك البيوت الفقيرة، ثم انتشر بشدة مطلع السبعينيات.
لأن العلاقة بالدين كانت فطرية، تقليدية، غير معمّقة، كان من السهل على اليسار بأن يتوغّل في عمق تلك القرى، والمدن العامليّة، بل وفي أعماق تلك الرؤوس، حيث كانت هناك ثقافة تقدمية، وسعي ميداني ودؤوب من قبل مثقفي القرى، مِن أساتذة مدارس، وموظفين، وبعض المريدين المتحمّسين ضد الاقطاع، وجميع تمظهراته التقليدية، المغيّبة لأدوار المرأة في المجتمع، فكانت أولى مظاهر الحرية التي نادى بها اليسار، هو خلع الحجاب عند بعض “الرفيقات”، ولو ان الكثيرات أيضاً انتموا إلى تلك الاحزاب، وناصروها دون خلع الحجاب، كونه جزء من الهوية، وقرار كهذا يقارب التعرّي بالنسبة إليهنّ.
في تلك الفترة، لم يكن للإسلام التقليدي أحزاب تؤطّر التصورات، والجهود الفردية، التي بدأت بالتحرّك كردّة فعل بعد هجمة اليسار المسلّحة بالجدالات، والفلسفات، والأرقام الاقتصادية والانمائية. فنشطت حركات تدور في افلاك رجال الدين الذين راحوا يجمعون التبرعات، ويعقدون الحلقات في المساجد، بهدف تقديم الخدمات للناس، كما وإعلاء الصوت المضاد، باتجاه ما سمّوه بالموجة الالحادية. وحتى لا تكون ظهورهم مكشوفة، مال بعض رجال الدين للتيار الناصري، أو الاحزاب العروبية مثل البعث، ومن ثم حركة فتح، حيث وجدوا فيها ملاذاً “نسبياً” في مقابل “الحزب الشيوعي” و”منظمة العمل الشيوعي”، وغيرها من التيارات الماوية، أو التروتسكية.
الصدر والتجاذب مع اليسار
على الرغم من بروز شخصية السيد موسى الصدر، ذلك الرجل الكاريزماتي الآتي من قم إلى صور، إلّا ان امكانياته كانت ضئيلة نسبة للدعم والتمويل، والماكينات التي يتحرك اليسار في اطارها، حيث كانت هناك وسائل اعلام، ومنابر، ومؤلفات، وأناشيد، واحتشاد حول قضية تحرير فلسطين، وكان كل هذا يندرج تحت عباءة المحور الاشتراكي، الذي يحتل نصف الكرة الارضية في تلك الاثناء.
استطاع الصدر اختراق بعض تلك الجدران، وراح ينشط ليل نهار لاستعادة الوجه الاسلامي للقرى، وسكانها، ولم يكن ذلك ليتحقق دون خطاب ديني، حتى لو كان يحمل عناوين منفتحة، واصلاحية. جرّاء ذلك، صار لعقدة الحجاب على العنق بُعداً عقائدياً، إلهياً، على حساب الأثرين: التقليدي والبيئي. إذ صار الحجاب عنواناً بصرياً مضاداً للواقع الجديد، حيث كانت بعض جدران الساحات والبيوت، مزدانة بصور الثائر الارجنتيني تشي غيفارا، ولينين، وماركس، وصولاً إلى أبو عمّار.
بطبيعة الحال، صار “الايشارب” المعقود على الرقبة، بديلاً للمنديل، على خلفية المتغيرات العملية، وكذلك الموضة، والتحوّل الكبير الذي طال دور المرأة في المجتمع، حيث انتقل قسم لا بأس به من نساء الريف الجنوبي والبقاعي، للعمل في مجالات التعليم، ومعامل الخياطة، والتمريض، وغيرها من المجالات، فصار المنديل الابيض، لباساً للجدّات.
من ناحية الحجم، كان الحجاب في سنوات السبعينيات، وبعض الثمانينيات، صغيراً، يسمح لغرّة المرأة بالظهور، وكان يعقد حول الرقبة، مع احتمال رفعه وإعادة ربطه، بما يسمح لاي غريب بمشاهدة الشعر كاملاً، ولم يكن ذلك عيباً آنذاك، أو لم يكن هناك أي التفات لما صار يسمّى شروطاً شرعية فيما بعد
من ناحية الحجم، كان الحجاب في سنوات السبعينيات، وبعض الثمانينيات، صغيراً، يسمح لغرّة المرأة بالظهور، وكان يعقد حول الرقبة، مع احتمال رفعه وإعادة ربطه، بما يسمح لاي غريب بمشاهدة الشعر كاملاً، ولم يكن ذلك عيباً آنذاك، أو لم يكن هناك أي التفات لما صار يسمّى شروطاً شرعية فيما بعد.
بعد سنوات من عمل الامام الصدر تحت عنوان “حركة المحرومين”، وبسبب التهديدات الاسرائيلية الدائمة لقرى الجنوب الحدودية، ظهرت “حركة أمل” في العام 1975 كإسم جديد للمحرومين، وهذه المرة بوجه سياسي وعسكريّ، بالاضافة إلى قضية مكافحة الحرمان، وهو أمر استفزّ جزءا كبيرا
من اليسار الذي كان يشكك بمشروع الصدر منذ البداية.
كانت “كشافة الرسالة الاسلامية” فصيلاً تعبوياً، وتربوياً، تتحضّر فيه الطاقات لحركة أمل، ومعها كانت المدارس والمهنيات، والمؤسسات التي كان الصدر قد أنشأها، ولمّا كان للفتيات الصغيرات، والشابات، الحضور الكبير ضمن تلك الصفوف، كان الحجاب يتمنهج، كنموذج مخترق للفئات الاجتماعية والعمرية كافة، (نموذج حجاب السيدة رباب الصدر)، فتكرّس بشكله المترافق مع اللباس الشرعي، الذي كان عبارة عن لباس فضفاض طويل إلى ما تحت الركبة بقليل، تحته بنطلون، وهو اللباس الكشفي في الوقت عينه.
اختطف الامام الصدر من قبل نظام القذافي في 31 آب من العام 1978، فخلفه النائب (رئيس المجلس النيابي لاحقا) حسين الحسيني في رئاسة الحركة لوقت قصير، ثم كانت الرئاسة للمحامي نبيه برّي، الذي أبقى الحال على ما هو عليه لناحية الوجه الاسلامي المعتدل للحركة في البدايات، لكن الطارئ أتى من خارج السياق اللبناني، حيث نجحت الثورة في ايران بالإطاحة بحكم الشاه محمد رضا بهلوي، في شباط 1979، وكان رجل الدين روح الله الخميني من أبرز رجالات الثورة، فتزعم الحكم، واطلق على الثورة تسمية “الثورة الاسلامية في ايران”، وكانت لتلك الثورة تأثيرات كثيرة على الكثير من البلدان، ومنها شيعة لبنان على وجه التحديد، فبدا الأمر كخلاص ميتافيزيقي، متجاوزاً قسميّ العالم الرأسمالي والاشتراكي، فحصل ما سمّي بالصحوة الاسلامية، وكانت علامات التأثير ثورية وسياسية، لكنها أيضاً سيميائية دلالية، فتضاءلت اللحية الغيفارية، لتبرز الخمينية، وراح الحجاب ينتشر بكثرة بين صفوف الشابات، عنواناً للثورة، والتمرّد، وصار للمرأة الجنوبية صرختها وقبضتها، إنما بمسحة إيرانيّة، غير مباشرة، وستبقى كذلك لثلاث سنوات تالية، حيث حصل انشقاق في صفوف امل، فظهر التيار المتديّن، القريب من ايران، بينما كان بري محسوباً على سوريا.
“حزب الله” هو الاسم الرسمي الذي صار كياناً مستقلاً لهؤلاء المنشقين، فكان الحجاب، وشكله، والحث على ارتدائه، من العناوين المركزية التي اشتغل عليها الحزب، فانتشر في قرى البقاع، الجنوب، حتى في ظل الاحتلال الاسرائيلي، حين كان الاجتياح قد حصل مطلع حزيران من العام 1982، فكانت تلك القماشة الملفوفة على الرأس شكلا من اشكال المقاومة، والتحدّي، حتى غدا غطاء الرأس ذاك لباساً عقائدياً، مرتبطاً بهوية التيار الاسلامي الجديد، بغض النظر عن جانبه الفقهي، فكان رمزاً مثلما كانت الكوفية رمزاً للنضال الفلسطيني.
حجاب الحزب
شيئاً فشيئاً، أخذ حجاب “الحزب” شكله المختلف عن حجاب “الحركة”، فهناك بقي معقوداً تحت الذقن، في حين اختفت الرقبة كلّياً في حجاب حزب الله، الذي أصبح يثبّت بدبّوس عند الخد، بما يكفل بتغطية منبت الشعر، ومنطقة الذقن، بمرافقة الثوب الفضفاض، ذو الالوان الرزينة كالبيج، والرمادي، والزيتي، في حين كان للأسود الحصّة الكبرى مع الشادور الذي اتسعت رقعته، بعد أن كان تاريخياً لباساً لزوجات وبنات رجال الدين. بطرق عدّة جرى تكريس صورة المرأة بذلك الثوب، عبر أعمال غرافيكية، مثل الملصقات، والإعلامية، مثل صفحات جريدة “العهد”، والجدارية، حيث شاعت الرسومات الملونة على الجدران، ليترافق الأمر مع جملة شاعت بكثرة في مرحلة الثمانينيات، هي “أختي المسلمة، حجابكِ أغلى من دمي”، وكان ذلك الشعار مذيلاً بتوقيع، “وصيّة الشهيد”. في مرّة نراها مكتوبة بالبخاخ العفوي، ومرّات هي جملة مطبوعة مع صورة لفتاة محجبة، جميلة الوجه.
شيئاً فشيئاً، أخذ حجاب “الحزب” شكله المختلف عن حجاب “الحركة”، فهناك بقي معقوداً تحت الذقن، في حين اختفت الرقبة كلّياً في حجاب حزب الله، الذي أصبح يثبّت بدبّوس عند الخد، بما يكفل بتغطية منبت الشعر، ومنطقة الذقن
أمّا ميدانياً فيسجَّل قوّة حضور ذلك الثوب في المسيرات العاشورائية، وتشييع الشهداء، وفي تلك المرحلة، صار حزب الله، محط أنظار الصحافة الغربية، فالتقطت آلاف الصور للنساء، وهنّ يرتدين الشادور، والعصبة الملونة فوق الجبين، وهي تحمل شعارات: يا حسين، يا زينب، الله أكبر…
بصمة المرشد الروحي
حين نتحدث عن الهوية البصرية للمرأة الشيعية في لبنان، لا يمكننا التغاضي عن الدور الكبير للسيّد محمد حسين فضل الله، الذي سمّي ذات يوم بالمرشد الروحي لحزب الله، ومن خلاله برزت رمزية منطقة بئر العبد في الضاحية الجنوبية لبيروت، التي صارت بدورها مصبّاً للوافدين من قرى الجنوب والبقاع، وتكون مركزاً “إشعاعياً” لقراهم، حيث لم ينقطعوا عن زيارتها، حتى تحوّلت الضاحية في الثمانينيات خليّة نحل، لناحية الحراك، والتبليغ، والاعلام.
كانت مبرّة الامام الخوئي، التي يشرف عليها السيد فضل الله، نقطة ارتكاز بدورها، كحاضنة للأيتام، وبطبيعة الحال كانت التوجيه الديني، فعلاً يومياً، واللباس الشرعي، أمراً بديهياً، ثم صارت المبرة تابعة للسيد فضل الله، (الذي أُعلِنَت مرجعيته مطلع التسعينيات) وأصبحت هنا أفرع كثيرة للمبرّات، في الجنوب، والبقاع، لتضم الآلاف بين الجسمين الطلابي والتعليمي.
كشافة المهدي
بشكل منظّم غدت “كشافة الامام المهدي”، والمدارس الدينية، منطلقاً رئيسياً لتكريس الحجاب عند الصغيرات، من عمر التاسعة، فصار هناك احتفالات سنوية لمن بلغن هذه السنّ، ليترافق الأمر مع مظاهر بهيجة، وزينة، وإنشاد وحلوى، وتصوير، وقد تفرّع عن هذا الطقس، حفلات التكليف الخاصة، حيث يقوم الأهل بإقامة حفل يدعى إليه الأقارب والأصدقاء، ويتم “تتويج” رأس الطفلة المكلّفة بالحجاب، وفوقه التاج، مع الكثير من مظاهر الفرح، وربما البذخ، لتصبح هذه اللحظة رغبة، وأمنية عند هاتيك البنات، مع “جائزة” ثانية، هي الانتماء الرسمي إلى عالم الكبار، إذ سوف يستتبع ذلك اللباس نمطاً آخر من التصرفات مع المجتمع، وتغييراً في نوع الألعاب وشكلها.
عن “كشافة الامام المهدي” صدرت مجلة للأطفال والناشئة، تدعى “مهدي”، وهي تطبع ما يفوق الخمسين ألف نسخة، لتوزّع على الكشفيين، والكشفيات، ومن نافل القول ذكر أهمية المجلة من ناحية تقديم النموذج “الكلاسيكي” و”الطبيعي” للعائلة المسلمة، عبر رسم الجدة بالحجاب، وكذلك الأم، والإبنة، وجميعها بالألوان الزاهية، وهو أمر سبقتهم إليها مجلة “أحمد” التي تصدر عن دار الحدائق، التي تشرف عليها الحاجة نبيهة محيدلي، زوجة السيد علي فضل الله، إبن المرجع محمد حسين فضل الله.
دور تلفزيون المنار
مطلع التسعينيات بدأت شاشة “المنار” بثها التجربي، لتكون القناة الناطقة باسم حزب الله، وبطبيعة الحال، كان الحجاب عنصراً بصرياً ضرورياً عند المذيعات. بعدها ظهر الحجاب في المسلسلات التي انتجها “مركز بيروت” الذي يدور في فلك المنار، فكانت المرأة المحجبة، بطلة في جميع تلك الاعمال، مثل “الغالبون”، و”قيامة البنادق”، وكانت هناك عناية خاصة بالصغيرات المحجبات ضمن البرنامج اليومي المخصص لهم “المنار الصغير”، وبعد سنوات كثيرة تم إطلاق قناة متخصصة بالاطفال هي قناة “طه” ومن خلالها شاهدنا الحجاب على رؤوس بطلات الأناشيد، الحقيقيات، أو حتى تلك المنفذة بتقنية “الانيميشن”.
مع انطلاق شاشة “المنار” كان الحجاب عنصراً بصرياً ضرورياً عند المذيعات. بعدها ظهر الحجاب في المسلسلات التي انتجها “مركز بيروت” الذي يدور في فلك المنار، فكانت المرأة المحجبة، بطلة في جميع تلك الاعمال، مثل “الغالبون”، و”قيامة البنادق”، وكانت هناك عناية خاصة بالصغيرات المحجبات ضمن البرنامج اليومي المخصص لهم “المنار الصغير”، وبعد سنوات كثيرة تم إطلاق قناة متخصصة بالاطفال هي قناة “طه” ومن خلالها شاهدنا الحجاب على رؤوس بطلات الأناشيد، الحقيقيات، أو حتى تلك المنفذة بتقنية “الانيميشن”
التغيير الذي أحدثته وسائل التواصل
بعد كل هذا التحوّل، من مرحلة المنديل في سياقه السيسيولوجي، حتّى الحجاب بنموذجه الايديولوجي، نستطيع القول ان غطاء الرأس قد بلغ ذروته التعبوية في العشرية الأولى من مطلع القرن الواحد والعشرين، إلى أن بدأت وسائل التواصل الحديثة، تطل برأسها، عبر “الفيسبوك” بشكل رئيسي، حيث تأسس لسنوات من الانفتاح، والتلاقح، بجميع اشكاله الايجابية والسلبية، فبدأت بعض علامات التغيير في صورة المرأة، وبروز أناها المستقلة، التي يتشعب منها آراؤها في السياسة، والدين، والمجتمع، والطعام، واللباس، وما يعرض من برامج، والجديد من الاغنيات. لم يكن هذا ضد الحجاب، او معاكساً له، بقدر إعادة هندسته لهوية المرأة الشرقية عموما، والجنوبية والبقاعية بطبيعة الحال.
مع محرّك البحث “غوغل”، جاء اليوتيوب، كثورة على شاشة التلفاز، حيث عرض الفيديوهات، بشكل حرّ، واستتبعه تطبيق الواتس أب، لنصل إلى جنون “التيك توك”، ذلك التطبيق الصيني الذي اجتاح المشهد الاعلامي البديل، لنشاهد المحجبات العربيات، في مقاطع راقصة، وغنائية، وبعضها فيه البوح ذو الطابع الفضائحي، بل والإباحي في أحيان ثانية!
هكذا صار للبقاع والجنوب، “النجمات” المحجبات، اللواتي يقدمن موادهن الخاصة، بسخرية، أو بجدية، وفي الحالتين، درّ عليهن التيك توك أموالاً لا بأس بها من خلال البث المباشر، وفيه ما فيه من الاختلاط مع “نجوم” من بلدان ثانية، وشروط يطلبها المشاهد المتبرع بالمال.
هكذا صار للبقاع والجنوب، “النجمات” المحجبات، اللواتي يقدمن موادهن الخاصة، بسخرية، أو بجدية، وفي الحالتين، درّ عليهن التيك توك أموالاً لا بأس بها من خلال البث المباشر، وفيه ما فيه من الاختلاط مع “نجوم” من بلدان ثانية، وشروط يطلبها المشاهد المتبرع بالمال
قبل كل هذا، ومع صعود شخصية رفيق الحريري، بما فيها من مشاريع واستدانات، ومراهنات، كانت هناك سنوات البحبوحة النسبية في لبنان، ومال الاغتراب الذي ظهر جلياً في القرى والمدن الشيعية، فتضخمت مظاهر الترف، وأخذ الحجاب بالانحسار عن الكثيرات، من غير المؤدلجات، فصار مجرد غطاء رأس، لا يمنع ارتداء البنطال، أو الثوب الضيق، ولا الميك آب، والاكسسوارات، ليفقد ذلك الحجاب كنهه الديني، ولا يقارب ذلك التقليدي، ولا حتى البيئي، ليكون “التوربان” هو الحلّ عند بعضهن، وهو عبارة عن “تحجيبة” للرأس، تشبه تلك التي ترتديها السيدة رندى برّي. لكن الموضة اليوم، منحازة أكثر إلى المنديل، وهو وإن تشابه بالإسم، مع منديل الجدّة، إلّا انّه يقدَّم اليوم بحلّة مختلفة، لناحية الألوان، وطريقة إلقائه على الرأس، ومنه الماركات الفاخرة، حيث يصنّع من الحرير، وهذا قاسم مشترك مع الحجاب العقائدي، الذي لم يكفّ عن الانتشار بدوره، غير انه صار لباساً طبقياً بشكل لا يمكننا تجاوزه كمؤشر على نمو الطبقة البرجوازية في الحالة الاسلامية في الجنوب وبعلبك، والهرمل.