بعد خمسين عامًا غزّة تحيي “أناديكم” و”ليفا بالستينا”

“لينا كانت طفلة تصنع غدها، لينا سقطت لكن دمها، كان يغنّي، للجسد المصلوب الغاضب، للقدس ويافا وأريحا، للشجر الواقف في غزّة…”، كلمات غنّاها الفنّان اللبنانيّ أحمد قعبور، تحيّة إلى فلسطين، وابنة نابلس، لينا حسن مصباح النابلسيّ، ذات الخامسة عشر ربيعًا، الخارجة من مدرستها، بكامل “عتادها” مِن كتب ودفاتر وأقلام، ليطلق الجيش الإسرائيليّ النار عليها، ويرديها على الفور.

كان ذلك في السادس عشر من أيار العام 1976، حيث كانت في نابلس تظاهرة شعبيّة، فاحتمت التلميذة الطفلة في ورشة حدادة حتّى هدأ الرصاص، ثمّ هرعت في طريق يودي إلى بيت رفيقتها، كي تنتظر هناك، حتّى تعود إلى منزلها عندما تطمئنّ إلى انتهاء الأحداث.

لكن رأيًا آخر كان لذلك الجنديّ الذي تعقّبها، مصوّباً فوّهة بندقيّته نحوها متعمّداً قتلها، لتسقط مضرّجة بدمها، بينما نظّارتها ملقيّة على الأرض، وثوبها المدرسيّ مخضّب بالأحمر القاني وبعض الغبار. ولينا تلك، كانت محبّة للتمثيل المسرحيّ باللغة الانكليزيّة، إضافة إلى شغفها بالكتابة والتطريز. هي القصّة الأمثل والأكمل لحكاية الوحش، والتلميذة. ذروة البربريّة، ومنتهى البراءة.

الشهيدة لينا حسن مصباح النابلسي

في ذلك الزمان، ضجّت الإذاعات والصحف بتلك الجريمة، وأصبحت لينا قصيدة يكتبها الشاعر الجنوبيّ حسن ضاهر، ويغنّيها أحمد قعبور، وكانت كذلك أغنية من كلمات الشاعرة فدوى طوقان، بصوت الشيخ إمام. آنذاك لم يحتاج الأمر سوى لتلميذة شهيدة، حتى تتحرّك الأقلام، والأوتار، والألوان، والعدسات، لصياغة ذلك الجرم، بآفاق إبداعيّة، تنطلق من الحدث اللحظويّ، لتصله بالقضيّة الأكبر.

الاغنية السويديّة “Leve Palestina”

نسأل اليوم، كم ألف حكاية مختبئة في ذاكرة الركام في غزّة؟ وما مِن حبر يكفي لوصف ما جرى، ويجري، وما مِن مغنّين يصدحون بتلك الأسماء الحُسنى لأطفال ابتلعهم الرماد. المفارقة أنّ الأغنية الأكثر شهرة التي غلّفت الحرب على غزّة، هي سويديّة عنوانها “Leve Palestina”. أغنية أنشدت منذ أكثر من خمسين عاماً! وهي لمؤلّف فلسطينيّ يُدعى جورج توتاري، كان قد هاجر إلى السويد، وأسّس هناك فرقة “كوفيّة”، انتجت أربعة ألبومات حتّى اليوم، وجميع تلك الأغنيات تحاكي القضايا المرتبطة بفلسطين، والإنسان ككائن حرّ، له حقوق.

تحوَّلت تلك الاغنية السويديّة “”Leve Palestina  إلى نشيد يردّده المتظاهرون والمحتجّون في كلّ العالم نصرة لغزّة، واحتلّت التطبيقات الأشهر، من “فيسبوك”  إلى “تيك توك”، و”تويتر” (إكس)، وتدلّ نسبة منصّات الـ”سوشيال ميديا” هذه على أنّهم بالملايين.

فرقة “كوفيّة”

اليوم، تجاوز جورج توتاري السابعة والسبعين من عمره، وهو غير مصدّق لمقدرة اغنية قديمة على النهوض، والتوسّع الأفقيّ في المسامع، بين ليلة وضحاها. ولد توتاري في حيّ الناصرة، حيث ظهرت روحه الفنّيّة الموزّعة بين الكتابة والغناء، ليستكمل مسيرته في السويد، تحديدًا في مدينة غوتنبرغ، حين هاجر إليها في العام 1967، لتكون أولى أغنياته عن مذابح كفر قاسم ودير ياسين.

يسارٌ وانعطاف و”أناديكم” لكلّ زمن

في الموازاة، وفي نطاق زمانيّ ومكانيّ آخرين، وظروف مختلفة، أطلّ أحمد قعبور مع بداية الحرب الأهليّة اللبنانيّة، سنة 1975، بأغنية “أناديكم” التي كتبها الشاعر الفلسطينيّ توفيق زيّاد، ثم استتبعها بمجموعة أغنيات ذات أبعاد فلسطينيّة، بكلّ ما لفلسطين من رمزيّات متعدّدة، لناحية المادّة المكتوبة، أو الشاعر الذي كتبها، وتحديدًا محمود درويش الذي غنّى له قعبور قصائد عدّة، من بينها “أحنّ إلى خبز أمّي”، التي أعطاها لحنًا مختلفًا عن لحن مارسيل خليفة وقد نال لحن الأخير الشهرة الأوسع.

ولد قعبور في بيت بيروتيّ تقليديّ، سوى تلك الكمنجة الحاضرة كقطعة رئيسة من أصل أثاث المنزل، فوالده أمين محمود الرشيدي، أحد أشهر العازفين في بيروت، فكان خير ناصح لابنه بعدما ظهرت ميوله الموسيقيّة في وقت مبكر، انطلاقًا من النشاطات المدرسيّة.

أطلّ أحمد قعبور مع بداية الحرب الأهليّة اللبنانيّة، سنة 1975، بأغنية “أناديكم” التي كتبها الشاعر الفلسطينيّ توفيق زيّاد، ثم استتبعها بمجموعة أغنيات ذات أبعاد فلسطينيّة.

وكانت نصيحة الأب بأن يكون أحمد في الطليعة دومًا، وحقّق حلم والده من لحظة انطلاقته مع “أناديكم”، إذ غنّاها بعد تشبّعه بالروح الثوريّة، ذات العمق اليساريّ، مع لجان العمل الطلابيّ، التابعة لمنظّمة العمل الشيوعيّ. كان أحمد قعبور كادرًا في هذه اللجان، في منطقة طريق الجديدة، حيث راح ينشط في المنطقة، خارج الإطار المدرسيّ، وفي الوقت عينه اتّجه للدراسة في دار المعلّمين والمعلّمات لإعانة والده في تحمّل أعباء مصاريف المنزل.

في حينه، لم تكتفِ أذن قعبور بما تسمعه من معزوفات الوالد، وتلك التي يجود بها الراديو، بل أعطى حيّزًا للأغاني الفرنسيّة، ليتعمّق ببعض الأصوات والأغنيات مع شارل أزنافور وغيره من الكبار. في المدرسة كان للاستاذ سليم فليفل دور في بلورة هويّة أحمد قعبور الفنّيّة، كون فليفل من روّاد الإنشاد في لبنان، وكان اختياره قد وقع على أحمد وبعض رفاقه في المدرسة ليشاركوا في تسجيل الأناشيد في الاذاعة اللبنانيّة. هناك غرفت حواس الفتى من كلّ ما شاهدته وسمعته.

في إحدى نوبات الحراسة، ضمن نشاطه الحزبيّ، وقعت عينا قعبور على قصيدة توفيق زياد، فسارع  إلى تلحين مطلعها، ثم أكملها في ما بعد، ليعرضها على غازي مكداشي مؤسّس فرقة الكورس الشعبيّ.

أحمد قعبور

ثمّة انعطافة دمغت مسيرة قعبور، عند تحوّل الواجهة الفنّيّة نحو مشروع (الرئيس) رفيق الحريري، فكانت سلسلة أغنيات وفواصل “لعيونك” التي بثّها تلفزيون المستقبل ليل نهار، لم يسلم صاحبها من سهام النقد تجاه التحوّل من الماضي اليساريّ إلى صلب المشروع الرأسماليّ. على الرغم من ذلك، لم ينقطع قعبور عن الأغنية الملتزمة، ولم ينسَ فلسطين، ولم يتنكّر لماضيه، خصوصًا مع عودة أنّه موسوم بـ”أناديكم”، و”نبض الضفة”.

إلى الواجهة بعد خمسين عامًا

مع ملحمة الدم والبارود والرماد في غزّة، عادت أغاني قعبور إلى الواجهة، لتكون خلفيّة لتلك المشهديّات في الفيديوهات ومقاطع الأفلام القصيرة على الشاشات ووسائل الإعلام البديل، خصوصًا تطبيق “تيك توك”. الأمر عينه حصل مع جورج توتاري، إذ نهضت اغنيته من كبوتها، لتتصدّر الواجهة العالميّة.

خمسون عامًا من التراكمات، والأحداث، والاتفاقيّات المغمّسة دائمًا بالمجازر والمذابح والاعتداءات، غير المنقطعة، ثمّ العودة  إلى التسويات والمصالحات والتواقيع، فالمجازر! حلقة من الجحيم العبثيّ في صندوقة الفرجة “العالميّة” التي قفزت مع أحداث غزّة الأخيرة، قفزة نوعيّة، إذ تجاوزت القضيّة الفلسطينيّة بأبعادها المختلفة، والتي عانت طويلًا من التعتيم والتهميش، “البروبّاغندا” الإسرائيليّة والعالميّة التي كانت سائدة طوال 75 عامًا، منذ النكبة، ومعها عادت لتطفو الثقافات المتنوّعة التي شارك في إرسائها طويلًا حشدٌ من الشعراء والمنشدين والأدباء والكتّاب والإعلاميّين، فعادت الحماسة في موازاتها إلى الأغنية الثوريّة، إلى “أناديكم” و”ليفا بلاستينا”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى