بعلبك في الأغاني بين زمنين.. من “أنا شمعة على دراجك” إلى “راسي بعلبكي”!

“بعلبك / يا قصّة عزّ عليانة / بالبال حليانة / يا معمّرة بقلوب وغناني”. هكذا خاطبت فيروز مدينة الشمس، في أغنية “بعلبك أنا شمعة على دراجك”، من كلمات وألحان الأخوين رحباني. لم تكن فيروز غريبة عن بعلبك، فقد سطع نجمها ومعها الأخوين رحباني بعد مشاركتهم في مهرجان بعلبك لأول مرة عام 1957، حيث توالت بعدها المهرجانات من بعلبك إلى دمشق إلى مسرح البيكاديلي وصولًا إلى المسارح العالمية.

استطاعت المدينة بدءًا من خمسينيات القرن الماضي، أن تحجز مكانًا لها في الساحة الفنية العالمية، من خلال مهرجانات بعلبك الدولية التي بدأت عام 1955 وما زالت مستمرة حتى اليوم، وكانت استضافت هذه المهرجانات نخبة من المشاهير والفنانين والمطربين العالميين، وأيضًا أشهر الفرق الفنية العالمية، لذلك ارتبط اسمها بالأصالة والفن والحب، تجلّى ذلك من خلال ذكرها في العديد من الأغاني التراثية، وإيلائها اهتمامًا كبيرًا من قبل الفنانين الذين غنوا لأبنائها وجدرانها.

فيروز في مهرجانات بعلبك
بعلبك في الأغاني التراثية

غنّت فيروز لبعلبك العز، والجمال، والمدينة التي بُنيت بعامودين اثنين هما الأغاني والقلوب المُحبة، والتي ظلت تعنّ على البال، متى ما زرت المدينة مرة، ستظل في ذاكرتك، سيعيدك الحنين إلى أرضها وليلها وطربها. “هون نحنا هون / لوين بدنا نروح / يا قلب يا مشبّك / بحجارة بعلبك / عالدهر / عَ سنين العمر”.

كانت بعلبك في الأغاني القديمة مكانًا يقصده الناس حبًا بحجارة المدينة العتيقة، التي يتّسع صدر منازلها للجميع من كل حدب وصوب، وبقلعتها التي حملت في كل زاوية منها حكاية إرث عتيق، من حكايا الرومان الذين ركنوا إلى هذه المدينة ما قبل التاريخ.

“وضو القمر مشلوح ع أهلنا الحلوين”. وقد وصفت فيروز أبناءها بـ “أهلنا الحلوين”. كان أبناء المدينة بمثابة الأهل، وكانوا محبوبين من قبَل الغرباء الذين يشعرون بالإلفة كلما حلّوا بضيافتهم.

غنّت فيروز لبعلبك العز، والجمال، والمدينة التي بُنيت بعامودين اثنين هما الأغاني والقلوب المُحبة، والتي ظلت تعنّ على البال، متى ما زرت المدينة مرة، ستظل في ذاكرتك، سيعيدك الحنين إلى أرضها وليلها وطربها. “هون نحنا هون / لوين بدنا نروح / يا قلب يا مشبّك / بحجارة بعلبك / عالدهر / عَ سنين العمر”
تاريخ وعراقة

على مدى عصور، ومنذ إنشائها، وقع الاختيار على بعلبك لتكون مدينة الآلهة والمعابد والطقوس الدينية. بنى الفينيقيون أول هيكل لعبادة إله الشمس “بعل” في المدينة أوائل العام 2000 قبل الميلاد، ومن ثم قرر الرومان تحويل هذا المركز للعبادة، فباشروا ببناء المعبد أو القلعة كما نعرفها الآن من خلال آثارها الحالية.

بالإضافة لذلك، يوجد في مدينة بعلبك الكثير من الآثار الأخرى التي تجذب الزوار إليها، مثل كنيسة القديس “جاورجيوس” الأرثوذكسية، ومطرانية الروم الملكية الكاثوليكية، وكاتدرائية القديسين بربارة وتقلا، إضافةً إلى بعض القباب وأهمها قبة دورس وقبة الأمجد اللتان تعودان إلى العصر الأيوبي، وقبة السعدين التي تقع بالقرب من البوابة الرومانية. لذلك قالت فيروز في أغنيتها الشهيرة “وللدني نحكي حكاية إلهية وبعلبك بهالدهر مضوية”.

صورة لبعلبك أيام العز في الخمسينيات من القرن الماضي
يا قلبي لا تتعب قلبك

أقحمت فيروز بعلبك في أغاني أخرى فولكلورية، كأغنية “لوح منديلك” التي كتبها منصور الرحباني، وغنتها رفقة الراحل المطرب نصري شمس الدين، فعادت إلى بعلبك بعد عشرين عامًا، لتسأل العابرين إن كان أحدهم قد التقى بمحبوبها الضائع، ليدلها عليه، وقد استقبلتها الخيول البيضاء، بدلالة إلى حسن الاستقبال والكرم. وكذلك فعلت في قصيدة الحب التي كتبها الأخوين رحباني بعنوان “يا قلبي لا تتعب قلبك”، والتي من خلالها أكدت أن القلب مهما غاب فإن مصيره العودة إلى “دراج” بعلبك، بعزمٍ ويقين لا شبه فيهما.

لم تكن فيروز وحدها من غنت لبعلبك في الماضي، فقد كان لمشمش المدينة نصيب من الذكر في أغنية “عالليلكي” للمطربة “صباح” ، التي غنتها بين أعمدة القلعة بألحان الأخوين رحباني أيضًا. “مشمش بعلبك ما استوى ولولا استوى جبنا لكِ”. كان مشمش بعلبك مشهورًا بجودته، وقد اختارته صباح كهدية ثمينة ينبغي أن تُقدم طازجة وناضجة، لا تؤكل قبل أن تنضح بكل حلاوتها ومذاقها. غنت صباح هذه الأغنية على العديد من المسارح في لبنان والعالم العربي، فصار المشمش البعلبكي معروفًا، حتى لمن لم يزر لبنان ولم يعرف بعلبك بعد.

كان لمشمش بعلبك نصيب من الذكر في أغنية “عالليلكي” للمطربة “صباح” ، التي غنتها بين أعمدة القلعة بألحان الأخوين رحباني أيضًا. “مشمش بعلبك ما استوى ولولا استوى جبنا لكِ”

ظلت بعلبك حاضرة في الأغاني حتى العقد الماضي، بالدلالة عينها، الحب والأمان والكرم. فقد غنى ملحم زين، وهو ابن المنطقة الفخور بها أغنية “ع بعلبك جينا” عام 2016. غنى للقلعة التي وهبت إلى المنطقة حنانًا وإلفةً، وطلب منها الأمان لضيوفها. وكذلك أصدرت الفنانة اللبنانية تانيا صالح أغنية “يا بعلبك” عام 2015، تزامناً مع الذكرى الستين لانطلاق مهرجانات بعلبك الدولية. وعام 2011، أصدر الفنان اللبناني هشام الحج أغنية مع الفنانة المصرية أمينة، يتباهى فيها كل واحد بما تمتلك بلاده من معالم شهيرة وفنانين ومناطق، وكان لبعلبك نصيبها من الفخر اذ اعتبرها هشام “أم اللبنانين”.

الفنانة الراحلة صباح في بعلبك
الوجه الجديد للمدينة

في السنوات الماضية، ومع تردي الأوضاع الاقتصادية والأزمات والفلتان الأمني من جهة، ومع تنامي السياحة الدينية من جهة أخرى، تغير طابع المدينة، وأصبحت الصورة الشائعة عنها أنها ملجأ للسلاح المتفلت والعدوانية، ومنطقة ينبغي توخي الحذر قبل التوجه إليها، كما فقدت بريقها الفني، وقد أثّر ذلك على مهرجانات بعلبك الدولية التي لم تعد تستقطب الجماهير بالشكل الذي كانت عليه في العقود الماضية، رغم محاولة القيمين عليها الحفاظ على صورتها وقيمتها، والاستمرار بإحيائها رغم الصعوبات والعقبات.

كان لهذا التغيير انعكاسه على اسم المدينة والأغاني التي تُغنى لها، فيمكن ملاحظة موجة من الأغاني التي يطلقها فنانون شعبيون، يستعملون فيها اسم بعلبك للدلالة على التهويل وفائض القوة والعنتريات المصطنعة، وقصص الحب من وجهة نظر الرجل. على عكس النفحة الأنثوية التي أضافتها فيروز للحب في بعلبك، أغلب الأغاني اليوم يغنيها الرجال، أو يعاد غناؤها من قبل مطربات يؤدين بالأصل الفن الشعبي الذي يكرر المصطلحات والتعابير والجمل نفسها، وتتداخل فيه صيغ المتكلم والمخاطب دون إثارة حفيظة المستمع.

“بقاعي من بعلبك، جاي إغزي قلبك، انتي يا بيروتية انا شو بعشق ربك”، هو مطلع أغنية جديدة أطلقها شاب لبناني ملقب بالـ “شحرور”، رددها خلفه المغني البقاعي المعروف “مهند زعيتر” في عديد من حفلاته، وقد تحوّلت إلى ترند على تيكتوك تداوله شبان بقاعيون.

كذلك غنى رامي عبدو أغنية بعنوان “بنت بعلبك”. تتضمن عبارات تهديد بعدم السكوت عن أي تطاول أو أذى قد يلحق بالبقاعيين، وبأن الرد سيكون حاسمًا ولا تراجع فيه. وأصر فيها على أن بعلبك، أو منطقة بعلبك_الهرمل هي دولة قائمة بذاتها. ليختم أغنيته بالقول إن سلاح “بنت بعلبك” ملقّم وجاهز دائمًا.

الفنان عباس جعفر

ولا ننسى الأغنية الأشهر التي أطلقها الممثل عباس جعفر بعنوان “راسي بعلبكي”. وفيها توجه إلى حبيبته، ووعدها بأن يتخلص من كل من يتعرض لها بالمضايقة. بالإضافة إلى سلسلة من الوعود الأخرى المبالغ فيها، بذريعة أنه ابن بعلبك الخارق للطبيعة.

الأغاني مرآة الواقع

هذه الأغاني وغيرها مما يُروّج له ويستمع إليه الجيل الجديد كانعكاس لصورة بعلبك_الهرمل، ركزت بكلماتها على تصوير كل مكامن الخلل في المنطقة، من سلاح وتعدي على الآخرين بالقوة، والتهرّب من سلطة القانون، وغيّبت كل ملامح الجمال والأصالة والشاعرية التي كانت بعلبك عنوانًا عريضًا لها على مدار عقود من الزمن.

في المقابل، لا تزال بعلبك كما غنتها فيروز موجودة، ولا تزال جدرانها وأبناءها على حالهم وإن كل ما يجري اليوم من تشويه متعمد لصورة المدينة، سواء أكان جهلًا من البعض أو عمدًا، تظلّ مرحلة لها خصوصيتها التي ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار، وينبغي العمل على تجاوزها بأسرع وقت ممكن، من خلال رفض وتهميش كل محاولات الإساءة إليها، والتركيز على وجهها القديم الذي لن يقتله تهميش الدولة بمؤسساتها، ولن تلغيه بعض كلمات الأغاني الرديئة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى