بين نيبور المخرّبة وطوفان الأقصى.. التاريخ يعيد نفسه
تعالوا لنتخيلَ شاعرًا مجهولًا، وهو يرثي مدينته ويطوفُ حول الدمار ورائحة الموت والجثث، يرثيها ببضع أبيات شعريّة على إيقاع الدفوف الهادئة. تعالوا لنرجع إلى الوراء، إلى قصيدة “دعاء من أجل نيبور المُخرّبة” التي كتبها شاعر غير معروف في عهد إنليل، حاكم وإله المدينة السومريّة المُقّدسة.
مصادفةً، حينَ فتحتُ كتاب سركون بولص “الهاجس الأقوى عن الشعر والحياة”، رأيتُ ملاحظة لمقدّمة كتبها الأخير بعنوان: الشاعر والخراب. ملاحظة بقيت معي إلى يوميَ هذا، لم أكن أعرفُ أنّها ستكونُ صالحة لجميع هذه الأزمان، كتبتُ مرّة عن هذه المقدّمة: إنّها رائعة ومروّعة.
يسردُ سركون في هذه المقدّمة أنَّ الإله إنليل، خان عهده بحمايةِ نيبور، المدينة السومريّة المقدّسة من قوى الشرّ والدمار. لقد نفّذَّ فيها مرسوم المجتمع الإلهيّ، حتّى لو كان معنى ذلك تسليم هذه المدينة المقدّسة إلى أعداءٍ لا يرحمون.
مرَّ أكثرُ من عامٍ على الطوفان في مدينة غزة، ولبنانَ أيضًا، كذلك مرّت آلاف السنين على طوفان نيبور الذي دمرّها وحلّل بيوتها وانهارت، لأنّها كانت مبنيّة من الطين واللّبن. يصفُ سركون أنَّ النساء اللواتي بقينَ أحياء ذهبنَ للبحث عن جثث أحبّائهنَّ وسط الخراب الذي يملأ كلّ مكانٍ، وأنَّ الكلاب والحيوانات نهشت أعضاء الرجال والنساء والأطفال، ومن هول المشهد وقسوته، ومن فرط الحزن والخوف، جنّت النساء. ويقول الشاعر في مرثيّته تلك، إنَّ الإله إنليل أدارَ ظهره وتظاهر بالنوم، لئلّا يرى ما حلَّ بالمدينة من دمار وخرابٍ.
وللمفارقة اليوم، فإنَّ هؤلاء الذين أداروا ظهورهم وتظاهروا بالصمود والانتصارات، قد أطاحَ بهم الطوفان أيضًا. كانت هذه هي المفاجئة التي لم يعتادِ التاريخ على سردها، لقد انقلبت اليوم الحكايات، فالطاغي الذي لم ينظرْ من شرفته على مدينته سحقه الطوفان وأماتهُ.
التضحية من أجل اليوتوبيا؟
كثيرةٌ هي الأمثلة التاريخيّة، التي يمكن أخذها لفهم واقع أكبر لـ “اليوتوبيا” بجميع أشكالها، والقرن العشرون خير مثال على ذلك. لقد عمدَ أشعيا برلين، الفيلسوف البريطانيّ المعروف، إلى محاولة تفكيك الرومانتيكيّة الأوروبّيّة، واليوتوبيا وفهم القرن العشرين انطلاقا من فهمه للنازيّة والشيوعيّة وغيرها. وما يجمع هذه الحركات، هو ما يهمّنا في الحاضر، للتطّرق إلى عمليّة طوفان الأقصى: إنّها اليوتوبيا.
وكما هو معروف فإنَّ اليوتوبيا تنطوي على تعقيدات كبيرة، لا يمكن اختصارها بتعريفٍ كلاسيكيّ، لتكون فقط البلد الخياليّ الذي تطرّق إليه توماس مور في كتابه الذي نشرهُ في العام 1516 بعنوان: “كتاب مفيد وممتع حقّا عن الحكومة المُثلى للجمهورية والجزيرة الجديدة المُسمّاة يوتوبيا”. لن يكون مهمّا العودة إلى جذور هذه الكلمة وتعقيداتها بقدر أهمّيّة تناولها في الوقت الحالي من وجهة نظري على الأقلّ بطريقةٍ مختلفة.
هؤلاء الذين أداروا ظهورهم وتظاهروا بالصمود والانتصارات، قد أطاحَ بهم الطوفان أيضًا. كانت هذه هي المفاجئة التي لم يعتادِ التاريخ على سردها
والأجدر هنا، في حالتنا نحنُ الذين نعيشُ في ظروف معيشيّة غير عاديّة في لبنان، وتحتَ حصارٍ إسرائيليّ دام ولا يزال أكثر من 11 عامًا في قطاع غزّة، نحنُ الذين أردنا تكوين رؤى لحياةٍ أفضلَ وأطول.. أن نسأل:
ما جدوى عمليّة طوفان الأقصى؟
وكما هو معروف منذُ السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، رفعت حماس شعار “تحرير الأقصى”، ليمتدّ إلى الجبهة الجنوبيّة في لبنان، واليوم ليطال لبنان بأكمله في حرب إسرائيل على حزب الله. آمنت هذه الحركات في طيّاتها برسالة يوتوبيّة، تشبه تلك التي ظهرت في احتجاجات باريس عالام 1968 مع اختلاف طبيعتها وغاياتها اختلافًا جذريًّا، والتي حملت وقتها شعار: كُنّ واقعيًّا واطلب المستحيل. لكن هل كانت حقًّا حماس وغيرها واقعيّة، لتطلب المستحيل أصلًا؟
اُعتبرت مقالة “من الشاطئ الآخر” للراديكاليّ الروسيّ ألكسندر هيرزن بمثابة تأبين لثورات العام 1848 التي عُرفت بالربيع الأوروبيّ، ذلك أنَّ شكلًا جديدًا من التضحية البشريّة ظهرت على مذابح الأفكار التجريديّة كالأمّة، التقدّم وقوى التاريخ وغيرها، “فإذا كانت هذه تتطلّب ذبح البشر الأحياء فينبغي الإيفاء بشروطها”.
عقّب أشعيا برلين على هذه المقالة، بمثالٍ لا يمكن تجاوزه حتّى يومنا هذا، أو من المهمّ أصلًا إثارته، حول حقيقة التضحية من أجل اليوتوبيا. إذ يقول أشعيا في هذا السياق: “البيضُ يُكسر، وتتفاقم تكسيره، لكنَّ الكعكة تظلّ غير مرئيّة”، ويضيف إذا كانت هذه التضحية من أجل غايات قصيرة المدى، بخاصّة حينَ يطغى اليأس على حياة الشعوب، ولا بدّ من التغيير فيمكن تبرير التضحيات. لكنّ “الإبادة الجماعيّة من أجل غايات بعيدة المنال، ليست سوى ازدراء بربريّ بكلّ ما يعتزّ بهِ الإنسان الآن وفي كلّ أوان”.
لكنّ الإبادة الجماعيّة من أجل غايات بعيدة المنال، ليست سوى ازدراء بربريّ بكلّ ما يعتزّ بهِ الإنسان الآن وفي كلّ أوان.
مرسوم المجتمع الإلهيّ
في روايته 1984، يقدّم الروائيّ الشهير جورج أورويل مثالًا واضحًا حول محاولة بناء يوتوبيا مثاليّة، تمثّلت في القمع والاستبداد واتّباع أيديولوجيّة الحزب الواحد، وسجن الأفراد في غرفٍ، وتعذيبهم. وخلال حجزهم، كانَ عليهم الاعتراف بحقيقة ورؤية واحدة يفرضها عليهم الأخ الأكبر. وبذلك يحاول أورويل في هذه الروايةِ توضيح كيف يمكن لليوتوبيا أن تقوم على نقيضها، وتصبح ديستوبيا.
وبالنسبة لبعض الفلاسفة، فالتاريخ دراما فيه مناضلون وعنيفون إذا ما استعرنا العبارة من أشعيا برلين. ولا يمكن تحقيق النهايات السعيدة إلّا بالمعاناة المُروّعة والمعارك الدمويّة، ويمكن وصف هذه المرحلة بالدرب الذي قد يفضي إلى التكامل الكلّيّ للبشريّة. لكن هل يمكن اعتبار اليوم موت الآلاف في لبنان، وعشرات الآلاف في غزة هو دليل على التقدّم وعلى الاقتراب من التحرير والقضاء على العدو؟ وهل يمكن الاعتقاد حقَّا بما اقتنع به يومًا كلّ من باول وبّول بوت وتروتسكي وغيرهم، بأنّه “كي نعدّ كعكًا مماثلًا، لا حساب لعدد البيض الذي ينبغي كسره لأجلها؟.
عودةً إلى كتاب سركون بولص الهاجس الأقوى عن الشعر والحياة، فإنَّ الشاعر المجهول في القصيدة، يجبر إنليل الذي صكَّ مرسوم المجتمع الإلهيّ أخيرًا على النظر إلى المدينة التي نكبها الطوفان، لكن لم يذكر سركون قطّ ماذا حلَّ بإنليل بعد أن سلّم مدينته إلى الأعداء، وكيف عبّر هذا الشاعر المجهول عن اللحظة التي رأى فيها إنليل مدينته المقدّسة.
أمّا في حالتنا ومع من تبقّى منهم أحياء، أقصد الذينَ يخاطبون فينا، فربّما تكيّفوا لرؤية كلّ شيء من منظور مشوّه، وكما يقول أشعيا برلين في هذا السياق: فأبسط علاقات الموت الآخذ في الاقتراب سوف تبدو دليلًا على التعافي والتقدّم. وأضيف: وعلى الانتصارات التي لا تنتهي.